..لأنها منذ البدء لم تكن ذات قيمة في المجتمع
اعتبر الإعلام ليس علما ولا يصلح للدراسة الجامعية
سعد المحارب
أحدث الكندي مارشال ماكلوهان، الباحث في الأدب الإنجليزي، تأثيرا بالغا في المسيرة النظرية الإعلامية اللاحقة حين أطلق أفكاره التي كانت أبرزها «أن الوسائل امتداد لحواس الإنسان، وتقسيم وسائل الإعلام إلى باردة وساخنة، وان الوسيلة هي الرسالة»، وبعده بسنوات سيحاول الفيلسوف الفرنسي «دوبريه» تطوير أفكار ماكلوهان من خلال منحها بعدا فلسفيا.
وفي كتاب «الثقافة التلفزيونية.. سقوط النخبة وبروز الشعبي»، يحاول الباحث السعودي عبد الله الغذامي أن يشكل إضافة تطويرية لفهم وتفسير الظاهرة الاتصالية، لكن ليس على طريقة «دوبريه» الفلسفية، وإنما عن طريق ممارسة النقد الثقافي الذي يتعامل مع النص مهما كانت صيغته، حيث يرى المؤلف أن الثقافة مرت بأربع صيغ للتعبير عن نفسها، هي الشفاهة والتدوين والكتابة والصورة ـ وبخاصة التلفزيونية منها ـ وكل صيغة صنعت ملامح ثقافية خاصة بها.
وكانت «الشرق الأوسط» قدمت في 19 سبتمبر (ايلول) الماضي عرضاً موسعاً للكتاب، وتفتح هنا في الرياض مناقشة مع المؤلف لعدد من القضايا الرئيسة التي تناولها:
* لماذا برأيك لم يلق الكتاب أصداء صحافية مثل تلك التي لقيها «حكاية الحداثة» أو «النقد الثقافي» أو «المرأة واللغة» أو حتى «الخطيئة والتكفير»؟
ـ من الصعب أن أحدد أنا لماذا، ولكن اعتقد أن دور الكاتب أن ينتج ويترك الأمر للآخرين. وفي تقديري أن الأصداء الصحافية ترتبط عادة بالرفض، فمعظم الأصداء للكتب التي ذكرت كانت تحمل الرفض أكثر من القبول، فربما أن مستوى الرفض والمعارضة لما طرح في هذا الكتاب كان اقل من الكتب الأخرى، والأغلب أن يثير الرفض ضجيجاً بينما يصحب القبول هدوءاً.
* من عالم السياسة لازار سفيلد، واضع النموذج الاتصالي، كما طرح الباحث في الأدب الإنجليزي مارشال ماكلوهان أفكار أساسية تجاه التلفزيون، وقد أشرت في الكتاب إلى عناية شتراوس وتشومسكي وادوارد سعيد بالظاهرة الإعلامية. لماذا برأيك تظهر كثير من البحوث التي تتناول الظاهرة الاتصالية من أكاديميين في مجالات أخرى؟ هل بفعل قصور المتخصصين في مجال الاتصال الجماهيري؟ أم لشيوع الظاهرة الاتصالية؟
ـ هذه ملاحظة دقيقة، ودعني أعود هنا إلى تجربة شخصية، فقد كنت في بداية حياتي الأكاديمية رئيسا لقسم الإعلام بجامعة الملك عبد العزيز على سبيل التكليف لعدم توفر الشخص المناسب وقتها، فكما تعلم الإعلام ليس تخصصي. ولعل أهم اكتشافاتي حينها أن الإعلام ليس علماً أو معرفة وإنما وسائل وأدوات، وبذلك لا يصلح للتدريس ضمن برنامج الدراسة الجامعية، وإنما الصحيح أن يكون ضمن برامج الدراسات العليا بعد أن يكون الطالب اكتسب خلفية معرفية عبر دراسته لأحد العلوم، ولعل هذا يشرح لماذا معظم النظريات التي تدرسها أقسام الإعلام هي ناتجة بالأساس من علوم أخرى مثل اللسانيات والفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع.
