علي بابان
ليس غريبا أن تكون (الديموجرافيا) أي علم السكان في مقدمة العلوم التي يركز عليها المستقبليون (علماء دراسة المستقبل)اهتمامهم ، فهذه الديموجرافيا مسؤولة أكثر من أي عامل آخر عن تحديد شكل حياتنا و وضع ملامح مستقبلنا .
في السياسة كما في الاقتصاد ، تبرز الديموجرافيا كعامل هام و أساسي و إذا ما دققت في كل صراعات الدنيا تجد أن للبعد السكاني مكانا هاما .
العرب الذين يعتبرون فلسطين قضيتهم الأولى و الذين فشلوا طيلة خمسة عقود في كسب الحرب مع عدوهم باتوا يتطلعون إلى الديموجرافيا لتحل لهم المشكلة و تحسم الصراع لصالحهم، فهم يتكاثرون أكثر من عدوهم و يوشكون أن يغرقوه بالسكان ليصبح أقلية وسطهم خلال بضعة عقود ، و هكذا يكتشف العرب أن (الإنجاب)& هو أفضل سلاح يتوفر في أيديهم و لهذا يبادر رئيس الوزراء الفلسطيني ليقترح قيام دولة واحدة تضم العرب و اليهود معا وهو يدرك إن اقتراحه مرفوض سلفا لأنه يعني (ذوبان)اليهود في المحيط العربي الذي ينمو سكانا كل يوم ،& قصد أحمد قريع من اقتراحه هو الضغط باتجاه الدولة الفلسطينية المستقلة إذا تعذر وجود دولة واحدة تضم الطرفين ، و هكذا ما عجزت عنه الجيوش و السياسة توشك (الديموجرافيا) أن تنجح في تحقيقه..!!
في دراسة أجرتها مؤسسة العمل السكاني الدولية و امتدت على مدى العقود الثلاثة الماضية ، ظهر أن الدول التي لديها نسبة مرتفعة من الشباب دون الثلاثين من العمر تتضاعف لديها احتمالات قيام النزاعات مرتين و نصفا أكثر من تلك التي لديها نسبة أعلى ممن هم أكبر سنا، دراسة أخرى شددت على ان النمو السكاني المتصاعد في المدن و انخفاض مساحة الرقعة الزراعية و شح الماء قياسا بعدد السكان هي أيضا عوامل مساعدة في الوقوع تحت خطر النزاع ، أن العدد الكبير من الوفيات بالإيدز بين البالغين من القوى العاملة بين السكان و هو ما يهدد الاستقرار السياسي و يزيد من إمكانية تفجر النزاعات الداخلية .
و إذا كان من الصعب إثبات أن التوجهات السكانية لوحدها يمكن أن تؤدي لعنف سياسي ، فإن العلاقة الوثيقة و المدعومة بكم كبير من البحوث تشير إلى أن آليات سكانية معنية تزيد من إمكانية ظهور النزاعات الداخلية في بعض البلدان .
فريق عمل رعته الولايات المتحدة قام بتقصي الحقائق حول أهم العوامل التي تؤدي إلى الفشل في تحقيق الاستقرار و أظهر البحث أن وفيات الأطفال تتوافق تماما مع ما رصدوه من انهيار سياسي و زعزعة للأمن ، باحثون آخرون أظهروا أن النسبة المرتفعة للشباب هي السبب بشكل غير اعتيادي وراء القلاقل و النزاعات السياسية و المسلحة.
