إيمان إبراهيم من بيروت: quot;لم تكن حرباً تلك التي عشناها على مدى خمسة عشر عاماً، كنّا نتسلّىquot; تقول إحدى النّازحات تحت جنح الليل إلى حديقة الصّنائع من منطقة الشيّاح، التي غادرها أهلها على عجل، بعد أن باغتتهم الطائرات، وأيقظتهم من سباتهم العميق فقد كانوا يحسبون أنّ منطقتهم آمنة. quot;في تلك الحرب كان يكفينا أن نختبىء في الملجأ، أمّا اليوم فقد أصبحت الملاجىء قبورناquot;، تتابع تلك السيّدة التي لم يكن لديها متّسع من الوقت كي تبدّل ملابسها، فهرعت بملابس النّوم إلى أقرب سيّارة اتّجهت بها مع طفليها الصّغيرين إلى الحديقة. إنّها نموذج عن أولئك النّازحين إلى وجهة مجهولة، يقودهم قدرهم إلى تلك الحديقة العامّة، حيث يصبح الشارع بيتك، والسّماء سقفك، والشجر جدران لا تكاد تستر عريّك، لتجبرك على ممارسة طقوس حياتك اليوميّة أمام أنظار المدينة التي لا تكاد تنام، حتّى في الحرب، فتمنعك حتّى من المعاناة بصمت.امرأة تمر وسط ركام احدثته الغارات الاسرائيليةعلى ضاحية بيروت الجنوبية
اليوم، ينتظر سكّان الضّاحية قدوم أي مبعوث دبلوماسي إلى مطار بيروت، ليهرعوا إلى منطقتهم متفقّدين منازلهم، ففي العادة تستقبل إسرائيل زوّار لبنان بغارتين على الضّاحية، غارة تسبق وصولهم وغارة تتلو مغارتهم، وبين الغارتين، يجد سكّان الضّاحية متنفّساً ليستطلعوا معالم المنطقة التي غيّرتها الحرب، وفي قلب كل منهم أمل أن تبقى منازلهم واقفة وسط الدّمار، ففي الحرب تتحوّل رغماً عنك إلى شخص أناني، تفرح حين تصيب الغارة منزلاً مجاوراً، وتغبط نفسك لأنّك نجوت، وتنسى في قرارة نفسك أنّ ثمّة عائلات لحق بها الدّمار، فأنت نفسك ضحيّة محتملة على لائحة الدّمار والخراب.
وفي عجلة من أمرهم، يحاول السكّان المغامرون استغلال الوقت لإحضار تلك الأغراض التي لا تعوّض من منازلهم، فالجدران والأسقف وأثاث المنازل تعوّض، لكنّ الذكريات التي تحويها تلك الجدران، لا يعوّضها أحد، حين تصبح صورة عزيز رحل، أغلى من أغلى قطعة أثاث، وحين تصبح ورقة شخصيّة تحفظ جزءً من ماضيك أثمن من كل أغراض المنزل.
تسأل أحد سكّان الضّاحية عن منزله، فيقول لك، quot;حتّى مساء الخميس كان منزلي صامداً، لا أدري ماذا حلّ به الآنquot;، فكلّهم يتحضّرون نفسياً لمصير قد يطالهم كما طال غيرهم، وفي كل مرّة يتسنى لهم القيام بزيارة خاطفة إلى منازلهم، يلقي أهالي الضّاحية نظرة الوداع على تلك المنازل، من يدري فقد تصبح ركاماً في ثوان معدودة؟
لحظات ألم يعيشها من يفاجأ بمنزله وقد أصبح أنقاضاً، كل مقتنياته الشّخصيّة أصبحت من الماضي، وحول أنقاض المبنى المتألف من عدة طبقات يتجمع أبناء الحي يواسون بعضهم البعض، فعندما يصبح الهم مشتركا تخف وطأته.
