يوسف الجاسم: الربعي رؤية للعقلانية والعدالة والخير أكثر من كونه فردًا
آخر وصية من الربعي لإبنه قتيبة: 'أحب الناس... كل الناس'

ممدوح المهيني من الرياض: بمجرد أن تم الإعلان عن وفاة الدكتور أحمد الربعي، إستقبل هاتف ابنه قتيبة عشرات الاتصالات الحزينة والمعزية من كل مكان. عندما قدمنا في quot;إيلافquot; عزاء لنا. قال قتيبة: quot;قبل قليل تحدثت هاتفيًا مع الملك عبدالله بن عبدالعزيز، الذي قدم لأسرتنا تعازيه في وفاة أبي، وقد وصلتني اتصالات من شخصيات سياسية وإعلامية وأكاديمية، ومن أناس عاديين كانوا يحبون أبي وشعروا بالحزن لموته. أعتقد أني أدركت تمامًا الآن ما كان يفعله أبي في حياته. لقد عمل جاهدًا لينشر الحب والخير والعدل، وهذا ما يحدث معه الآنquot;.

لماذا مثلت وفاة د. الربعي حدثًا صادمًا على الرغم من أن ذلك كان متوقعًا؟!. السبب لأن د. الربعي كان نقيضًا تمامًا لفكرة الموت. الموت يعني الركود والاستسلام والسلبية والإحباط، وكل ذلك غير موجود في شخصية الربعي. دكتور الفلسفة الذي لا يعرف التوقف والهدوء يتصرف كأنه رسول للحياة والحرية والازدهار والعدالة والخير والتغيير، محارب للجهل والخرافة والاستبداد والحروب .

في مقالاته التي يكتبها وفي ظهوره الفضائي المتكرر على شاشات الفضائيات كان داعية للحياة، وعلى الرغم من كل التراجع والإحباط الذي يراه في الواقع فلم يتراجع عن تأكيده على هذه الأفكار. فكرة الموت التي كانت تتردد باستمرار على ألسنة الوعاظ لم تكن قريبة منه أبدًا. ولم يحدث ذلك حتى أيامه الأخيرة. يقول شقيقه عبدالعزيز لـquot;إيلافquot;: quot;نهاية أخي الحبيب أحمد كانت بحق نهاية رجل شجاع. لم نسمع منه كلمة آه يومًا، على الرغم من كل الألم الذي كان يواجهه. عندما كنا نسأله عن أوجاعه كان يقول لنا : أنا ممتاز . لا أعاني من أي شيء. لقد أعطاني شخصيًا وللمرضى الذين كان يقابلهم معنى مختلفًا للمرض والحياة. كانت لديه مقاومة عجيبة. الدكتور كان يتوقع أن يرحل بعد 6 أشهر، ولكن مقاومته وشجاعته أخرتا ذلك الموعد لأكثر من عامquot;.

الشخصية المتمردة والجريئة التي يتمتع بها د. الربعي كان جزءًا من جيناته منذ أن كان صغيرًا. يقول شقيقه عبدالعزيز إن أحمد الطفل قام بتوبيخ مجموعة من كبار السن الذين يلعبون ورقة quot;الكوتشينةquot; ويتضاحكون في عام 1956 أثناء حرب السويس. يقول عبدالعزيز أن أحمد قال لهم :quot; هل أنتم سعيدون؟!. تعرفون ماذا يحدث في مصر الآن ومع ذلك تواصلون الضحك واللعبquot;. هذه الشخصية الثورية الصغيرة، كبرت لتمارس ثوريتها في سن الشباب، عندما آمنت بالأفكار اليسارية، وأرادت تطبيقها على أرض الواقع . ولكنه تحول بعد ذلك إلى الأفكار الليبرالية والدفاع عن الحريات وأصبح عدوًا حقيقيًا وشرسًا للأيديولوجيات المغلقة. أكثر الأوقات الحزينة التي مر بها الدكتور الربعي هي عندما كان وزيرًا للتعليم، فعلى الرغم من خوضه صراعات شرسة أمام الإسلاميين من أجل تعديل المناهج وتطويرها، إلا أن أكثر الأوقات المحيرة التي واجهها هو الصراع الذي مر به بعد أن أقر مجلس الوزراء قانون منع الاختلاط. كان يواجه يوميًا وبشكل مستمر الصراع بين البقاء على كرسي الوزارة والقبول بالقانون أو تقديم الاستقالة. يقول شقيقه عبدالعزيز: quot;كانت ذلك أكثر الأوقات المحيرة التي عاشها. كان يأتينا في الديوانية كل ليلة، ويواجه ضغوطًا من جهات مختلفة ولكن الغالبية طالبته بالبقاء والتغيير من الداخل، بدل الخروج غير المفيد، وهذا ما إختاره في نهاية المطافquot;. وهذا الأمر هو الذي انتقده عليه حتى أصدقاؤه المقربون منه، الذين رأوه معارضًا وإصلاحيًا أكثر من كونه رجل حكومة.