وإذا نظرنا إلى ابرز الإعلاميين في العالم سنجد أنهم في الغالب غير متخصصين، وأنهم تعلموا الوسائل والأدوات الإعلامية واستفادوا من الخلفية المعرفية من تخصصاتهم الأصلية، وانظر إلى الإعلاميين البارزين ستجد أنهم دائماً مدعومون بخلفية معرفية من حقل علمي ما، بينما لو وجد إعلامي خلو من خلفية علمية سيكون عاجزا عن تقديم شيء مفيد، وإن كان ماهرا في القيام بالاتصال الجماهيري، لأنه ماهر على مستوى الوسيلة ولكنه ضعيف على مستوى المضمون.
* ثقافة الصورة
* اعتبرت أن الصورة ستلعب بالإضافة إلى دور الوسيلة دور المرسل والرسالة، والذي أفهمه أن التلفزيون ـ أو السينما أو حتى الصحافة ـ هو وسيلة، وان الصورة جزء من الرسالة، أما ما يتعذر علي الاتفاق معك فيه أن تكون الصورة مرسلاً؟
ـ لنراجع ما يجري، في الأصل كلامك صحيح، ولكن لاحظ انك في العادة لا تعرف مرسل الصورة بخلاف النص التقليدي، فمثلاً في الخطاب الشفاهي، المرسل مباشر وموجود، أما في مرحلة التدوين فإن المرسل هو نائب عن المرسل الأصلي، وفي مرحلة الكتابة أصبح النص يستحضر مؤلفه بالضرورة، ولكن في مرحلة الصورة سقط المرسل، فنحن أمام صورة فقط.
وعلى سبيل المثال صورة محمد الدرة الشهيرة تسكن الذاكرة من دون أن تستحضر المصور، وبالتالي اليوم صورة الدرة هي مرسل بذاتها، كما أنها وسيلة ورسالة، وهذا تغير جذري في آليات الإرسال والاستقبال غير مسبوق في أي مرحلة سابقة.
* يبدو لقارئ الكتاب أن الصورة هي مرحلة رابعة في التعبير ـ بعد الشفاهة والتدوين والكتابة ـ بينما من الثابت أن الصورة بدأت منذ مراحل مبكرة عند الفراعنة والبابليين، فلماذا اعتبرت أن الصورة اليوم تمثل مرحلة جديدة ومستقلة؟
ـ في المراحل الغابرة التي تشير إليها كانت الصورة نقشا، وبالتالي كانت اقرب إلى صيغة التدوين منها إلى صيغة الصورة، فمثلا حين يرسم الشخص صورة غزال، إنما يدون الكلمة، وليست صورة بالمعنى الحاضر اليوم. بكلمة أخرى الصورة القديمة هي مجرد شكل من أشكال التدوين، وهناك كان امتزاج بين عنصرين من عناصر اللغة هما الكلمة والصورة ظلا متلازمين في مرحلتي الشفاهة والتدوين، حيث كانت الكلمة تنوب عن الصورة، وتنوب الصورة ـ النقش ـ عن الكلمة، ثم بدأت الصورة تستقل في مرحلة الكتابة لتتجاور مع الكلمة، ولكن دورها بقي ضئيلا ولا يكاد يكون له أثر إذا قسته بتأثير الكلمة، لكن ما يجري اليوم هو أن الصورة أصبحت هي المؤثر الرئيس في مقابل تراجع تأثير الكلمة، فالكلمة ما زالت قائمة، ولكن الصورة أصبحت عنصرا مهيمنا، مثلما هيمنت الكتابة في المرحلة السابقة مع بقاء الشفاهة والتدوين، الصورة اكتسحت الصيغ الأخرى، ليس بمعنى الإلغاء وإنما بمعنى البروز والهيمنة.
* فهمت من الكتاب أن ظهور التلفزيون ـ ومن ثم الفضائيات ـ هو المسؤول عن السماح بدخول الفئات المهمشة في عالم الاستقبال الثقافي، بينما في رأيي أن عالم الاستقبال الثقافي يتسع منذ البدء شيئاً فشيئاً، فالطباعة أولاً سمحت بدخول عدد كبير من الناس من خلال إمكانية تعدد النسخ، كما اتجهت الصحافة إلى طابع أكثر بساطة من الكتاب لتستهدف جمهوراً أوسع، والإذاعة فتحت الطريق، قبل التلفزيون، للأميين؟
ـ الطباعة كانت تشكل مسارين متضادين، فمن جهة هي تساعد على توسيع دوائر الاستقبال الثقافي من خلال تعدد النسخ، ولكنها في المقابل كانت تساعد على زيادة الفجوة بين القرّاء والأميين، بينما كان الاثنان مستقبلين صالحين للصيغة الشفاهية، بمعنى أن دوائر الاستقبال ضاقت من الشفاهة إلى التدوين، ثم ضاقت أكثر من التدوين إلى الكتابة بفعل الحاجة إلى اللغة والثقافة المطلوبة لتلقي الرسالة، فالصحافة والطباعة وسعت الدوائر ولكن في إطار عام لم يكن ممكناً تجاوزه.
