الذين يعرفون نائب الرئيس السوري عبدالحليم خدّام، يعرفون ايضا انه يحتفظ في ادراجه باكثر من الف صفحة من سيرة الحرب اللبنانية. وبعض الذين يعرفونه سمعوه يقول برغبته في كتابة قصة هذه الحرب التي لامسها منذ سنتها الاولى عام 1975 عندما كان عضوا في لجنة "المبادرة السورية"، وهو بعد وزيرا للخارجية، ومعه رئيس اركان الجيش السوري العماد حكمت الشهابي ورئيس المخابرات الجوية اللواء ناجي جميل، ومعهما من لبنان زهير محسن الذي ظل يعتبر نفسه بعثيا اكثر منه فلسطينيا ووسيطا سوريّا اكثر منه رئيس الدائرة العسكرية في منظمة التحرير الفلسطينية. ثم اضحى خدام لسنوات طويلة رجل الملف اللبناني الموثوق عند الرئيس حافظ الاسد حتى عام .1997 فعرف الطبقة السياسية القديمة وصنع الطبقة السياسية الجديدة التي تحكم لبنان منذ اكثر من عقد ونصف عقد.
حتى الآن لم يسمع احد من اصدقاء خدام وحلفائه في اكثر من موقع في السلطة يقول انه انجز مذكرات الحرب اللبنانية كما عرفها هو وشارك في صنع بعض احداثها ومهّد لقراراتها. ولكن الذين يعرفونه يقولون انه سينصف رؤساء لبنانيين اختلفوا مع سوريا الا انهم "لم يتآمروا عليها" كالرئيس الياس سركيس، وزعماء لبنانيين آخرين سيكشف كثيرا من اسرارهم لم يعرفها عنهم مواطنوهم. وحتى الآن كتب مسؤولون وسياسيون لبنانيون سيرهم في الحرب، ولكن لم يكتب احد بعد سيرة سوريا في هذه الحرب واسرار ادوارها عند الافرقاء جميعا مذ بدأت هذه السيرة عام 1969 لا عام .1975
ولعل المهم في سيرة سوريا في الحرب ليس ما فعلت فحسب، ولا ادارتها الملف اللبناني على نحو ما باتت عليه الآن العلاقات اللبنانية - السورية، وانما ايضاً ما تقوله سوريا في الكثيرين من حلفائها وخصومها، وفي القرارات الخطيرة التي اتخذت في هذا البلد.&&
فثمة اكثر من سيرة عن الحرب اللبنانية: الرئيس كميل شمعون كتب يومياته منذ النصف الثاني من السبعينات في "ازمة في لبنان" و"مذكرات وذكريات"، وكريم بقرادوني كتب عهد الرئيس الياس سركيس في "السلام المفقود" وعهد الرئيس امين الجميّل في "لعنة وطن"، والرئيس الجميل كتب سيرة عهده في "الرهان الكبير"، والرئيس سليم الحص كتب عن عهد الرئيس سركيس في "زمن الامل والخيبة"، وعن حقبة الرئيس الجميّل والفراغ الدستوري والحكومتين حتى مرحلة الطائف وسنتها الاولى في عهد الرئيس الياس الهراوي في "عهد القرار والهوى"، وعن السنة الاولى من عهد الرئيس اميل لحود في "للحقيقة والتاريخ" ، والبر منصور كتب عن عهد الرئيس الهراوي في "الانقلاب على الطائف"، وجورج سعادة عن "قصتي مع الطائف"، وايلي سالم عن عهد الرئيس الجميل في "الخيارات الصعبة"، وعبدالله بوحبيب كتب عن العهد نفسه في "الضوء الاصفر" وعن العلاقة بالاميركيين، واخيرا كتب الرئيس الهراوي سيرة عهده عن "عودة الجمهورية من الدويلات الى الدولة".
وليس هؤلاء وحدهم الذين كتبوا سيرهم او سير عهودهم. بل كان السبّاق الرئيس بشارة الخوري ثم الرئيس شمعون ثم الرئيس شارل حلو. وحده الرئيس فؤاد شهاب احجم عن ذلك في الساعات الاخيرة. فقبل ثلاثة أيام من وفاته في 22 نيسان 1973 قصد الرئيس شهاب مكتبه الصغير في منزله في جونيه الذي كان ورثه من أخواله الحبيشيين، وجمع اوراقاً كثيرة كان دوّن عليها ملاحظات ويوميات وافكارا تمهيدية لمذكراته، ثم كلّف كلوفيس رزق في ما بعد كتابتها وتنسيقها والتدقيق في تواريخها على ان يعود ويضبطها بنفسه، لكنه بدلا من ذلك اشعل النار فيها. وكانت زوجته الفرنسية روز رينه نواريه الخائفة عليه من ثورة غضبه، تحاول تخفيف انفعاله بقولها له: "أرجوك اهدأ قليلا. سوف تنفجر". ثم قالت لاحد زوّاره في تلك من معاونيه القدامى في رئاسة الجمهورية العميد ميشال ناصيف: "هل تعرف ماذا فعل؟ لقد احرق كل أوراقه ولا يريد أن يكتب شيئا، أو يُكتَب عنه شيء". ثم قال الرئيس السابق بدوره لمعاونه انه أحرق اوراقه، لئلا يقال يوما أنه كتب من أجل تبرير مرحلة عهده والدفاع عنها كما فعل سواه، ولانه لا يحب أن يكتب عن نفسه. وتوجّه اليه بالتمنّي الآتي: "لا اريد أن يكتب عني احد، ولا ان يدافع عن عهدي احد، ولا ان يؤتى على ذكر عهدي". الكلام نفسه قالته زوجته الفرنسية في الساعات الأخيرة من حياتها المديدة التي عاشتها في جونيه منقطعة عن الناس، ولكن من غير ان تعود الى مسقطها الفرنسي: "لا نريد أن يُكتب عنا شيء. وكما كان يريد الرئيس لا نريد ان يقال اي شيء. لقد احرق كل اوراقه ولم يُبقِ على ورقة واحدة منها حتى لا يكذب، ولأنه لا يستطيع أن يكتب كل ما يعرفه".