هل ندم على ذلك القرار ؟!. المقربون منه قالوا إنه كان يشعر بالندم، ولكنه لم يغرق في هذا الأمر. فكما يقول أحد أصدقائه :quot; الربعي كان رجلاً ينتمي إلى المستقبل وليس الماضيquot;. في الواقع إنه كان كذلك. فقد ساهم عبر حضوره الواسع، على المستوى الأكاديمي والسياسي والثقافي والإعلامي، وكذلك عبر علاقاته الواسعة مع الزعماء العرب على الدعوة إلى الحرية والعدالة والخير. الصحافي والمذيع المعروف السيد يوسف الجاسم الذي ارتبط مع الربعي بصداقة طويلة، والذي يصف نفسه بـ quot;ربعيquot; الهوى والعاطفة والانتماء، يرى في د. أحمد الربعي مدرسة أكثر من كونه فردًا، ورؤية للعقلانية والواقعية المنطقة بحاجة ماسة إليها، ويضيف: quot;59 عامًا وأحمد يجاهد لتأسيس المدرسة العقلانية والواقعية. لقد سخر عقله وروحه وقلبه من أجل أن يدافع عن الحقيقة وينتزعها من قبضة السلطات والإيديولوجياتquot;. خرج الربعي مع الجاسم في العديد من البرامج التلفزيونية وظهر فيها كالعادة محاربًا فضائيًا شرسًا عن الحرية والعقل. ويقول الجاسم عن حضوره الإعلامي: quot;كان متحدثًا بارعًا ومقنعًا وذكيًا. تأثير الربعي الإعلامي هو نفسه تأثيره الأكاديمي والسياسي والتربوي والبرلماني. هذا المحارب الفضائي كان يعكس رؤيته وقناعاته العميقة المدافعة عن العقلانية والحرية والمحاربة للتطرف والاستبداد. وكما كان محاربًا في الخارج كان محاربًا في الداخل. لهذا حورب من قبل أطراف قمعية في الداخل والخارج لأنه كان يمثل رؤية مخيفة لهمquot;. ويضيف: quot;لم يكن أحمد فردًا. كان رؤية. كان نموذجًا ومن الصعب تعويضه، ويجب أن نحزن عليه، ولكن الأهم أن نطبق رؤاه التي جاهد أعوامًا طويلة لتحقيقهاquot;.

خلف مظهر الراحل الربعي الجاد والعملي والحيوي كان يخفي عاطفة مرهفة وغامرة ، انعكست في كتاباته الوجدانية المتناثرة وفي عشقه للشعر ويقول شقيقه عبدالعزيز إنه يملك حساسية عالية مع الأطفال لدرجة البكاء. يمكن لنا أن نخمن السبب لذلك . بكاء الربعي وحساسيته العالية كانت تنبع من إيمانه بحقوق الإنسان في العيش بكرامة وعدل وسعادة . إنه يخشى على الأطفال الصغار منأن يتعرضوا للاضطهاد والقمع والظلم إذا كبروا، وهو الأمر الذي يمده بالصلابة والقوة والجرأة لكي يخلق لهم مستقبلاً نظيفًا ومتسامحًا وعادلاً. إذا ما تحصل أطفال العرب على مستقبل من هذا النوع، فقد كان أحمد الربعي ممن ساهموا بعقله وروحه لتحقيقه.

آخر وصية قالها الربعي لإبنه الكبير قتيبة هي :quot;إبني قتيبة. أحب الناس . كل الناسquot;. هذه الوصية تختصر معنى حياة الربعي كاملةًً. لقد عمل طوال عمره لنشر الحب بين الناس. فلترقد بسلام الآن.