بينما في حالة الإذاعة اختلف الأمر إذ هي تطوير لصيغة الشفاهة، لكن الاستقبال الواسع عن طريق الأذن سبب إرباكاً ثقافياً لأن ما حدث أن الإذاعة سعت إلى تقديم نص كتابي من خلال الإذاعة، بمعنى أن المستمع صار يستمع إلى نص أُعد للقراءة وليس للإلقاء، وفي كل الحالات بدأت الإذاعة في خلق ثقافة سماعية لكن لم يتح لها التجذر بسبب الظهور السريع للتلفزيون، بما افسد على الإذاعة صناعة نمط ثقافي جديد.
وإذا عدنا إلى النص الشفاهي سنجد أننا أمام تلفزيون بدائي، فالمتحدث موجود وكلامه مسموع ويؤدي دورا تمثيليا أثناء الإلقاء، الآن يستعملون كلمة تلفزيون الواقع، الصيغة الشفاهية القديمة هي بدورها صيغة لتلفزيون الواقع، لكن عندما ظهر التدوين ومن ورائه الكتابة حدث تقليص وإرباك لعمليات الاستقبال، وهذا ما قاد إلى طرح مفهوم الاختلاف في انتقال الكلمة من منطوقة إلى مكتوبة بما أحدث فجوة لغوية كبيرة، ولا شك أن الصحافة كانت خطوة في اتجاه تخفيض الفجوة من خلال استخدام الصور.
* «القوة معرفة» مقولة لميشال فوكو تلغي مبدأ الحياد في الخطاب المعرفي، وتعتبر أنه نتاج مؤسسات تلتزم بجعل الخطاب المعرفي في إطار مصالحها. هل توافق على أن حرب الصور الجارية بين ناسخ ومنسوخ هي حرب منسجمة مع هذا الفهم، بمعنى أن القوة صورة؟
ـ بدون شك، ولكن المشكلة أن النسق المهيمن ينشئ معارضته، فالطاغية عادة يخلق معارضة طاغية، والحاكم العادل يخلق معارضة عادلة، وهذه بدورها خدعة نسقية، لأن القوة المهيمنة إذا صنعت في مقابلها قوة معارضة تحمل ذات سماتها احتوتها تاريخياً وعقلياً، فصارت المعارضة مدانة بالقدر الذي تدان به القوة المهيمنة نفسها. إذن فمثلما تصنع القوة صورة فإن المعارضة تخلق صورة ناسخة لصورة القوة، ثم تتوالى حرب الصور التي تدور بين ناسخ ومنسوخ، والمشكلة انه لن يمكن تحليل ما يجري إلا إذا توقف إنتاج الصور، لنصبح في لحظتها أمام نص ملحمي مثل الملاحم الإغريقية التي انتهى أمرها وصرنا نقرأها ونحللها بوصفها مثالا ثقافيا.
* سقوط النخبة
* ثمة حديث متكرر في الكتاب عن سقوط النخب وتراجع دورها القيادي نتيجة لثقافة الصورة، ثم تأكيد على أن انتفاء كون المثقف صوتا للأمة هو الاكتشاف، بمعنى انه كان دائما بعيداً عن تمثيل الآخرين.. فهل النخبة المثقفة منذ البدء لم تكن ذات دور مؤثر والذي جد هو اكتشافها لذلك؟
ـ هذا ما أزعمه بناء على استقراء لصورة المثقف في التاريخ، فمقولات من نوع المثقف روح الأمة والشاعر صوت الأمة والموسيقي ضمير الأمة هي مجرد اختراع من وحي خيال المثقف نفسه، لكن إذا بحثنا عند الأمة التي هو روحها وصوتها وضميرها ستجد أنها لا تفهمه ولا تتواصل معه، وستجده متعاليا عن تركيبات الجماهير التي تشكل الأمة، ولو سألت الجماهير عن الفلاسفة والمفكرين ستجد أنهم لا يعرفونهم فكيف يكونون صوتهم.