وخيار الرئيس شهاب قد لا يكون صائبا، مع ان الشهابيين القدامى الذين لازموه سنوات طويلة ايدوا وجهة نظره وامتثلوا لها، فاحجم معظمهم عن كشف اسرار العهد الشهابي والحديث عن الرئيس كما عن تبرير قراراته.
واستوقف المراقبين امس تعقيب الرئيس سليم الحص على مذكرات الرئيس الهراوي وملاحظته ان فيها "لهجة عدائية" عن علاقته به، وقوله ان الرئيس الهراوي تعامل معه "بشيء من الحقد والتحامل (...) مع العلم انني لم اشعر بحقده عليّ طوال وجودي شريكا له في الحكم".
وبمعزل عن تقويم موقف اي من الرئيسين السابقين، وبمعزل عما يمكن ان يكون عليه موقف الرئيس حسين الحسيني من مذكرات الرئيس الهراوي وكذلك موقف الرئيس لحود من سلفه ومواقف افرقاء آخرين كالعماد ميشال عون، فالواضح، على الاقل بالنسبة الى الشركاء في الحكم، ان ثمة خيطا رفيعا من المشاعر المنطوية على خصومات شخصية تحملهم على ابراز جوانب من حقائق مرحلة الحكم دون سواها، تارة من اجل ابراز العلاقة السلبية بينهم (وذلك يعزو بطريقة غير مباشرة سبب وجودهم معا في الحكم الى سوريا)، وطورا من اجل تبرير خيارات حال دونها الاخر. اذ في بساطة لا لبس فيها، حملت السيرة التي رواها الرئيس الهراوي للزميل كميل منسى الكثير من الحقائق المهمة والخطرة التي لم يعرفها اللبنانيون، لا عن صاحب السيرة، ولا عن مسؤوليهم وزعمائهم، ولا عن سوريا ودورها في حكم لبنان، واحيانا مسؤوليتها عن قرارات بدت للبنانيين انها لبنانية محض.&&&
ولعل اللافت في معظم سير الحرب، واعادت تأكيد ذلك سيرة الرئيس الهراوي وتعقيب الرئيس الحص عليها، ان القيادة السورية كانت دائما "ملاذ" المسؤولين اللبنانيين عندما كان يشكو واحدهما الاخر، اكثر مما عرفه اللبنانيون، وعندما يؤلبها هذا المسؤول على ذاك بغية شعوره بامتلاكه زمام السلطة. وان هذه القيادة تبدو مصدر قوة كل منهما ضد الاخر، بحيث ان ثمة ما يؤثر ان يتوجه به، منفردا، هذا المسؤول الى الرئيس السوري دون معرفة شريكه في الحكم. بل لعل اللافت كذلك في سير الحرب المكتوبة، بعد مرور الزمن الذي يتعذّر معه مثول الشاهد، ان الرئيس السوري يكون احيانا، تبعا لتلك السير، هو الذي يؤلّب هذا المسؤول على ذاك، او على الاقل يحرضه عليه. الامر الذي يسقط وهم ان السلطة اللبنانية هي التي تحكم لبنان.
لذلك قد يكون الوقت اصبح اكثر ملاءمة واتساعا لنائب الرئيس السوري لان يُخرج من جواريره الألف صفحة ويكتب الوجه الاخر من سيرة سوريا مع المسؤولين والزعماء اللبنانيين، على النحو الذي لم يكتبه هؤلاء.&&&&&&
اذ عندما يكون هذا ما بين الرئيسين الهراوي والحص، وكلاهما كان حليف سوريا في تلك المرحلة، فماذا عساه يكتب الرئيس لحود في مذكراته عن الرئيس رفيق الحريري، او ما يكتبه الرئيس الحريري في مذكراته عن الرئيس لحود، وكلاهما حليف ورقم اول لدى القيادة السورية؟. (عن "النهار" اللبنانية)