لماذا لم يعد "حمام النوبة" يحلق في باريس؟

باريس: من ابرز وانشط جمعيات الجاليات العربية في فرنسا، جمعية "اتحاد النوبة" التي تأسست عام1986، أي منذ أكثر من 18 عاما في باريس، ومازال أعضاؤها القدامى، وحتى اليوم يتلقون التهاني، بمناسبة احتفال الجمعية بذلك "الحدث" المهم في تاريخها، وبعد أن حط حمام النوبة المهاجر في عاصمة النور، منذ اكثر من أربعين عاما، كما يقول أقدم عضو معمر في الجمعية، ويحكي عن تاريخها. كان أن اجتمع النوبيون من مصر والسودان،ذات يوم، في باريس، كما يذكر د. احمد عثمان، أحد المؤسسين، في حديثه مع " الأهرام الدولي "، وفكروا وتناقشوا، واجتمعت الآراء علي أن " الجمعية " هي أفضل صيغة للتواصل الحقيقي مع الوطن، ومن داخل "كادر قانوني"، ممثلا بالجمعية، يسمح لها بالتحرك بحرية، داخل المجتمع الفرنسي، والشروع في تحقيق أحلام النوبيين، ومبادراتهم وطموحاتهم..

الوعي بالحضارة.الهوية.التراث

وكانت فكرة "الجمعية" أن تنصب مجهودات و اهتمامات وجهود أعضاؤها، وتتركز في تعليم النشأ، والجيل النوبي الجديد الذي ولد وكبر ونضج في فرنسا، تعليمه لغة وثقافة بلده، في المحل الأول، ليتعرف علي حضارة الأرض التي أنجبته، ومازالت تماثيلها العملاقة، وآثارها الرائعة، تشمخ هناك بين الوادي والنهر والجبل، وتلقي علي النوبيين السلام، وهي تحوط ديارهم بمحبة.كان لابد أن يتعلم النوبيون الصغار، هكذا فكرالآباء الكبار، حكايات" النوبة "، بلاد الذهب والنيل والنخيل،( 20في المائة من بلاد النوبة تقع في مصر، و80في المائة تقع في السودان، حيث تمتد "منطقة النوبة" من الشلال الاول عند السد العالي في مصر، حتي الشلال السادس في الخرطوم ) ويستمعون إلي حكايات أهلها مع القوارب المسافرة، وقصة هجراتهم وتطو افهم في العالم، ومن ضمن أعضاء الجمعية، سوف تلتقي في مقرها في ضاحية "لاجارج لاجونس" من ضواحي العاصمة، تلتقي ببحار معمر، وسندباد نوبي حكواتي، لايسعفني ذكر اسمه الان، لف الدنيا علي ظهر ناقلات البترول العملاقة، وركب البحر، وحط في هونج كونج، وبلد ألواق ألواق، وموانيء العالم، ويسحرك بحديثه عن ذكرياته ومغامراته،.. وحكاياته عن علاقة اهل النوبة بالمعابد المصرية الفرعونية القديمة الغاطسة، التي غرقت للاسف في مياه البحيرة والسد.

الناس.. والنيل


وربما كان مايجمع النوبيين، ويدفع الي ترابطهم المتين، وحدتهم في الهم، وايمانهم الديني العميق، وحكايتهم مع ذلك السد العالي، سد اسوان، الذي لا توجد أسرة نوبية، لم تتضرر بسبب تشييده، لكنك حتما سوف تتساءل: متي يا تري كان للنوبيين، في بلد النوبة ( من عند الي ) متي كان لهم حق الكلام، أو البوح و الشكوى، والجهر بمأساتهم؟.. أو الم تتحرك فورا حكومات العالم، لإنقاذ آثار النوبة ومعبد أبو سمبل، ولم تمتد يد واحدة إلي النوبيين، لكي تمسح عنهم دمعتهم، وهم يودعون قراهم في رحلة الضياع إلي الجنوب؟ ولم يعان أناس مثل عاني النوبيون في غربتهم.لقد هاجروا كما نعرف من قراهم، وتركوا أرضهم ونخيلهم، وقبور أحبائهم، اربع مرات. المرة الاولي عند بناء خزان أسوان عام 1902و والثانية عند تعليته الاولي عام 1912 والثالثة عند التعلية الثانية عام 1933 والرابعة عند بناء " السد العالي " عام 1964، وكانت ان أغرقت مياه السد مساحة مياه تقدر ب200 كيلومتر مربع من قري وأراضي النوبة، وغرقت 20 مليون نخلة، وراحت الاف البيوتات النوبية الجميلة التي كانت ترقد متراصة علي شاطيء بحر النيل، واهب الحياة للنوبة ومصر، وتشتت النوبيون في جميع البلاد من أول كوم أمبو في صعيد مصر الي آخر حارة في بروكلين بامريكا..
يد واحدة فقط، والحق يقال، امتدت إليهم، وتعاطفت مع مأساتهم، هي يد المخرج المصري الكبير يوسف شاهين الحانية، الذي صور هجرة النوبيين و خروجهم الكبير، في المشاهد الأولي الرائعة في فيلمه الأثير " الناس والنيل "، ومكافأة له علي عمله، منعت الحكومة المصرية آنذاك عرضه، حتي تلف في العلب. لكن بقدر ماكان السد العالي سببا في تشتتهم، هكذا أدرك النوبيين، كان سببا أيضا في تعاضدهم، وترابطهم، بالإضافة إلي قيم التراحم والتسامح النوبية الأصيلة الجميلة، التي اشتهروا بها، حتى صار يضرب بهم المثل بين المصريين، في النظافة والطهارة والوفاء والأمانة، وهم يرفلون دوما في ثيابهم التقليدية الجميلة، وجلابيبهم النوبية البيضاء النظيفة، ويكاد حمام النوبة أن يحلق مع ملائكة الرحمة، ودوما في اتجاه الجنوب، فالمعروف أن النوبة، هي "بوابة" مصر إلي إفريقيا: إيقاعاتها وثقافاتها وموسيقاها، تراثها الروحاني وذاكرتها، من عند اسوان، وعلي سكة السودان، و..حتي آخر قرية في قلب القارة الأفريقية العريقة..


