في الوقت الذي يعلن فيه الرئيس الفلسطيني عرفات مبادرته بوقف العمليات العسكرية‏,‏ ومحاسبة كل من يخرج علي هذا القرار باعتباره يضر بالمصلحة الوطنية للشعب الفلسطيني والأمة العربية‏,‏ ويعطي الحكومة الإسرائيلية ذريعة لتصعيد مواقفها العدوانية‏,‏ وممارساتها الوحشية ضد الفلسطينيين العزل‏,‏ وتزويده بما يساعده علي وصم النضال الوطني بالإرهاب وقتل المدنيين‏,‏ نجد حكومة هذا الشارون تواصل بكل صفاقة عدوانها‏,‏ بل الأكثر من ذلك يعلن تصريحاته الاستفزازية غير المسئولة أن القدس سوف تظل العاصمة الأبدية لإسرائيل‏,‏ وأن مشروعات الاستيطان في الضفة وغزة تعد من أهم المشروعات في تاريخ إسرائيل‏!‏
‏..‏ وهكذا تؤكد هذه الحكومة الشارونية كل يوم أنها ضد اقرار السلام الشامل والعادل في المنطقة‏,‏ وتضرب عرض الحائط بكل قرارات الشرعية الدولية‏,‏ وأصبحت علي حد ماجاء في بيان وزراء الخارجية العرب طرفا لايتمتع بمصداقية تؤهل للمشاركة في عملية السلام‏.‏
‏...‏ وصحيح أن بيان عرفات كان مفاجأة صادمة للرأي العام‏,‏ الذي سرعان ماقبله واستوعبه ولو مؤقتا‏,‏ إيمانا وثقة في الرجل صاحب التاريخ النضالي الشجاع‏,‏ وتقديره للمسئولية الوطنية بالحفاظ علي مواطنيه‏,‏ باعطاء مبادرته الفرصة لكشف أهداف حكومة إسرائيل‏.‏
‏..‏ ومع تقديرنا لموقف عرفات‏,‏ يظل الرجل مطالبا بالحفاظ علي وحدة الصف في الشارع الفلسطيني ووحدته الوطنية‏,‏ وتأكيد حقه المشروع في مقاومة الاحتلال‏,‏ طالما ظل جاثما علي أرضه‏,‏ مغتصبا لحقوقه‏,‏ وطالما أن السلام المنشود لم يتحقق‏,‏ ذلك لأن خيار السلام لايعني أبدا إلغاء الحق في مقاومة المحتل‏,‏ وان تحافظ جميع القوي الفلسطينية علي ذلك والالتفاف حول عرفات والسلطة‏.‏
‏..‏ وصحيح أن العالم رحب بمبادرة عرفات‏,‏ وأن واشنطن خلال اتصال بين وزير الخارجية باول وعرفات أكدت ذلك وإن كانت قد جددت طلبها بضرورة أن يبذل المزيد من الجهد لوقف أعمال العنف‏,‏ ارضاء لإسرائيل التي طالبتها بالاستجابة لتحركات عرفات‏,‏ علي حد ماجاء في اتصال باول مع شارون‏,‏ ومطالبته بالعمل علي ايجاد مناخ أكثر هدوءا برفع القيود التي تجعل حياة الفلسطينيين اليومية صعبة‏.‏
‏..‏ كل هذا صحيح لكن الصحيح ايضا أن هذا الشارون‏,‏ أصر علي سياسته العدوانية الوحشية‏,‏ ولم يأل جهدا في افساد هذه المبادرة الفلسطينية‏,‏ بتكرار مزاعمه بأن السلطة الفلسطينية ورئيسها يدعمان مايسميه بالإرهاب‏,‏ ويضع قائمة من الشروط المستحيلة التي تجعله يعود إلي مائدة المفاوضات حول السلام التي لم تتم من قبل منذ توليه السلطة‏(!!),‏ حيث تؤكد كل الأحداث والشواهد خلال هذه المدة رفضه للسلام‏,‏ وسعيه الدءوب إلي تدمير كل الجهود التي تحققه باصراره علي تنفيذ مخططاته في العدوان وحصار الشعب الفلسطيني وتصفية قياداته‏.‏
‏***‏
‏...‏ الأمر المؤكد الذي لايخفي علي أحد أن الرئيس عرفات يقف موقفا صعبا‏,‏ ويحاول بكل جهد كسب الرأي العام العالمي بصفة عامة والعرب والفلسطينيين بصفة خاصة‏,‏ بالاستجابة لهذه المبادرة‏,‏ وهو مايجب أن يضعه الجميع في الحسبان‏,‏ حتي يتاح له السيطرة علي كل الانشطة المسلحة‏,‏ بيد أن الجانب الإسرائيلي لايزال يصر في صفاقة غريبة علي موقفه العدواني وحصار الشعب الفلسطيني‏,‏ والرئيس عرفات إلي حد منعه من زيارة بيت لحم في أعياد الميلاد‏,‏ واستمرار مسلسل الاغتيالات وتدمير مقار الشرطة الفلسطينية‏,‏ التي من المفروض أن يستعين بها عرفات في تنفيذ مبادرته‏!‏
‏..‏ بل الأكثر من ذلك نجد أن الادارة الأمريكية الراعي الأول لعملية السلام‏,‏ تواصل هي الأخري موقفها المؤيد علي طول الخط لإسرائيل‏,‏ بـالفيتو الذي اتخذته في مجلس الأمن ضد المشروع العربي الذي يطالب بوقف العدوان‏,‏ ونشر قوة دولية في الأراضي الفلسطينية لحماية الشباب الفلسطيني‏,‏ وهو الأمر الذي يراه المراقبون يمثل دعما للعدوان‏,‏ وسياسة إرهاب الدولة التي ينفذها هذا الشارون‏,‏ كما يرونه تأكيدا صريحا وعلنيا من واشنطن باعطاء إسرائيل الضوء الأخضر لمواصلة عدوانها تحت ستار حقها في الدفاع عن النفس‏!‏ فضلا عن أن هذا الفيتو يعد استخفافا واضحا بالمعالج العربية وقضيتهم الأولي‏.‏
