هل تلعب قائمة الائتلاف الموحد الدور المحوري في السياسة العراقية المقبلة؟ وهل يكون نفوذها مرادفا للنفوذ الشيعي؟ ما احتمالات إقامة دولة دينية؟ لماذا يعتبر البعض أن تحالف الأحزاب الكردية هو الرابح الأول؟ إلي أي مدي يمكن أن تلعب دورا أساسيا في صياغة مستقبل الدولة العراقية ومعارضة قيام دولة دينية؟ ما أثر نتائج الانتخابات علي حسابات قيادات طائفة السنة؟ هل تدفع إلي إعادة صياغة موقفها؟ وهل يكتمل أي نظام سياسي عراقي دون مشاركة السنة؟ ما احتمال أن تدفع التعددية الدينية والقومية في العراق إلي اتجاه الاعتدال؟
في الإجابة عن هذه الأسئلة المهمة, يجتهد مقال اليوم, من وجهة نظر كاتبه, في تحليل مدلولات نتائج الانتخابات العراقية.
بدأت ملامح العراق الخارج من انتخابات الثلاثين من يناير في التكشف, وبات واضحا أن العراق الجديد سوف يختلف جذريا ليس فقط عن عراق صدام حسين, وإنما أيضا عن العراق الذي عرفناه منذ تكونت دولة العراق في العشرينيات من القرن الماضي. ففي العراق الجديد سوف تشغل قوي طائفية وقومية, طالما جري اعتبارها هامشية, موقع القلب في الساحة السياسية العراقية الجديدة, وسوف يكون علي طوائف العراق وقومياته المختلفة أن تتفاعل فيما بينها هكذا وبصراحة علي شكلها الخام, دون مواربات ومسميات تخفي الجوهر الاجتماعي الذي بات طائفيا وقوميا, أو تخفف منه بعد أن أجهزت عقود القمع والدكتاتورية علي الهوية الوطنية العراقية التي أخذت في التشكل طوال النصف الأول من القرن العشرين.
فقد فازت قائمة الائتلاف العراقي الموحد, ذات التوجه الشيعي, بالكتلة الأكبر من مقاعد الجمعية الوطنية العراقية, بعد أن حصلت علي48.1% من أصوات الناخبين, بما يؤهلها للفوز بأكثر قليلا من135 مقعدا من مقاعد الجمعية الوطنية البالغ مجموعها275 مقعدا, ويتكون القوام الرئيسي والعمود الفقري لهذه القائمة من أحزاب شيعية دينية صريحة, مثل المجلس الأعلي للثورة الإسلامية وحزب الدعوة, ومن تنظيمات شيعية طائفية غير دينية مثل المؤتمر الوطني العراقي, وقد حظيت هذه القائمة بدعم السيد علي السيستاني, بل إنه لعب دورا مهما في تشكيلها وصياغتها علي هذا النحو, دون أن يكون قد تورط بالضرورة في بناء التحالفات بين أعضائها, أو في ترتيب مواقعهم داخل القائمة.
وسوف يكون لقائمة الائتلاف العراقي الموحد بفوزها الكبير, وبحكم تمثيلها للشيعة الذين يمثلون القسم الأكبر من شعب العراق, أن تلعب دورا محوريا في السياسة العراقية في الفترة المقبلة, ومع أن دور الشيعة في السياسة العراقية سوف يتعزز في المرحلة المقبلة, وهذا أمر طبيعي ليس له أن يثير حفيظة أحد, فإن النفوذ الشيعي لن يكون مرادفا بالضرورة لنفوذ قائمة الائتلاف, التي هي في التحليل الأخير خليط غير منسجم من أصحاب التوجهات والرؤي المختلفة, والتي لم يجمعها سوي الرغبة في تأمين نفوذ الطائفة الشيعية. فقد بدأت مظاهر التنافس بين مكونات الائتلاف حول المناصب الرئيسية في حكومة العراق المقبلة, خاصة منصب رئيس الوزراء الذي يتنافس عليه ثلاثة من أبرز قادة قائمة الائتلاف وهم عادل عبدالمهدي من المجلس الأعلي للثورة الإسلامية, وحسين الشهرستاني المستقل المقرب من آية الله السيستاني, وأحمد الجلبي من المؤتمر الوطني العراقي.
