&
حينما جاءت الطفرة كانت في لبها مادية، وهي ناتج مادي لارتفاع أسعار النفط، ودخل المال على المجتمع بوفرة مفاجئة، ووجد الناس فرص كسب المال ميسورة ومتوفرة، ولا تحتاج إلى كبير جهد ولا إلى مؤهلات، بل ان المغامرين والمضاربين وغير المؤهلين هم الذين وجدوا السوق مفتوحة أمامهم، ونشأ عبر هذا فئات جديدة كشفها السوق وأعلن عنها، وهي فئات من الرجال تحديداً، فاتتهم فرص التعليم والتوظيف، وكانوا عالة اجتماعية في غالب حالهم، ولكن الفرص السهلة صارت تتدفق عارضة نفسها، من حيث المضاربات العقارية وهي أشد المظاهر وضوحاً، وصار سوق العقار مسرحاً للمغامرات والمكاسب.
يتصف سوق العقار الطافر بصفتين جوهريتين، هما الكسب السريع والكسب الضخم، وهذه اغراءات ضخمة تسيل لعاب كل سامع، ولقد لعبت القصص والأخبار دوراً في تجنيد الناس لدخول هذه السوق، ثم ان سرعة المضاربات ونفعيتها خلقت لغة جديدة، هي لغة مجازية ذات تركيب دلالي خاص من نمط شعري تجاري بلاغي، ومن سمات الشعرية التجارية والبلاغية صار التحول حيث تبدلت لغة الشفافية الاجتماعية والصدق البريء والحركة البطيئة، وصار كل شيء سريعاً وانتفاعياً وذاتياً.
ظهر الفرد الجديد، وهو من صنع الطفرة، وهو فرد ذاتي ومادي وتكسبي، ومعه لغة تتفق مع شروط التغير، في مجازاتها وفي منظومتها القيمية، ودخل الكذب إلى سوق العقار حتى صار علامة متفقاً عليها، وصار من المسلم به أن العقاريين لا يصدقون، وصار من الملحوظ على مفرداتهم انها مفردات تقوم على صيغ ثابتة تشكل خطاباً للسوق يتداوله صانعو الحركة، وضحاياه من الأبرياء الذين مازالوا يستعملون اللغة الاجتماعية الفطرية ببراءتها وشفافيتها وتصديقيتها، ولا يلحظون تحولات الخطاب فيكونون ضحايا لفجوات التعبير.
ولقد انتقلت هذه اللغة العقارية لتكون نموذجاً في السلوك الاجتماعي وذلك لأنها تستجيب في جوهرها للنسق الثقافي المتشعرن، وللمجازية الثقافية، ولهذا فإن لغة العقار الطافر وجدت لنفسها بيئة نسقية ممهدة منذ الأصل ولهذا شاعت وظلت تمر بقبول وانتشار سريع.
إن القيم الجديدة متمثلة بالكسب والكسب الضخم، مع عدم اشتراط التأهيل وعدم اشتراط الكدح، مع مصاحبة اللغة المجازية (العقارية)، كل ذلك أفضى إلى نشوء نموذج بشري نسقي، لم يعد يرى قيم العمل ولا يتمثل هذه القيم ولكنه جيل يركن إلى المجاز الثقافي ويتحول لهذا إلى كائن مجازي، تكفيه اللعبة اللغوية ليحقق مكسباً ضخماً في ساعات. وهذا نموذج متكرر ويطغى على السواليف الاجتماعية، ويجري تسويقه وتمثله.
ونتيجة لهذا ظهرت قيم الصرف الباذخ تبعاً للكسب الباذخ، وتحولت العائلات البسيطة والريفية، من عائلات تعتمد على عرق جبينها إلى عائلات تتوقع أخبار الصفقات كل مساء، ومع كل صفقة هناك مشروع للصرف، وأول المصاريف كان تغيير السيارة ثم تغيير المنزل ثم التفكير في التفسح، وذلك بعد جلب الخادمة وجلب السائق.
ومن هنا بدأت تتكسر وحدة البيت العائلي وتوزعت العائلة الكبيرة الواحدة إلى عائلات صغرى في بيوت فارهة، مع انفصال تام عن الخلية الأولى، وظهرت بيوت الاسمنت بدلاً من بيوت الطين، وحصل انتقال من لغة الواقع إلى لغة المجاز، وحلت قيم المنزل الجديد في الخصوصية المفردة والانعزال والاعتماد على ترفيه الذات وتمركز الحس الفردي.
ولاشك ان نشوء الفرد واستقلاله هو أحد مظاهر الحداثة في التحولات الاجتماعية الكبرى في كل الثقافات، وهو عندنا تصاحب مع ظهور مصادر للكسب الفردي، غير ان الوجه الآخر للعملة لم يكتمل إذ ان الفرد الحداثي في الثقافات الأخرى كان يعتمد على ذاتيته في الكسب معتمداً على قيم العمل الجديدة غير التقليدية، بينما عندنا قام نظام الكسب الفردي على قيم مجازية لا عملية، وهذا أحدث عندنا فرداً حداثياً مشوهاً، وهو فرد نصفه حديث ونصفه تقليدي، ويختلط النصفان حتى ليتمازجا في خليط مزيف، له مظهر يتناقض مع المضمر، وكل مظهر حداثي عندنا ينطوي على باطن رجعي.
هذا لأن التغير لم يكن في قيم العمل، ولأن الكسب لم يكن نتيجة للعبقرية الفردية أو للمهارة الخاصة والتأهيل التنافسي، ولكنه كسب مرتبط بالظرفية من جهة، ومرتبط بالمجاز اللغوي من جهة ثانية، وهذا المجاز يقوم على فصل بين القول والفعل وبين الحقيقة والواقع، فيه كذب مسوق ومتوقع، وفيه مبالغة مزيفة، وفيه اتكال مطلق. وهذا هو الكائن الفرد ذو السمات الحداثية، ولكنها حداثية مجازية، غير واقعية وغير عقلانية.
ومن الطين بثقافته الفطرية وارتباطه المباشر بالأرض، حيث المادة البشرية والمادة الثقافية يجتمعان معاً في نسيج واحد، إلى الاسمنت حيث المادة المصنعة والتي تقوم على فصل تام مع عوامل البيئة ومع ذاكرة المكان، وفي هذا تحول من تاريخ إلى تاريخ ومن ذاكرة إلى ذاكرة، حتى جرى تغليف الشخصية التقليدية المحافظة في غطاء سميك يحجر على قيمها الأولى ويستنسخ لها قيماً جديدة تعتمد على لغة متشعرنة من صنع السوق العقاري، وهذا أبرز رمزيات تحولات الطفرة وأخطرها. وفي الحلقة القادمة مزيد قول - إن شاء الله -.