علي بابان

إذا كانت صورة النـزف تقترن في الذهن بالخسارة و الخطر و التبدد ،فأن عملية نقل الدماء الجديدة تعني بث الحياة في الجسد المنهك و إكسابه مزيدا من التجدد و العافية ، و عندما نتناول هجرة الأدمغة من العالم العربي فأن توصيف و تقييم الوضع يتراوح بين المنـزلتين ...منـزلة النـزف و منـزلة نقل الدماء الجديدة ، و منذ برزت هذه الظاهرة في حياتنا و بدأ الألوف من العلماء و الطامحين العرب يشدون رحالهم إلى ديار الاغتراب في أوربا و الولايات المتحدة ، و العالم العربي شأنه شأن أغلب بلدان العالم النامي يصر على وصفها بـ (النـزيف) ، و هي كذلك بالفعل ، و لكن هل من وسيلة لوقف هذا النـزف (بغير الطرق التقليدية ) و هل من سبيل لتحويل الظاهرة إلى عملية نقل منظم لدماء جديدة ..؟؟ ، هذا هو التحدي الذي يواجه العالم العربي بعد أن فشلت علاجاته التقليدية التي تقوم على مجرد الدعوة لهؤلاء العلماء بالعودة إلى وطنهم ، و بعد أن أتضح بأن البيئة العربية بكل أبعادها (العلمية و الاجتماعية و السياسية و المعاشية) بيئة طاردة ، و أن هجرة العلماء مرشحة لازدياد و ليس العكس ، و وفقا لتقرير التنمية البشرية في العالم العربي لعام 2002 فقد عبر 51 بالمائة من الشبان العرب عن رغبتهم في الهجرة و كانت الأقطار الأوربية و جهتهم المفضلة ، و إذا كان هذا الرقم عاما فأن النسبة تكبر عند أصحاب المؤهلات العلمية و ذوو الطموح العالي الذين بدأت أوطانهم تضيق بآمالهم العريضة .
إحصائيات عربية أشارت إلى أن خسارة العرب بسبب هجرة العقول تقدر بحوالي 1,57 مليار دولار سنويا ، ولا شك أن حجم خسارة كهذه يصعب تقديره و أن الخسائر غير المباشرة هي الأهم ، أعداد العقول المهاجرة أقرب إلى التقديرات منها إلى الإحصائيات الموثقة و لكن بعض هذه التقديرات يثير الفزع حقا.
دعوة هؤلاء العلماء للعودة إلى أوطانهم تبدو باهتة و غير واقعية في ظل الأوضاع المعروفة للبلاد العربية فضلا عن أنها تهدر حقاً إنسانياً للمرء عندما يبحث عن البيئة الأفضل لتحقيق أحلامه و طموحاته ، و إذا كنا غير قادرين على أن نحسن أوضاعنا بحيث نمنع هؤلاء العلماء و الطامحين من الهجرة فلا أقل من أن نمسك العصا من وسطها و نحاول أن نستثمر هجرتهم أفضل استثمار وننتفع بها على أكثر من صعيد ، ويبدو أن هذا هو ما فعلته دول عديدة استطاعت تحويل النـزف إلى عملية نقل دماء جديدة أنعشت اقتصادها و مؤسساتها العلمية و ضمنت (التواصل ) مع العلماء و المهاجرين من أبنائها و هناك تجارب لافتة في هذا المجال.
مجلة نيوزويك الأمريكية الشهيرة طرحت في عدد أخير لها مفهوما جديدا هو (اكتساب الأدمغة) بدلا من (هجرتها) و هي تشير إلى صيغ و حالات ساهمت فيها قطاعات العلماء المغتربين في تقديم خدمات كبرى لبلدانهم على أكثر من صعيد ، فهي ترى أن الازدهار الاقتصادي الصيني هو نتيجة عمل (الشتات) في الخارج و أن الازدهار المفاجئ لصناعة البرمجيات الهندية أتى نتيجة اتصالات مكثفة بين المغتربين العائدين و المقاولين الهنود في الخارج ، كما أن العلماء المهاجرين يتعلمون آخر مبتكرات التكنولوجيا و أنجع أساليب الإدارة فهم مصادر قيمة للابتكار خارج أوطانهم وهم قوى للتغيير عندما يزورونها أو يقرروا العودة إليها، لدرجة أن أحد مستشاري البنك الدولي لا يتردد في التصريح (بأن الشتات يبث روحا جديدة في النشاطات المحلية و تحتاج بعض الدول إلى مزيد من هجرة الأدمغة و ليس أقل ).