دروس في اللغة، والدين، وحضارة الإسلام في الأندلس


وكانت جمعية" اتحاد النوبة" تنبهت هكذا، ومنذ البداية، إلي أهم قضية في جدول أعمالها واهتماماتها، بالالتفات إلي، والالتفاف حول، مبدأ تعليم النشأ أولا، وغرس القيم النوبية الأصيلة فيهم، وتحفيزهم علي الإطلاع والدرس، وكانت الجمعية في هذا الصدد، نظمت حديثا دروس تقوية في اللغة العربية، واستقدمت إماما أزهريا شابا متبحرا في علوم البيان، كان يلقي أيضا علي الكبار والصغار معا من ضمن أفراد الأسر النوبية التي تضمها الجمعية ( أكثر من ستين الي مائة أسرة من مصر والسودان ) دروسا في طبيعة الأيمان دين الإسلام، ويحكي لهم عن حضارته في الأندلس، وكان مقر الجمعية في شهر رمضان، عند زيارة " الأهرام الدولي " إلي مقر الجمعية آنذاك، تحول إلي خلية نحل حقيقية، بالصغار الذين يركضون، ويضحكون، والنساء النوبيات اللواتي اجتمعن في المطبخ وانشغلن بالطهي، وأعداد الأطباق النوبية، بينما راح البعض الآخر من الأعضاء، يتسامرون بالكلام، والتعليقات الطريفة، وهم يتفرجون علي مباراة كرة قدم، في الدوري الفرنسي، ويشجعون اللعبة الحلوة.وكانت الجمعية نظمت أيضا، وكما جرت العادة منذ تأسيسها، نظمت رحلات للترفيه والتثقيف إلي أقاليم ومدن ومنتزهات فرنسا ألكبري، كي يتعرف الجيل الجديد علي ثقافات فرنسا المتعددة، ويتواصل أيضا مع بعضه البعض، وكانت هذه الرحلات،وعلي ألمدي الطويل، حققت نجاحات باهرة، كسرت من حدة غربته، و توزعه وتشتته، بين ثقافتين وحضارتين، وعززت لديه إحساس" الانتماء " إلي ثقافة وحضارة ووطن، هناك علي أرض " النوبة ". وكان أبناء الجمعية، كما هو معروف، لم يبخلوا علي مصر، وحضورها الثقافي الفاعل في فرنسا، بمجهوداتهم وإسهاماتهم، فشاركوا في احتفالاتها، من خلال فرقة النوبة الموسيقية الغنائية الفنية، التي حضرت كسفير للفن النوبي الأصيل في مصر، وشاركت في العديد من المهرجانات والمحافل الموسيقية الفرنسية، وحصدت إعجاب وتصفيق الجمهور الفرنسي الذواقة في كل مكان، كما كان أبناء جمعية " اتحاد النوبة "، أول من يحط في استاد فرنسا لتشجيع الفرق الرياضية المصرية، بطبولهم وأزيائهم وموسيقاهم، وكانوا أحيانا حتى يسافرون في صحبتها أينما حطت في الملاعب الرياضية الفرنسية، كما كون أفراد الجمعية فريقا لكرة القدم راح يتنافس مع فرق الجاليات العربية ويتعرف إلي أعمالها ونشاطاتها. وسارت الجمعية حثيثا علي سكة المبادرات الثقافية والفنية، للتعريف بالتراث الموسيقي النوبي، ليس فقط داخل إطار الجمعية وأبنائها المتعطشين إلي العلم والمعرفة، بل داخل المشهد الثقافي الفني أيضا في فرنسا،، فاستقدمت من مصر والسودان، علامات الغناء النوبي، من أمثال "محمد حمام" و"محمد منير" " علي كوبانا " من مصر، و"حمزة الدين" من السودان، ويعد الأخير فنانا نوبيا عالميا بكل المقاييس، فقد شارك بالغناء النوبي والعزف علي العود مع مشاهير الغناء في أمريكا في فترة الستينات، من أمثال جون باياز وبوب ديلان، وصاحبهم في مهرجانات مونتراي ووودستوك في أمريكا، وعزف وغني حمزة الدين علي اكبر مسارح عواصم العالم، لكي يحط في نهاية المطاف في اليابان، ويقوم بتدريس العزف علي العود في احدي جامعات طوكيو الكبري.

