بدت جائزة نوبل بعد عام من فوزه بها (عام 1994) حملا ثقيلا فوق كاهل الكاتب الياباني الكبير كنزابورو أوي. كان قد قرّر أن يتوقف عن الكتابة مكتفياً بالقراءة والتأمل: "كنتُ أشعر بأن أعمالي قد ابتعدت عن مبادئي ومقاصدي الاساسية، وبأني قد شردت في متاهة صوفية - ذاتية الى الحد الذي خيّل اليّ فيه ان رواياتي سوف تنتهي، اذا ما بقيت على هذا النحو، الى محض اعترافات دينية منحرفة".
كان أوي قد فقد "النوطة الملائمة تماماً" والتي كان من شأنها انتشاله من ميله المفرط الى الحوارات الذاتية الآخذة به الى متاهة، في حضرة مرشده الروحي تاكمي تسو. كان هذا المرشد يوحي لأوي اتجاهاً محدداً، فيستعيد ايقاعه الداخلي الصحيح. والآن، بعد موت المرشد، وجد الروائي نفسه ازاء حائط مسدود.
يعترف أوي - في شجاعة كاتب عظيم - بأن القراءة الاولى التي انجزها في العام 1995 لكتاب "الامبريالية والثقافة" منحته "الوثبة الضرورية" لقيامته روائياً من جديد. فعل أوي ذلك عبر رسالة وجهها الى "عزيزي ادوارد سعيد" المؤلف في مناسبة صدور كتاب آخر له مترجم الى اللغة اليابانية ضم بين دفتيه مجموعة من المقالات كتبها سعيد بعد الحادي عشر من أيلول الفائت (عام 2001) تحت عنوان "الحرب والبروباغندا"، وكان الكتاب الاول المذكور صدر باليابانية منذ ما يقارب العام.
كان أوي باحثاً بأسى عن وسيلة يردم بها الفجوة التي ولّدها غياب المرشد. تفرّس في مرآة نص سعيد ليندفع خارج أسوار ذاته. تنبه الى انه كان قد أدار ظهره للوقائع البحتة والتاريخ& فتوغل آنذاك بعيداً في النقد الذاتي. وساعده ذلك في النفاذ الى الفسحة حيث استطاع ان يتخذ القرار بالمبادرة الى انطلاقة جديدة في عمله الروائي. لم يقتصر الأمر على التقنيات السردية، بل ذهب الأثر بعيداً الى حدّ طاول فيه معنى المثقف كائناً فاعلاً، والنمط الاخلاقي الذي ينتهجه محافظاً على استقلاليته ومُبقياً في آن واحد صلته المباشرة بمجتمعه.
قام أوي بعد خمس سنوات بإعادة قراءة كتاب سعيد تحت وطأة رغبة اكتشافه في اللغة الام. تبدّت له الحقيقة هذه المرة اكثر جلاء وشمولية مما كان يعتقد: "لقد ترك اليابانيون أنفسهم وبملء ارادتهم فريسة تبتلعها الامبريالية الثقافية - بمعنى ذوبان الهوية الثقافية والوطنية - التي تسيطر عليها الولايات المتحدة". وتمنى أوي ان يفكر الجيل الياباني الشاب بـ"الآخرين" وليس فقط بالـ "نحن"، وأن يستنبطوا من "مؤلفاتك" (مخاطباً سعيد) الحكمة والشجاعة الضروريتين لتفادي سيطرة المناخ السياسي - الثقافي المهيمن على أرواحهم.
أن يعي أوي، وهو المثقف المتوّج، هذه الحقيقة "في شكل أفضل" إثر انعكاسات مرآة مثقف آخر في أعماقه، وأن يحكي أثر هذا الانعكاس بدقائقه المدهشة، هذا يعني انه يشير الى أمر بالغ الدلالة في معنى الكتابة وفعل القراءة واختلاجات حركة التلقي في قلب "أفق التوقعات" الكامن داخل وعي أي قارئ كان. ثمة صورة مخيفة يمكن استلالها من بين سطور أوي، هي صورة انكشاف الذات أمام حقيقة العالم في مرآة ذات أخرى لينفرج فضاؤها وتتسع آفاقها الى حيث الفسحة بلا حدود.
