علي بابان
لا تكون مبالغا إذا تصورت هذا العالم الفسيح كله و قد تحول إلى طاولة قمار يجلس عليها الملايين في أنحاء الدنيا و قد أمسكوا بهواتفهم أو تسمروا أمام أجهزة حواسيبهم ليبيعوا و يشتروا أصولا أو أدوات مالية في أمكنة بعيدة جدا عنهم و بمبالغ تصل بالتريليونات من الدولارات و في أحيان كثيرة لا يملك المتعاملون من هذه المبالغ إلا نسبة بسيطة تكاد لا تذكر و لكنهم يتجرءون على عقد مثل هذه الصفقات ليستحيل البعض إلى أثرياء في ساعات و ربما ثوان أو ليخسروا كل ما يملكون.
إنها أنشطة المضاربة الدولية التي اتسعت بشكل غير مسبوق خلال العقود الثلاثة الأخيرة و ذلك بفضل ثورة الاتصالات بالدرجة الأولى، و بسبب تطوير أسواق المال لأدوات مخصصة أصلا للمضاربة بالدرجة الثانية ،حتى أصبح وصف صالة القمار الدولية صحيح تماما ، و لو تأملت فيمن يمارس هذه المضاربة تجد قائمة طويلة ابتداء من المؤسسات المالية الكبرى المتخصصة انتهاء إلى صغار المضاربين الذين قد لا يزيد حجم المال الذي يضاربون به عن الألف دولار و يوما فيوم تتسع القائمة و تضيف لها مؤسسات و أفراد جدد يحلمون بالثراء السهل و السريع.
هيمنة المضاربة لم تقتصر على سوق واحد فهي أسواق العملات كما هي في أسواق الأسهم و السندات و لها الغلبة في سوق النفط كما في سائر أسواق السلع و المعادن ، و شيئا فشيئا تتقلص حصة المتاجرة الحقيقية و التجار الفعليين لصالح المضاربة و المضاربين ففي أسواق العملات الدولية على سبيل المثال حيث حجم التجارة يوميا بالتريليونات لا تزيد نسبة المتاجرين الحقيقيين الذين يشترون بناء على حاجتهم الفعلية عن الـ5 بالمائة في أفضل الأحوال أما الـ 95 بالمائة الباقية فهي للمضاربين مؤسسات أو أفراد ولا يختلف الحال كثيرا في باقي الأسواق ، و إذا كان الأمر على هذه الصورة فأن قانون العرض و الطلب الذي تتحدد به الأسعار قد يتعطل هنا و تصبح الكلمة العليا للمضاربين الذي قد يصعدون بالسعر أو يهوون به لاعتبارات لا صلة لها مطلقا بالحاجة و الطلب الحقيقي ، إذ تكفي إشاعة لإشعال السوق و يكفي تقرير من هنا و تقدير من هناك ليسارع الناس للبيع و الشراء ، و إذا كان السوق الطبيعي محكوما للعرض و الطلب فأن سوق المضاربة تحكمه عوامل كثيرة معقدة تأتي الاعتبارات النفسية في مقدمتها .
المضاربون لم يعودوا مجموعة من المقامرين بباقات بيضاء و لكنهم تحولوا إلى (لوبيات) و (مراكز قوى )تؤثر على القرار الاقتصادي و حتى السياسي في بلدانهم، و عندما تحدث بعض الساسة الأوربيين عن تقييد أنشطة المضاربة و وضع بعض القيود عليها تحركت تلك اللوبيات و أرغمت هؤلاء المسؤولين على ابتلاع تصريحاتهم ، و عندما حدثت الأزمة الأسيوية و بدأت اقتصاديات بعض الدول و عملاتها تترنح كانت المضاربة هي المسؤول الأول عن ذلك و أطل شبح (جورج سورس) ذلك الرجل اليهودي المجري الأصل الذي صار رمزا للمضاربة و المضاربين في كل إنحاء العالم ، و لقد كانت بصمات (سوروس) واضحة مما استدعى أن يخوض الدكتور مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا السابق نزالا معه و يتهمه هو و أنشطة المضاربة بالتسبب فيما وقع ، لكن سوروس رد الصفعة لمهاتير مدافعا عن المضاربة باعتبارها مظهرا من مظاهر الاقتصاديات الحرة ، و رغم أن قوانين آدم سميث و كينـز و غيرهما من أساطين الرأسمالية لا تتحدث عن المضاربة باعتبارها ركنا من أركان السوق الحرة إلا أن الرأسماليون المحدثون يدافعون عنها باعتبارها كذلك .