وبقدر ما قد يحتدم الخلاف بين الأطياف المكونة لقائمة الائتلاف العراقي الموحد, كلما وجد السيد علي السيستاني نفسه مضطرا لمواصلة دوره في رعاية القائمة وصيانة وحدتها, بعد أن لعب دورا مهما في تشكيلها, ولعل هذا يمثل واحدا من أشد المخاطر التي يتعرض لها الوضع العراقي, فأوجد حالة يتواتر فيها التدخل المباشر لرجال الدين في الحياة السياسية ربما قاد العراق تدريجيا إلي نوع من الدولة الدينية, وهو التطور الذي قد يصعب تجنبه إذا مالت القوي السياسية الشيعية لتكرار لجوئها للزعامات الدينية لحسم الخلافات فيما بينها, ولكسب نفوذ إضافي لدي جماهير المتدينين, وهو ما لجأ له بعض أطراف الائتلاف الوطني العراقي إبان الحملة الانتخابية.
الأكراد هم ثاني أكبر الرابحين في هذه الانتخابات, بعد أن فازوا بنسبة تزيد قليلا علي26% من مجموع الأصوات, وبما يؤهلهم لاحتلال أكثر من72 مقعدا من مقاعد الجمعية الوطنية, بل إنه من الممكن اعتبار تحالف الأحزاب الكردية الرابح الأول في هذه الانتخابات, إذا أخذنا في الاعتبار الدور الذي سوف يكون مقدرا له القيام به في النظام السياسي الناشئ في العراق. فعلي عكس قائمة الائتلاف العراقي غير المتجانسة, تتميز القائمة الكردية بتجانس واتفاق أطرافها, الأمر الذي يتيح لهم التصرف ككتلة تصويتية واحدة في المجلس الوطني العراقي, كما سيجعلهم سندا لا غني عنه لأي حكومة عراقية مقبلة, إذ ليس من المتصور أن تستطيع حكومة عراقية أن تظل مستقرة في حكم البلاد بشكل فعال دون أن تضمن مساندة كتلة النواب الأكراد, خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار ما ينص عليه الدستور العراقي المؤقت من أن المهمة الأولي للجمعية الوطنية هي انتخاب مجلس رئاسة من رئيس ووكيلين, علي أن يجري انتخابه بأغلبية الثلثين, وهو ما يصعب تصور حدوثه دون موافقة الكتلة الكردية, علي أن يقوم المجلس الرئاسي بعد ذلك بتسمية رئيس الوزراء.
وبمجرد إغلاق صناديق الاقتراع بادر الأكراد بطرح مطالبهم علي الساحة السياسية العراقية بحثا عن حلفاء يقبلون بشروطهم, التي تتلخص في أن يذهب أحد منصبي رئيس الدولة أو رئيس الوزراء لشخصية سياسية من الأكراد, بالإضافة إلي نصيب رئيسي من الوزارات الأساسية في الحكومة المركزية, والأرجح أن تذهب رئاسة الجمهورية لشخصية كردية, بسبب تمسك الشيعة برئاسة الوزراء الأكثر أهمية, كما من المرجح توليهم لمناصب وزارية مهمة, بما في ذلك بعض الوزارات السيادية التي طالما استبعدوا منها.
وربما كانت المفارقة هي أن ما قد يبدو أنه مطالب مبالغ فيها من جانب الأكراد يمثل في الوقت نفسه الضمانة الأهم لبقائهم ضمن العراق الموحد, وإضعافا للنزعات الاستقلالية القوية السائدة في أوساط الرأي العام الكردي, وقد عبرت هذه النزعات الاستقلالية عن نفسها في الاستفتاء غير الرسمي الذي نفذه الأكراد في مناطقهم علي هامش انتخابات الثلاثين من يناير, والذي عبرت فيه الأغلبية من المشاركين عن رغبتهم في استقلال كردستان, وبينما لا تتمتع نتائج هذا الاستفتاء بأي صفة قانونية, فإن أهميتها السياسية لا تخفي, وسوف يكون للقيادات الكردية أن تتذرع بنتائج هذا الاستفتاء لتبرير الحصة الكبيرة التي تطالب بها في النظام السياسي العراقي المقبل, خاصة بسبب أهمية هذه الحصة في تهدئة جمهور كردي تراوده الآمال في الاستقلال وممارسة الحق في تقرير المصير.