مرآة المثقف
تتيح لنا مرآة المثقف نافذة على فضاء الحرية خارج طغيان "الفاشية الجديدة التي هي الاعلام /ن"، كما يقول بازوليني. وعلى النقيض من السياسي الذي يحكم سيطرته، بثروته الشخصية، على شبكة هائلة من وسائل الاعلام، لكي يبدع في فنون الديماغوجية (سياسة تملق الشعب وإثارة عصبياته)، ويتسلم السلطة في بلاد لا ينفك عبرها عن اقناعنا بأنها "جنة استثمار"، نرى المثقف من حين الى آخر، مثل حكيم قديم لا تزعزعه بهارج اللعبة السفسطائية، عبر الوسيلة التعبيرية التي يجدها لغة ذاته، يحكي لنا وجه الحقيقة عن البلاد عينها: "انها، حرفيّا، مخبولة تماماً أمام التلفاز، ضحية الدجل والخداع. انها مأساة لها وجه تهريجي، إنما هو هرج مبتذل ومشؤوم ومدمّر" (كونسولو، روائي ايطالي).
يعوّل دهاقين السياسة على كثرة الغباء، في حين يثق المثقف (الحقيقي العادل) دائماً بقدرة الكائن البشرية على التنبه لذكائه كما لو انه من الفطرة. لهذا تتبدى صورة العالم، وفق الأولين، خرافية، وخصوصاً اذا تحدث رأس اكثر الانظمة براغماتية عن "العدالة المطلقة"، او اذا تحدث اكثر اصحاب السير الذاتية اجراماً عن "مكافحة الارهاب"، او اذا تحدث افحش الاوليغارشيين الفيلوكريماطونيين (يونانية تعني المهووسين بجمع المال) عن حسن سير العمليات الانتخابية في بلد مُفلس يتشدق بتطبيق النظام الديموقراطي.
لا تعوزنا الاشارة لكي ندرك ان تصريحات أصحاب القرار في هذا العالم "المعولم" تبدو إزاء شهادات المثقفين الثقات خزعبلات شطّار نشروا البؤس في كل مكان بعيداً عن خزائنهم. يقول جوزيه ساراماغو (نوبل للآداب عام 1998) انه "لن يكون لصوت الناخب اي تأثير مرئي على القوى الوحيدة الحقيقية التي تحكم العالم وهي القوة الاقتصادية للمشاريع المتعددة الجنسية التي تتم ادارتها وفقاً لاستراتيجيات الهيمنة التي لا يعنيها في شيء الخير المشترك الذي تطمح الديموقراطية اليه". ان تتحول الفكرة اليونانية القديمة لـ"حكم الشعب" محض "قدّاس علماني" تماماً كبيت الصلاة العتيق الذي حوّله الفريسيون مغارة لصوص.
&
شرلطانيو العولمة
لا يحتاج شرلطانيو العولمة، والوصف للكاتب الارجنتيني جياردينللي، فوق رقعة استراتيجياتهم إلا الى الظلال التكتيكية لملهاة جماهيرية يصل الالتباس اللغوي في كلمة "التمثيل" فيها الى حده الكامل. الشعب ينتخب "سماسرة سياسة"& لينصرفوا من ثم الى القيام بمهمة موضوعية هي وضع التشريعات المناسبة للسلطة الاقتصادية (ساراماغو)، أما ربّ العمل فهو الذي يتحكم بالمشاريع الكونية التي تعمل وفقاً لـ"سياق بربري من نزع اليد باتساع شمولي لم يسبق له مثيل"، على قول ارونداتي روي (روائية هندية، جائزة بوكر لعام 1997).
ما من كلمة تمثل خلاصة "المسار الحضاري" وما آل اليه على اعتاب الالف الثالثة مثل كلمة "السوق". والحقيقة، فإن العولمة تعني تطويع الكرة الارضية بما عليها وما فيها وما حولها، صاغرة ذاعنة، لتمسي "سوقاً عمومية" (الالتباس اللغوي هنا أيضاً، على كماله، يعبّر تماماً عن واقع الحال). ولا يختلف اثنان في أن "الطريقة الاميركية في الحياة تفرض كطريق وحيد للحياة الانسانية" (غونتر غراس، نوبل للآداب عام 1999). وانه لأمر مثير للدهشة ان نرى كاتباً كبيراً مثل أوي مكتشفاً، عبر كتاب ادوارد سعيد، ان مدى سيطرة الهوية الاميركية الثقافية على بلاده بلغت حد "الابتلاع"، مما يلفت الى ان قوة تغلغل هذه الهيمنة التي تجري "بعنف كبير" (أوي) هي& أيضاً "غير مرئية" (أ. روي). فالمرئي منها يتم تغليفه بالصورة المثيرة المتدفقة كـ"سيل يُغرق العالم" (دوبريه) فتؤول اوضاعه الى حال مزرية تدعو الى الخجل.