في أماكن عديدة من العالم& باتت (الظواهر الديموجرافية) تتحول إلى (ظواهر سياسية)، ففي أوربا على سبيل المثال توجد الآن ثورة ديموجرافية تعمل على تغيير وجه القارة ، إذ تتراجع معدلات المواليد في نفس الوقت الذي ترتفع فيه معدلات الهجرة ،و رغم أن أوروبا و قطاعات واسعة من النخبة السياسية فيها لا تنظر لهذا التطور بعين الارتياح لكنها لا تستطيع أن توصد أبوابها بوجوه المهاجرين لأنهم في الواقع يجددون شبابها إذ بدون هذه الهجرة سترتفع نسبة الشيخوخة وسط هذه الدول مع تقلص أعداد السكان. صحيفة الديلي أكسبريس البريطانية لاحظت أنه بعد 25 عاما في فرنسا سيبلغ عدد المسلمين رقما يقارب عدد المسيحيين فيها و لم تكشف الصحيفة عن المنهج الذي اعتمدته لتقدير هذا الرقم الذي يبدو مبالغا به ، و على أية حال فمثل هذه لتقديرات تكشف عن التغييرات السياسية التي تنتظر أوروبا بسبب الهجرة.
في الولايات المتحدة أخذت أجراس التحذير تدق بأن الأمريكان من أصل لاتيني (إسباني )سوف يصبحوا أغلبية خلال سنوات و ينهون بذلك هيمنة العرق الأوربي الأبيض و بسبب هذا التطور بدأ المرشحون للرئاسة الأمريكية يتعلمون بعض مفردات الأسبانية ليغازلوا بها ناخبيهم كما بدأ صموئيل هتنغتون يتحدث عن (صراع حضارات) من نوع جديد خصوصا بعد أن أصبح الاسم (خوسيه) هو الاسم الأول الذي يختاره الأمريكيون لتسمية مواليدهم.
الهند و الصين العملاقان السكانيان يتأهلان للعملقة السياسية و الاقتصادية و إذا كانت الصين قد أنجزت هذا الاستحقاق ، فأن الهند على وشك تحقيق ذلك فهي القوة العظمى القادمة ، و الديموجرافيا هي عنصر التأهيل الأول بلا شك ، صحيفة لوفيغارو الفرنسية كتبت عن الهند (المرشح القادم للتحول إلى دولة عظمى ) و لاحظت أن طفلين من أصل ثلاثة في الهند لا يذهبون للمدرسة لكن عدد أولئك الذين يذهبون هو 300 مليون فرد هو ما يوازي سكان قارة أوروبا بأكملها ، ربما لهذا السبب صرخ توماس فريدمان في مقالة أخيرة له (الهنود قادمون) و لقد أصبح واضحا الآن أن أمريكيين كثيرون يخسرون وظائفهم في مجال البرمجة و المعلوماتية إما لأن الهنود المهاجرين يحصلون على هذه الوظائف داخل الولايات المتحدة أو لأن الشركات الأمريكية تهاجر إلى الهند و تنقل وظائفها هناك.
حتى في عالمنا العربي فتش عن الديموجرافيا ، فكثير من تطورات السياسة و أحداثها يقبع ورائها العامل الديموجرافي لا غيره ، تطورات الديموجرافيا و تغير نسبها في لبنان قلبت الموازنة السياسية ، وحديث العراقيين اليوم عمن هو (أغلبية) أو هو (أقلية) يوشك أن يرسي معادلة سياسية جديدة في العراق ، و قس على ذلك أكثر من تطور في الدول العربية و في كل مرة تطل الديموجرافيا برأسها .
إذن ...علماء المستقبليات على حق و هذه الديموجرافيا تشكل معظم حقائق حياتنا من حيث ندرك أو لا ندرك ، و إذا كانت البيئة و تغيراتها و أخطارها قد وجدت تيارا عالميا يسلط الضوء عليها و يضعها في المقام الذي تستحقه من حيث تأثيرها على حياتنا ، فعلينا أن لا نستغرب إذا ما برز تيار عالمي آخر يضع البعد السكاني في المقدمة و يبني نظريته و مواقفه على ضرورة ضبط تطوراته و الالتفات إلى متغيراته ..هؤلاء يمكن أن يطلق عليهم (الديموجرافيون) قياسا على (البيئيون) أو (أنصار البيئة) و يمكن أن يكون لهم كلمة و شأن كتيار سياسي أو اجتماعي شأنهم شأن الخضر و منظماتهم في العديد من المجتمعات ...!!