وفي غالب الأحيان، يتواجد في الحي المهدم عناصر حراسة تابعة لحزب الله، تقوم بحراسة الأبنية الصامدة خشية تعرضها للسرقة، يدققون في هوية قاصدي الأبنية الصامدة وفي الأغراض التي يحملونها معهم من منازلهم، ويواسون من تهدم منزله، واعدين إياه بالتعويض عليه. فقد أصبح معروفاً أن الحزب سيعوّض على أصحاب المنازل المهدّمة بمبلغ يقارب الثلاثمائة دولار في الفترة الأولى، ليتسنى لهم استئجار منزل، قبل أن يعاد بناء المبنى ليعود كما كان قبل تهديمه، ويحاول أهالي الضّاحية مرغمين تصديق أنّ ثمّة من سيعوض عليهم، فطوال حرب استمرّت 15 عاماً، لم يعوّض أحد على لبناني فقد منزله، في حين كانت الجسور المهدّمة وشركات الكهرباء المدمّرة تجد من يدفع تكاليف إعادة بنائها فور انتهاء الحرب، لكن أهالي الضاحية لا يسعهم سوى تصديق تلك الوعود التي تسري في عروقهم كما المخدر الذي لا يرغبون في أن يصحو منه، ليكتشفوا أن ليس ثمة منازل للإيجار في تلك المدينة التي تعاني أصلا من اكتظاظ سكاني، وفي حال وجدوا منزلا يأويهم، فلا شك أن أسعار الإيجارات ستتضاعف، ولن يكفيهم ذلك المبلغ الضئيل، خصوصاً أولئك الذي ما يزالون يدفعون أقساط منازلهم للبنوك، فشركات التأمين لا تغطّي حوادث لإرهاب والحروب، ومثلهم أصحاب السيّارات التي دمّرت في الحرب، فهم سيدفعون أقساط سيّارات أصبحت ركاماً، لأنّ شركات التأمين لا تعترف بالخسائر النّاتجة عن الحرب.
quot;ستصبح الضّاحية مثل سوليديرquot; جملة تتردّد بين أبناء الضّاحية في أماكن نزوحهم، هم يحاولون إقناع أنفسهم أنّ ثمّة مستقبل مشرق ينتظرهم، كما أقنعوا أنفسهم حين انتهت الحرب الأهليّة بذلك المستقبل، رغم أنهم يجمعون على أن هذا الشهر كان أقسى من الحرب الأهليّة بسنواتها الطّويلة.
ففي حرب استمرّت 15 عاماً شهدت اجتياحيين اسرائيليين عامي 1978 و1982 وحرب بين العماد عون والجيش السوري، قتل ما يقارب المئة ألف لبناني، وفي حرب لم تكد تبلغ الشّهر الواحد حتّى قتل أكثر من ألف لبناني، ودمّر نصف لبنان، وهجّر أكثر من ثلث الشّعب اللبناني.
في حربنا كان يكفينا أنّ نختبىء في الطبقة السفليّة للمبنى، أو في ملجأ المبنى لنكون آمنين، أمّا اليوم فقد باتت الأبنية قبور محتملة، حيث يختلط الرّكام بأشلاء من كانوا أحياءً قبل دقائق قليلة. فمعظم الضّحايا قتلوا تحت ركام منازلهم، التي ظنّوا أنّها آمنة. حين يجتمع أبناء الحي الواحد، حتّى أولئك الذين لم يكونوا ليتبادلوا التحيّة في الأيّام العاديّة تحت سقف واحد، سقف الطبقة الأولى من البناية المتعدّدة الطبقات، هناك يسود شعور بالأمان، خاصّةً حين تتوزّع المصيبة على كل أبناء الحي، فتخفّ وطأتها، وتشعرك لوهلة أنّك أقوى منها، لتفاجأ أنّت وأبناء جيرانك بأنّ لا شيء أقوى من تلك الصّواريخ التي تحوّلك في ثوان معدودة إلى مجرّد رقم يضاف على قائمة الضّحايا.
quot;أيّام قليلة وتنتهي الحربquot;، لسان حال اللبنانيين منذ اندلاع الحرب قبل أكثر من شهر، يحاولون إقناع أنفسهم، ينامون على أخبار مطمئنة ويصحون على أصوات القصف الذي أصبح جزءً من يوميّاتهم، quot;قضيت طفولتي في الحرب ولم أشأ أن يعش أطفالي نفس التجربةquot;، يقول ذلك الشّاب الذي حاول أن يعوّض على أبنائه طفولة افتقدها، ليفاجأ أنّ أطفاله عاشوا في شهر واحد، ما عاشه هو طوال 15 عاماً كان يعتقد أنّها حالكة، لكنّه نسي قسوتها حين شاهد بلده يتدمر في أيّام قليلة، ألم تقل تلك السيّدة أنّنا كنّا نتسلى؟
التعليقات