وانا اعتقد أننا كنا بحاجة قبل ثقافة الصورة إلى مراجعة هذه المقولات التي تحمل ادعاءات من جانب المثقف، لكن المشكلة أن المراجعة لم تكن متاحة في ظل هيمنة الوسط الثقافي على الكتابة بوصفها صيغة التعبير للمرحلة، وعلى كل حال جاءت ثقافة الصورة لتكشف الحقيقة وتخرجها عن حيز الجدل، فأصبحنا نقارن بسهولة بين مبيعات الكتب والمحاضرات والندوات واستضافة المثقفين في المحطات التلفزيونية وبين الآخرين ونجد أن الفارق شاسع.
وبالتالي نحن مدعوون اليوم للبحث عن صوت الأمة، وقد نكتشف انه لاعب الكرة الذي يسجل الأهداف ويصبح بطلها، أو انه صوت غنائي يعبر عن وجدانها، أو انه زعيم ديني، وحديثي هنا عن كون النماذج غير الثقافية هي التي فعلا تمثل الناس بقطع النظر عن مدى صوابية هذا.
* طالما احتفظ المتلقي بحقوق التأويل خارجة عن الصورة، فإذن ما زال بإمكان اللغة أن تلعب دوراً رئيساً يبدأ من تعزيز الصورة إلى نفيها واتهامها بالزيف، كما احتفظ المحللون وقادة الرأي بدور ليس بالقليل رغم حضور الصورة، وبالتالي وإن سقطت الرقابة على البث لكنها لم تسقط على التأويل، إذ ما زال بوسع اللغة ـ كما الصورة ـ أن تتظاهر بالكشف والإفصاح وتلعب دور التعتيم؟
ـ ما زلت أؤكد أن الصورة بذاتها لغة، وان التأويل هو فعل لغوي، لكن التأويل في السابق حق مقصور على النخبة، أما الآن فالجمهور يستقبل الصورة من دون شرط لغوي ومن دون تأويل، ومن هنا يقوم المستقبِل نفسه بدور التأويل، إذ تحفز الصورة قدرات التأويل الذاتية، ولهذا يتفاوت التأويل، كما أن التأويل أصبح في ثقافة الصورة فعلاً مصاحباً لعملية الاستقبال وليس منفصلاً عنها، إذ يتم تأويل الصورة بطريقة ذاتية ومباشرة وفطرية وصامتة.
والقضية انه تم الاستغناء عن صاحب التأويل لان النص الحديث ـ الصورة ـ ليس بحاجة إلى تأويل، خلاف الحال مع النص القديم ـ الكتابة ـ، فلم يعد احد بحاجة إلى معرفة المرجعيات والسياق والخلفية المعرفية واللغوية لكي يفهم النص الحديث.
أما ما ذكرته عن المحللين، فهذا من أسخف ما يجري، إذ يمثل تشبثاً بالدور النخبوي القديم ومحاولة فاشلة للتمسك بموروثات مرحلة الكتابة، فالمشاهد حين يشاهد خطاب الرئيس الأميركي ليس بحاجة إلى سماع المحللين الذين يعيدون ما قاله الرئيس ويختصرون ويسعون إلى إقناعه بتأويلاتهم.
* ولكنك أوردت حكاية الشيخ عبد الكريم الذي قام بتأويل صورة آرمسترونغ على سطح القمر، الذي اعتبر أن رائد الفضاء الأميركي كان ضحية خدعة من إبليس، ليكون هذا توفيقاً بين معتقده الديني وبين الصورة التلفزيونية، فهل كان الشيخ عبد الكريم برأيك يمارس هذا التأويل لنفسه أم للأتباع؟
ـ أنا أتصور أن الشيخ كان بحاجة إلى أن يطمئن نفسه أولاً، وانه ما زال في حالة طبيعية وان الصورة لم تنجح في هدم معتقداته، إذ يجب أن لا نغفل أن محاولة التأويل الشاطحة لا تسعى بالضرورة إلى التأثير على الناس وإنما تسعى إلى الطمأنة الذاتية وإن بدا لنا غير ذلك.