&
تدنيس الانسان
أكثر من أي يوم آخر، يقول ساراماغو، نرى في أيامنا أن حقوق الانسان محتقرة ومدنسة. ولا شيء أدنى رخصة من الحياة الانسانية بعدما بيعت القيم المعنوية الاساسية بأبخس الاثمان (ستانيسلاس ليم: كاتب بولوني كبير). ويُذكر ساراماغو في كلمة ألقاها امام حشد باريسي (تمت قراءتها لاحقاً في بورتو الليغري) بالعملية المتواصلة التي يتم فيها قتل العدالة (أكثر القيم المعنوية سموّا لغاية التحقق الانساني وفق افلاطون الذي يعزو خراب المدنية بالتتابع قياساً الى مؤشر فقدان العدالة)، فيقول: "في هذا اليوم أيضاً، وفي هذه اللحظة التي أتحدث فيها اليكم، بعيداً او قريباً من هنا، أمام باب بيتنا، ثمة احد يقتلها. وفي كل مرة تموت فكأنها لم تكن موجودة بشكل نهائي لأولئك الذين لديهم الثقة بها، لأولئك الذين ينتظرون منها ما لنا كلنا الحق في أن ننتظره منها: العدالة بكل بساطة".
يتقن السياسي اللعبة في كرنفال ظلال ليس له قرار، حيث القاعدة هي انتهاك كل قاعدة. وينعدم الى حدّ العبث المحض، فوق مسرح تلك اللعبة، أي اعتبار لحقيقة ما. امامنا هنا "الإيغو" Ego المتعاظم في مواجهة آنية على الدوام مع كل خطر يهدد سلطته. كل أمر لديه يُقاس بدوام "الأنا" في عالم النسبة الدافق فيه بلا هدأة والى ما لا نهاية.
المثقف (الحقيقي العادل) في المقابل، شجاع في الدعوة الى مواجهة النفس ومساءلتها عما ارتكبت من أخطاء. فها غونتر غراس، على المثال، يدعو الغرب الى القيام بهذه المواجهة معترفاً بشكه الكبير في تحليه بالقوة التي تدفعه الى ان "يتغاضى عن مصالحه الذاتية الملحة لكي يفكر في صالح الكون ناظراً الى العالم الثالث كشريك مساوٍ له في الحقوق". ويذهب بوتو شتراوس (من كبار المسرحيين الألمان) الى حدّ اتهام النخبة الفكرية والثقافية في الغرب بـ"العمى الميتافيزيقي"، في حين لا تكفّ سونتاغ (من أهم الكاتبات الاميركيات) عن الصراخ قائلة لتلك النخبة: "لا تسمحوا بأن نكون جميعاً صرعى الغباء".
تتميز الرؤية الثقافية الراقية بوعي أهمية الموقف النقدي المولّد لحركة الوعي الجدلية داخل أغوار الذات نفسها. فمن دون هذا الاحتكاك الداخلي النقدي، يقع الالتباس الكبير الدافع الى الاعتقاد ان الوهم حقيقة ملموسة. وليس هناك من خطأ أكثر سوءاً من ذلك الذي يزلقنا في خديعة أنفسنا، كما يقول ساراماغو، مشيراً الى اننا نعيش اليوم في خضم هذا المنزلق.
واذا نظرنا الى المحصلة الكبرى لمجمل اعمال مثقف عالمي هو ادوارد سعيد، رأينا ان مسألة النقد عنده تتبدى علة وجود الفعل الكتابي بكليته. الروح النقدي عند سعيد هي في منزلة حركة القلب في اي موقف يتخذه الانسان المفكر، سواء أكان هذا الموقف تضامنياً أم معارضاً. ويلفت سعيد على الدوام الى الاهمية المتصاعدة لعدم توقف عملية الاستيعاب العميق لسياق الحدث والتي يجب ان تتلازم مع النزعة النقدية، فكلاهما يشكل جوهر معنى المواطنية والديموقراطية.
وتذهب ارونداتي روي بشجاعة الى النهاية في تجسيد هذه المعادلة التي تتوحد فيها الكلمة مع حقيقة النفس (تماماً كمعنى اللوغوس اليوناني القديم) فتقول: "ما يتوجب علينا مقارعته هو نحن". الامر يحتاج الى وعي نافذ. ان ذرّةً من الوعي، تقول سونتاغ، تساعدنا في فهم ما حدث وما يحدث، "وأما الخطاب البلاغي لزعمائنا فيدّعي الورع ويشوّه الواقع. لقد فهموا واجبهم على انه تكليف بالتضليل والخداع".