هنالك (أوطان مصغرة) تنشأ في الخارج و الدول المتقدمة و هذه تضم النخب و المبدعين و الكفاءات النادرة من المهاجرين والتي يمكن لها أن تفعل المزيد لأوطانها ، و في دراسة أجراها معهد أبحاث التنمية و هي مؤسسة استشارية فرنسية تبين وجود ما لا يقل عن 120 مجموعة من الرعايا الأجانب من ذوي الكفاءات العالية في أكثر من 40 دولة متقدمة و هؤلاء يلتقون في مواطن اغترابهم أو على الإنترنت و يتبادلوا الآراء و الخبرات و الفرص و المشاريع ، و ما أحوج العالم العربي لتجمعات كهذه شرط أن تفسح لهم الحكومات العربية الفرصة ليخدموا أوطانهم ، و يبدو أن تطور وسائل الاتصالات أتاحت لبعض هذه المجاميع أن تعمل في مختبرات و دوائر عمل افتراضية كاملة تتيح العمل عن بعد و بشكل يومي و ملموس.
جنوب أفريقيا لها تجربة متقدمة في هذا الشأن فقد أنشأت عام 1998 شبكة للمغتربين من مواطنيها تضمن تواصلهم معها و انغماسهم في قضاياها و تلبية احتياجاتها ، و المبدأ الأساسي الذي يستند عليه عمل هذه الشبكة هو (انه بفضل تكنولوجيا المعلومات و الاتصالات يمكن للمرء القيام بأعمال مشتركة من أي مكان في العالم ..) ، إذن الدور الحكومي هام لكي نضمن برمجة ناجحة لدور العقول و الكفاءات المهاجرة و لكننا عندما نتحدث عن دور كهذا في العالم العربي فإن لدينا مخاوفنا الخاصة المستمدة من معرفتنا بأوضاعنا ، فما نخشاه هو أن تتحول تلك البرمجة إلى محاولة الهيمنة على تلك التجمعات و طبعها بالطابع الرسمي و سلبها حريتها و انسيابيتها في العمل ...فإذا كانت الهند قد نجحت في استثمار علمائها من خلال احتفاظ غير المقيمين فيها بجنسيتهم و الترحيب بهم كأبطال في يوم كرسته للمغتربين فأن شبكات أخرى للمغتربين الكولومبيين و النيجيريين قد تعرضت للانهيار بسبب إهمال الدولة أو سوء تدخلها.
بإمكان آلاف العلماء و الموهوبين العرب المتناثرين في أرجاء الكرة الأرضية أن يكونوا دماء جديدة تمد مشروع الإصلاح و النهوض العربي بالحياة، و لأننا عاجزون عمليا أن نوقف النـزيف في صورته الكمية فلا سبيل لنا إلا بحسن التعامل معه نوعيا و أن نستثمر أمرا واقعا أفضل استثمار، و في عالم بات فيه الولاء المزدوج ظاهرة قائمة علينا أن نسعى لكي يكون الولاء للوطن الأم أحد هذه الولاءات بدل أن يتلاشى في زحمة الاغتراب ، و نعتقد أن الخلاصة التي انتهت إليها نيوزويك و هي تتناول ظاهرة اكتساب الأدمغة صحيحة تماما، (لا يستطيع أصحاب المواهب الموجودون في الخارج إنقاذ العالم النامي أو إزالة فجوة المعارف بين البلدان الغنية و الفقيرة ، لكن أصبح بإمكان أي بلد الاستفادة إلى أقصى حد من أدمغته ، أينما كانت).