فإذا نظرت إلى الموضوع من زاوية الشيخ عبد الكريم ستجد أنه إنسان صادق ولديه قناعات راسخة وأتت صورة آرمسترونغ لتهدم هذه القناعات، فقد يكون الشيخ يريد أن يحافظ على المكانة وان يطمئن الأتباع، ولكن قبل كل ذلك هو يريد طمأنة ذاتية.
ولكن التغير الضخم في ثقافة الصورة انه، ورغم جهود الشيخ، ما زال بوسع أتباعه ممارسة التأويل الذاتي، لأن الوصاية التي تقبلها صيغ التعبير القديمة سقطت في زمن الصيغة الجديدة المتمثلة في الصورة، وبذا سقط النخبوي ولم يعد تأويله ملزماً للجمهور.
* هل تعبر المعركة النسقية بأبعادها الثلاثة (التناقض بين المعلن والخاص، الطبقية الذوقية، الغزو الثقافي) ولغة التحريم التي استخدمها العلماني كما استخدمها الأصولي تجاه برنامج «سوبر ستار» أو «ستار أكاديمي» والرفض لنتائج التصويت الحر، عن ضعف القدرة المحلية أو العربية عن التعامل مع التجربة الديمقراطية، وقبول ثقافة التعدد؟
ـ ليس هذا فقط، لكن النتيجة الأهم التي أفرزها «سوبر ستار» و«ستار أكاديمي» أننا كنا نظن أننا نعرف مجتمعنا وكشفت لنا هذه التجارب أننا واهمون، والآن علينا أن نعترف بهذه الحقيقة المرة.
فما تراه من ردة فعل عنيفة وصاخبة تجاه هذه البرامج ليس غضباً من المضامين التي حملتها بقدر ما هو غضب من الجمهور الذي تفاعل مع هذه البرامج ورفض الانصياع للوصاية النخبوية. لقد فوجئت النخبة أن هذه البرامج التي تراها سخيفة وتافهة تحقق نجاحات كاسحة ليس بوسع النخبة لا إلغاؤها ولا منافستها.
بعبارة أخرى، اكتشفت النخبة أنها فقدت قيمتها داخل المجتمع، والواقع أن النخبة لم تفقد قيمتها لأنها منذ البدء لم تكن ذات قيمة في المجتمع، اكتشفت النخبة أخيراً أن الرقابة بمستوياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية لم تكن العائق دون وصولها إلى الجماهير العريضة، وإنما العائق هو في عدم رغبة الجماهير في هذه النخب ومنتجاتها التي لا تعني للجماهير شيئاً.
* النسق الفحولي والمرأة
* اهتمامك بمسألة التأنيث متجذر ومتكرر في «المرأة واللغة» و«ثقافة الوهم» و«النقد الثقافي»، وفي هذا الكتاب تذهب إلى أن المرأة في ثقافة التلفزيون متمثلة لشروط النسق الفحولي. فلماذا لا تنظر للمسألة ببساطة، بمعنى أن المرأة التي تستجيب لما وصفته بالنسق الفحولي إنما تعبر عن ميلها الطبيعي في مقابل ميل الرجل الطبيعي، مثلما يميل بعض الرجال إلى الاحتشام ويقابل ميلهم هذا ميل نسائي مماثل، بعيدا عن افتراضات الهيمنة والقهر والإرغام؟
ـ المرأة ليست مقهورة بهذا المعنى، ولكنها مبرمجة ـ مثل الرجل ـ، والبرمجة تجعلك تقبل على الشيء راضياً مطمئناً، حتى لو لم يكن هذا الشيء هو خيارك العقلي الصحيح، والنسق الثقافي يبرمج الأفراد، وإذا أرادوا التخلص من هذه البرمجة فلا بد من إدراك البرمجة ثم الإعلان عنها ثم البحث عن أسبابها ثم الشروع في التخلص منها، وهذه خطوات لا يمكن أن تأتي عن طريق الممارسة الفردية، وإنما عن طريق تغير كلي في الثقافة.
فالنسق الفحولي موجود وفاعل، لكنني لا أقول ان المرأة مرغمة ومقهورة، بل الواقع انها تقبل بسعادة على تمثل شروط النسق الفحولي، وقد تصرف الكثير من المال والوقت على ملابسها ومظهرها لتنافس قريناتها في تحقيق شروط النسق، وهنا خطورة النسق أنه يجعلك حارساً له ضد نفسك.