الوعي كشف خطورة الانفصام القائم في خطاب الزعيم السياسي اليوم بين الحقيقة والكلمات (غالباً ما يتلوها بركاكة فاضحة). ولكن، ما العمل في عالم تجهل غالبية الناس فيه ما يحدث له حقاً؟ (روي).
&
إنقاذ شرف الحياة
تنضوي أجوبة العديد من كبار المثقفين في العالم تحت شعار: "المقاومة بالخلق الثقافي". انه خلق "يولّد الوعد" (روي)، ويخلق "دائرة مكانية - زمانية تمكّن الكائنات البشرية من انقاذ شرف الحياة" (أوي). الماكينة التكنو-اقتصادية الكاسحة تفرض تحدياً لا بدّ من مجابهته بـ"شكل فني جديد يعبّر عن نفسه، كما تقول روي، بفن قادر على جعل الخصم غير المحسوس محسوساً، وغير الملموس ملموساً، وغير المرئي مرئياً، ليصير مدرجاً في الواقع الذي يعيه الناس"، وتخلص روي داعيةً الى وضع الكتابة في خدمة هذا الفن.
وليس في وسع اي ثقافة طموحة ان تستكين في رؤاها أمام ماكينة "شرهة ومشرئبة الى امتصاص كل شيء - بما فيه الثقافة - وفرض مصطلحاتها ورموزها ولغاتها من أجل تكييف المخيلات الفردية والجماعية وتسيير العقول والحساسيات واكتساح غرائز الاجساد والنفوس لاستخدامها وافسادها على هواها" (روجيه ليغارد). لا بدّ من اعادة النظر في مضمون الفعل الثقافي ورفده بمفاهيم جديدة في خمسة أبعاد يقترحها ليغارد: الجدل النقدي، خلق رؤى جديدة في تأويل العالم الحديث، تبادل المعرفة، العلاقة المعرفية الخصبة مع الآخر، العلاقة مع الجمالية التي تقيم الصلة بين المحسوس والمعقول (وهذا مبدأ راسخ في الديالكتيك الافلاطوني)، ويخلص الى التحذير بأنه: "ليس بالكوكاكولا ولا بالجينز ولا بالمايكروسوفت ولا حتى بالانترنت وشبكات الامواج الفضائية التي تمطرنا بالصور والاصوات يمكننا ان نعكس التيار، وانما بقدرتنا على التكاتف مع الآخر، والانفتاح عليه، ومعرفته من حيث هو جزء منا نحن".
تبدو اليوم مقولة "المثقف العضوي"، وفقاً لتسمية غرامشي، كأنها ليست من هذا العالم. والدعوة الى استيحائها تنمّ على نزعة أشبه ما تكون بحفلة استحضار أرواح. لذلك فإن روي تسخر، بذكاء سقراطي، من اطلاق شعار "المثقف الملتزم" عليها، من دون ان تبرئ ذمة مطلقيه من خبث متعمّد. ان اتخاذ موقف من مسألة تمس بمصيرنا، وطرح وجهة نظر مغايرة ازاءها لا ينمان على موقع ايديولوجي (تتحول التهمة اليوم الى دعم الارهاب!) بقدر ما هو "انخراطنا بوصفنا كائنات بشرية في السؤال عن أسباب تلويث العالم بكل هذه الكوارث السياسية والاجتماعية" (آخرها خطر اندلاع حرب نووية بين بلدين ترتفع فيهما نسبة الامية والفقر الى حدّ مخيف!).
انه لأمر طارئ، يقول ساراماغو، ان نحرك نقاشاً عالمياً، قبل فوات الأوان، حول الديموقراطية وأسباب انحطاطها; حول تدخل المواطنين في الحياة السياسية والاجتماعية; حول العلاقات بين الدول والسلطة الاقتصادية والمالية العالمية، حول ما يعزز الديموقراطية وما يلغيها; حول الحق في السعادة والعيش الشريف; حول مآسي الانسانية وآمالها، ولكي نتكلم بطريقة أقل خطابية، حول الكائنات البشرية البسيطة التي تضمها تلك الانسانية فرادى وجماعات. ويخشى ساراماغو بحق من عدم التدخل في الوقت المناسب. فالهرة الشرسة للعولمة الاقتصادية توشك ان تفترس فأرة حقوق الانسان التي لا حول لها ولا قوّة. (عن "ملحق النهار الثقافي")