‏..‏ وأمام خطورة هذا الموقف لجأت الدول العربية إلي الجمعية العامة للأمم المتحدة‏,‏ بعرض قرار مجلس الأمن عليها‏,‏ ووافقت الجمعية باجماع الأصوات باستثناء صوتين هما إسرائيل وأمريكا‏,‏ علي القرار الذي يقضي أيضا بعدم شرعية الاحتلال الإسرائيلي للجولان والأراضي الفلسطينية‏,‏ بما فيها القدس‏,‏ كما دعت الجمعية إسرائيل إلي الانسحاب من جميع الاراضي العربية المحتلة وتنفيذ قرارات الشرعية الدولية‏,‏ كما وافقت الجمعية ايضا بالأغلبية علي مشروع قدمته مصر يقر حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره‏,‏ وهو مايؤكد بوضوح أن هناك اجماعا دوليا علي أن إسرائيل هي المسئولة عن تدمير عملية السلام‏,‏ وعن أعمال العنف الوحشي ضد الفلسطينيين الذي أصبح يهدد بمخاطر انفجار المنطقة‏.‏
‏..‏ وليت الولايات المتحدة تستجيب لنداء وزراء الخارجية العرب باعادة النظر في انحيازها إلي إسرائيل والمطالبة بارسال مراقبين دوليين فورا إلي الأراضي المحتلة‏,‏ وإذا كان وزير الخارجية باول قد أعلن عقب مباحثاته مع فيرهونستاد رئيس وزراء بلجيكا التي ترأس الاتحاد الأوروبي حاليا من أن بلاده ستقوم بدور في نشر مراقبين دوليين إذا وافق الطرفان الإسرائيلي والفلسطيني‏,‏ فإننا نذكره بأن الجانب الفلسطيني طلب ذلك بالفعل وأعلن استعداده الكامل لوضع آليات فورية وملزمة لتنفيذ تفاهمات تينيت وتقرير ميتشيل‏,‏ كما جاء أخيرا في بيان أصدرته السلطة الفلسطينية قبيل ساعات من جولة المبعوث الأمريكي زيني‏,‏ ولايبقي إلا أن تمارس الولايات المتحدة الضغوط علي إسرائيل لقبول ذلك‏.‏
‏***‏
‏..‏ إن كل الشواهد والأحداث علي أرض الواقع تؤكد أن هذا الشارون وحكومته ليس لديهما سياسة ولابرنامج عمل للتفاوض لتحقيق السلام‏,‏ فكل ماخرج عنهما ليس سوي برامج حرب وعدوان وخطط ينفذونها بالفعل‏,‏ منها خطة المائة يوم والنجوم وحقول الأشواك وغيرها وكلها تستهدف تكريس الاحتلال وممارسة إرهاب الدولة ضد الشعب الفلسطيني‏,‏ واستمرارها في التصعيد وتبني سياسة الاغتيالات وهدم المنازل ومصادرة وتجريف الأراضي ومحاصرة القري والمدن ومواصلة سياسة الاستيطان‏,‏ وهو مايجعل حكومة شارون كما جاء في بيان وزراء الخارجية العرب غير مؤهلة كشريك في التوصل إلي سلام عادل ومتوازن ويؤدي إلي خلاصة واضحة هي أنه طالما لايري شارون في الرئيس عرفات طرف في عملية السلام‏,‏ فالدول العربية لاتري في حكومته طرفا يتمتع بمصداقية تؤهلها للمشاركة في عملية السلام‏,‏ ويعبرون عن تأييدهم للرئيس عرفات رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية في مواجهة هذه السياسات والممارسات الإسرائيلية‏.‏
‏***‏
‏..‏ لقد بات من الضروري أن يمارس المجتمع الدولي كله ضغوطه علي شارون وحكومته لوقف العدوان والالتزام بالعملية السلمية‏,‏ وأن تتوقف الولايات المتحدة عن انحيازها العلني‏,‏ وتأييدها الأعمي لارهابه ولكنها انتقادات لعرفات الذي أصبح في أشد الحاجة إلي التأييد والدعم‏,‏ واتاحة الفرصة أمام مبادرته‏,‏ وهو الأمر الذي حرصت مصرعلي أن تطلبه من الولايات المتحدة‏,‏ استمرارا لجهودها المتواصلة وسياستها المبدئية بقيادة زعيمها مبارك‏,‏ من أجل وضع حد لمعاناة الشعب الفلسطيني حتي يتحقق السلام الشامل والعادل‏,‏ وذلك هو السبيل الوحيد الذي نراه يفتح الطريق رحبا‏,‏ أمام تنفيذ الرؤية الأمريكية لاقرار السلام في المنطقة‏,‏ إذا كانت لاتزال حريصة عليها‏,‏ وعلي دورها كراعية أولي للعملية السلمية‏..‏ فهل تفعل؟ ذلك ما سوف تجيب عنه الأيام المقبلة‏.(الأهرام المصرية)