قصة جورج سوروس و سيرته تلخص حكاية المضاربة في العالم فهذا الرجل ربح من صفقة واحدة مليار جنيه إسترليني و عندما كانت العملة البريطانية تساوي دولارين تقريبا قرر سوروس أن يضارب على انخفاضها و كان تخمينه صحيح تماما و ما هي إلا أيام حتى كان الإسترليني عند حدود الدولار و النصف ليحصد سوروس ملياره و يصير رمزا للمضاربين الذين يحققون الربح السريع ، غير أن القصة لم تنته بسوروس كما أنها لم تبدأ معه بالطبع فطاولة القمار الدولية تجتذب مزيدا من الزبائن كل يوم و دخل الإنترنت على الخط ليزيد العملية سهولة و إغراء و تجد على الشاشة آلاف الإعلانات كل يوم و هي تدعوك لأن تجرب حظك حتى لو كان المبلغ الذي تريد أن تبدأ به هو مائة دولار فقط .
قبل أيام أشتكى بعض وزراء أوبك بأن المضاربة هي سبب رئيسي لارتفاع أسعار النفط في الفترة الأخيرة و تجد مثل هذه الشكوى في كل الأسواق فالأسعار أصبحت تصعد و تهبط دونما سبب ظاهر أو معروف و التعليل الواضح لهذا هو المضاربة.
من يدير لعبة المضاربة الدولية..؟ و من يملك مفاتيحها...؟؟ عندما توجه هذه الأسئلة إلى أحد كبار رجال البنوك أو مدرائها فأنك تسمع إجابة ، و لكنك عندما تطرح نفس السؤال على أحد مضاربي (العشرة آلاف دولار) فأنك تسمع إجابة مختلفة تماما ، الأول يدعي أن السوق ضخم ولا يمكن لأحد أن يوجه مساره و أن هناك عشرات العوامل التي تتحكم في هذا المسار ، أما الثاني فأنه يتبنى ( نظرية المؤامرة )و يشير بإصبعه إلى (اللاعبون الكبار ) الذين بإمكانهم أن يقرروا متى تبدأ الموجة و متى ترتد و الذين يستطيعون أن يغيروا المسار عندما ينسقوا فيما بينهم و يدخلوا ضمن اتفاق مسبق كبائعين أو كمشترين...كلا المنطقين يحمل شيئا في الوجاهة فالسوق متسع و يصعب تحديد مساراته بشكل تام هذا صحيح ،و لكن الصحيح أيضا هو أن الحيتان الكبيرة بإمكانها أن تحدد المسار و تبتلع الأسماك الصغيرة و الذين هم في أغلب الأحوال ضحايا المضاربة و شهداء سوق المال الذين أول ما تطيح المضاربات بهم و بأحلامهم السريعة في الثراء السريع.
لم يخطئ من شبه المضاربة بالمقامرة ، فكلاهما لعبة حظ بكل تأكيد ، و في غياب وجود أي منهج أو آلية يمكن الاعتماد عليها تماما لاتخاذ القرار تصبح المضاربة نوعا من الحرز والتخمين الذي لا يستند إلى أساس راسخ مهما أدعى أصحابها غير ذلك ، غير أن الاقتصاد العالمي يدفع نتائج ذلك و الأزمة الآسيوية هي أول نذر المضاربة على الصعيد العالمي، و لعلنا لا زلنا نتذكر أزمة بنك بارنجز الشهيرة ذلك البنك المحافظ الرصين الذي قرر أن يتخلى عن رصانته و يسلم أموره لمضارب مغامر جلب المزيد من الأرباح في البداية ثم قاد البنك بمضارباته إلى الإفلاس التام لاحقا..و ما دامت المضاربة في أتساع فأن طاولة القمار الدولية تكبر باستمرار لتلقي بضحايا جدد كل يوم على قارعة الطريق خصوصا من أولئك الذين يملكون ألف دولار يريدونها طريقا إلى الثروة و يحملون أن يصبحوا كجورج سوروس.
المضاربة ليست عملا إنتاجيا و ليس لها أي دور يذكر في إنعاش الاقتصاد،إنها جهد طفيلي تماما و أرباحها كذلك ، غير أن هذا لا يقنع أحدا من المضاربين الذين تمكنت منهم العادة حتى أصبحت تسري في دمائهم كما أنها لا تقنع بالطبع (اللاعبون الكبار) الذين يحصدون المليارات من لأرباح في لعبة غامضة و معقدة دونما جهد أو مغامرة...!!