وسوف يكون علي الأكراد لعب الدور الأساسي في صياغة مستقبل الدولة العراقية, خاصة فيما يتعلق بقضيتي الفيدرالية والعلاقة بين الدين والدولة, فبينما تم إدخال الفيدرالية في الدستور المؤقت استجابة للمطالب الكردية, فإنها تسربت بعد ذلك إلي الوعي العام للمكونات المختلفة للمجتمع العراقي, ليس فقط إلي أوساط السنة الذين بات قسم كبير منهم ينظر للفيدرالية باعتبارها ضمانة في مواجهة هيمنة شيعية محتملة, وإنما أيضا إلي أوساط الشيعة أنفسهم, خاصة بين شيعة الجنوب الذين نمت في أوساطهم نزعة مناطقية قوية تريد أن تحصن النقاء الشيعي النسبي في محافظات الجنوب, بالإضافة إلي الرغبة في الفوز بنصيب أكبر من ثروة العراق النفطية التي ينبع القسم الأكبر منها من حقول نفط جنوب العراق, وبينما سوف يكون من الضروري الفوز برضاء الأكراد عن المحتوي الذي سوف يعطيه الدستور الدائم للفيدرالية العراقية, فإن ما يختاره الأكراد لأنفسهم سوف يترك آثارا عميقة علي مستقبل علاقة المكونات المختلفة للدولة العراقية ببعضها بعضا, وبالحكومة المركزية.
وبالإضافة إلي التماسك والانسجام الذي يميز القائمة الكردية تجاه قضايا الفيدرالية, فإن القائمة الكردية تضم أوسع كتلة معارضة لدمج الدين والدولة. فالطبيعة العلمانية المميزة للحزبين الكرديين الكبيرين غير متوافرة لدي أي كتلة سياسية عراقية أخري بهذا الحجم, الأمر الذي سيجعل الأكراد مصدر المقاومة الرئيسي لطموح قسم لا يستهان به من الشيعة لإنشاء نوع من الدولة الدينية, وبقدر تمسك قسم من مكونات قائمة الائتلاف العراقي الشيعية بمطلب الدولة الدينية, بقدر ما ستتعرض القائمة لمخاطر الانشقاق, وبقدر ما سوف يكون من الممكن تشكل ائتلاف كردي مع المنشقين الأكثر علمانية عن القائمة الشيعية, ومع قوي سنية وأحزاب وطنية وعلمانية صغيرة لتشكيل ائتلاف حاكم بديل, أو قوة معارضة لا يستهان بها, وفي كل الأحوال فإن تحالفا قويا بين الكتلة الكردية والقائمة العراقية التي يرأسها رئيس الوزراء إياد علاوي, التي فازت بما نسبته نحو14% من مجموع أصوات الناخبين, سوف تمثل قاعدة صلبة لمقاومة طموحات الدولة الدينية التي تراود بعض الأحزاب والشخصيات الشيعية.
بكل المعايير فإن السنة هم الخاسر الأكبر في انتخابات الثلاثين من يناير, فبينما حاول هؤلاء تعطيل إجراء انتخابات عامة تسفر عن نظام سياسي يتعرضون فيه للتهميش, فإن مقاطعتهم لانتخابات تم إجراؤها بدرجة عالية من النجاح, كان هو بالضبط ما اقترب بهم من الكابوس الذي حاولوا تجنبه طوال الأشهر العشرين الأخيرة, ولعل اتضاح هذه الحقيقة هو الدافع الذي يقف الآن وراء علامات الاعتدال والاستعداد للحوار التي بدأت في الظهور علي قيادات المجتمع السني في العراق, غير أن إعادة صياغة موقف السنة لا تتم بالسرعة الكافية, وهناك قدر كبير من التردد والتباطؤ, ومع البدء الجدي لعملية صياغة النظام السياسي العراقي الجديد سوف يكون علي السنة حسم خياراتهم في اتجاه تصحيح الخطأ الذي وقعوا فيه عندما قرروا مقاطعة الانتخابات, وسوف يكون عليهم الاختيار بين التحالف مع أغلبية شيعية عربية متدينة, أو مع أقلية كردية علمانية, وهم يدركون في كل الأحوال أنه برغم كونهم أقلية فإن شرعية أي نظام سياسي مقبل في العراق لن تستقيم أو تكتمل بغير أن يسبغوا عليه رضاءهم.
بالطبع فإن علاقات التحالف والتنافس تلك بين قوي طائفية وقومية نقية لن تكون هي الخيار الوحيد المطروح علي العراق, فالأرجح أن التعددية الدينية والقومية المميزة للمجتمع العراقي سوف تدفع أغلب القوي باتجاه الوسط والاعتدال. فالعراق الذي كشف بلا رجعة عن تعددية عميقة لن يكون من الممكن حكمه وفقا للاختيارات المتطرفة لأي قوة اجتماعية منفردة, والمهم هو أن يتحلي قادة العراق الجديد بالحكمة الكافية لتحقيق هذا التحول بأقل قدر من الألم.
التعليقات