* عبّرت عن فكرة تأنث المذكر في ثقافة الصورة، وفي رأيي أن هذا السلوك أقدم بكثير من ثقافة الصورة حيث تشبه الرجال بالنساء وبالعكس، كما انك تجاهلت تذكير المؤنث، القديم وفي ثقافة الصورة؟
ـ فعلت ذلك لأن الملمح الغالب في ثقافة الصورة هو تأنيث المذكر، في مقابل نمو للتذكير المتوحش، فتشاهد تأنيث الصورة ومجاراة الفتيان للفتيات في تمثل الصورة الأنثوية من خلال حرصهم على الأزياء وتسريحات الشعر وحركات اليدين، بينما تجد السلوك هو العنف ضد المرأة والعنف المنزلي والعنف الذي يجعل الحرب حلاً أمثل للصراعات السياسية.
إذن نحن أمام فعلين متناقضين في الثقافة، فعل يدفع باتجاه الأنوثة إلى حد تأنيث المذكر، وفعل يدفع باتجاه مضاد إلى حد التوحش الفحولي، وبمقدار ما تهدد النسق يصبح أكثر وحشية، بمعنى أن تصاعد المطالبات النسائية وتأنيث الثقافة في وجه النسق الفحولي أدى إلى أن يعبر عن نفسه في المقابل بصور أكثر وحشية لكبح جماح هذا التهديد، ولكي يفرغ التهديد من محتواه وتبقى الأنوثة مجرد إجراء شكلي.
الغزو الثقافي
* «الغزو الثقافي، مقولة واهمة هدفها المبالغة في تخويف الذات»، هذه نتيجة خطيرة تصدم تياراً واسعاً يتبنى فكرة الغزو الثقافي ويؤسس موقفه على دراسات وبحوث ومقالات وشهادات غربية.. ألم تشعر بتردد في التعبير عن هذه النتيجة التي تصادم هذا التراكم المناقض؟
ـ لم أشعر بأي تردد لأني أنطلق من ذهنية بحثية علمية، والذهنية البحثية العلمية يجب أن نبدأ بسؤال السؤال الأساسي، المشكلة التي وقع فيها أصحاب ما وصفته بالتراكم المناقض أنهم اعتبروا السؤال مسلمة، فهم قبلوا من الأساس بوجود الغزو وصاروا يحشدون لتأكيده والتعريف بوجوهه وتأثيراته. لكن لو أنهم عادوا إلى السؤال الأساسي هل يوجد غزو ثقافي، سنجد أن ما تغير هو المأكل والملبس وما نسمع وما نشاهد وهذه الخيارات لا تشكل الهوية، وإلا فإن هذا يعني أن هويتنا قد تغيرت آلاف المرات، بما يعني أننا لا نملك هوية، وفي مقابل هذه المتغيرات تعزز وترسخ انتماءنا لهويتنا الجذرية، فما تغير هو بعض المظاهر الشخصية، أما هويتنا فهي قائمة ولم تتغير أو تختل، بما يعني أننا لسنا أمام غزو ثقافي، ولكن أمام تبادلات ثقافية تجري بين كل الأمم. والغزو يفهم منه أن أمة أخرى تأتي لتغزوك وتجتاحك، والواقع ليس خلاف هذا فحسب بل هو عكسه تماماً، فنحن الذين نصطف أمام دور السينما وندفع من أموالنا لنشاهد أفلامهم ولنحصل على تأشيرات للدراسة والسياحة والعلاج في بلادهم، فأين هو الغزو، إن كان هناك غزو فنحن الذين نمارس الغزو.
ثم إذا كان حقيقياً أننا بالفعل قابلون للغزو الثقافي فهذا يعني بالضرورة هشاشة تكويننا الثقافي، وقد اهتم بعض الاسبان مثلاً بدراسة العربية للتعرف على أفكار ابن رشد بوصفه ملهما فلسفيا في الأندلس، وكان هناك من يتهم هؤلاء المهتمين بأنهم يتعلمون لغة الكفّار ـ قاصداً العرب ـ، فهذه طبيعة الثقافة الهشة أن تنظر للثقافات المقابلة بوصفها ثقافة مهددة لا ثقافة منافسة، وبهذا فالقائلون بالغزو الثقافي إنما يتهمون ثقافتنا وإن توهموا أنهم يتهمون الثقافة المقابلة.
التعليقات