تجليات النوبة، أرض النيل المقدسة.

ويعدد هنا احمد زمراوي عضو اللجنة الثقافية المشاركات القيمة التي قامت بها الجمعية، فيذكر انها استقدمت ايضا فرقة الفنان "صالح ول ولي" من السودان و" عبد الوهاب الوكالي " من المغرب، ويضيف ان جمعية " اتحاد النوبة " شاركت حديثا في" معرض باريس" الدولي لعام 2004، وعرضت بعض الازياء و المشغولات النسائية النوبية تحت اشراف مني حسين رئيسة اللجنة النسائية بالاتحاد، كما عقدت ندوة لجمعية " حماية تراث الارض " الفرنسية،حاضرت فيها السيدة ماري كلير بريسانو عن معرضها المقبل بعنوان " النوبة المتجلية. السودان أرض النيل المقدسة"، ومشروعها لانقاذ آثار النوبة السودانية، والتنبيه الي حضارات النوبة التي سوف تتلاشي وتندثر عندما تغرقها مياه النيل، بعد بناءسد جديد( من تاني؟ ) في المنطقة عام 2008، وكانت تلك المحاضرة استقطبت جمهورا كبيرا بحضور " الاهرام الدولي " الذي يساند مشروعات الجمعية..

انشاء مركز لتوثيق حضارة النوبة

وحاليا تفكر جمعية " اتحاد النوبة" في انجاز مشروع ثقافي كبير هو مشروع " ذاكرة النوبة " وتأسيس مركز لحفظ التراث النوبي، والتوثيق له، والتعاون مع الهيئات الثقافية والمنظمات الدولية مثل اليونسكو في باريس (الذي شكل لجنة نوبية من الخبراء، تجتمع سويا لمتابعة أعمال ومشروعاته في الحفاظ علي التراث النوبي من معابد وآثار وأطلال، تنتمي الي اعرق الحضارات التي عرفها العالم، وتعود الي أكثر من 7 الآف عام، وكانت تضم ممالك افريقية زاهرة مثل مملكة نوباطيا وعلوة والمقرة ومروة وكوش) ومتحف النوبة في مصر، والجمعيات والهيئات النوبية في اوروبا وامريكا، والتفكير ايضا بشأن تأسيس فيدرالية للجمعيات النوبية في العالم، وكان ان كلفت الجمعية أحد الكوادر الاعلامية النوبية، بالاشراف علي مشروع "ذاكرة النوبة" بالاشراف عليه وادارته..
لكن الجمعية تواجه حاليا، كما يذكر قدري بحر متولي رئيس " اتحاد النوبة "، تواجه بعض المشاكل، التي تعوق حمام النوبة المهاجر من التحليق في باريس، ومن ضمنها ضعف موارد الجمعية المالية،واعتمادها في نشاطها علي اشتراكات الاعضاء، وهي وحدها، لاتكفي حتي لدفع ايجار المقر، كما ان تأخير وصول الاشتراكات بعطل سير الجمعية، ولذلك نهيب بكافة المؤسسات المعنية، مصرية وسودانية،عربية واجنبية، مساعدتنا، بكافة الوسائل،..ودعم وتشجيع مشروعاتنا في المستقبل، ومن ضمن الاقتراحات التي تود الجمعية تقديمها الي المعنيين للدراسة، اقتراح بتقديم تذاكر سفر باسعار رمزية لابناء "النوبة" بتخفيض 50 في المائة من سعرها، وذلك لتشجيعهم علي العودة لزيارة بلدهم، وبخاصة في موسم الصيف و الاجازات..