إيلاف&من القاهرة: هي المصادفة وحدها التي نقلتني دون أي ترتيب مسبق قبل أيام من مقعد مريح في مطعم بأحد فنادق القاهرة الكبرى، إلى عالم آخر مفعم بالإثارة والغموض معاً، خاصة لأبناء الطبقة الوسطى الذين ربما عاشوا وماتوا دون أن يرتادوا مكاناً كهذا، أو حتى يسمعوا به اللهم إلا في ثنايا مشهد في فيلم مصري قديم، زمن الأربعينات ومطلع الخمسينات، حين كانت القاهرة مشروع مدينة أوروبية، قبل أن يصيبها هذا الجنون الخانق الراهن.
عرفني قبل أن أعرفه، رغم أنني الذي غيرت في هيئتي السنوات كثيراً، بينما لم يتغير فيه سوى بضع شعيرات بيضاء في رأسه، زادته تميزاً، وهو أساساً كان هكذا منذ كنا زملاء دراسة في المدرسة الثانوية قبل نحو ربع قرن، لم يكن الأفضل فينا ولا الأسوأ، بل كان نسيج وحده، تميزه سمات خاصة تشكل في مجملها صورة لفتى لا يمكنك نسيانه مهما باعدت الأيام بينكما، إذ كان ولم يزل قادراً على إبهارك بهدوؤه ومنطقه البارد، وقدرته الهائلة على المناورة "تقولش أمين شرطة اسم الله .. ولاّ دبلوماسي"، كما ترنمت ذات يوم المبهجة سعاد حسني بكلمات "مجمع المواهب" المعروف باسم صلاح جاهين.
الحقيقة أن رصد سيرة ومسيرة زميل الدراسة القديم، ولنشر إليه مثلاً باسم "وهبي"، قد تخرج بنا عن صلب الموضوع، فهي من التنوع والثراء والغرابة إلى حد تستحق معه وقفة منفصلة، لكن موضوعنا هو ما حدث حين أصر على أن أزوره بمكتبه في الفندق بعد تناول العشاء، حين التقاني مصادفة بعد كل هذه السنوات، وقد حدث، وتوجهت بالفعل إلى مكتبه داخل كازينو الفندق، وهو حسب القانون المصري غير مسموح بدخول المصريين فيه أساساً.
أول ما لفت انتباهي هذا العدد من الشباب الذين كانوا ينتظرون في بهو خارجي، وداخل مكتبه شرح لي "وهبي" أنهم مجموعة من المتقدمين للعمل في وظيفة "جامع فيش" في كازينو الفندق، فالعدد الإجمالي للمتقدمين ألف ومائة وخمسين شخصاً، بينما المطلوب منهم 12 فقط، وأكد أنه فوجئ بكل هذا العدد الضخم الذي جاء حوالي 600 منهم ببطاقات توصية تسبقها وتعقبها اتصالات هاتفية لا تنقطع من شخصيات لها وزن في المجتمع، بل ان بعضهم من الوزراء وكبار المسؤولين في الدولة، والفنانين المشاهير، ورجال الأعمال، وأن كل ما سيفعله أنه سيمنح الجميع فرصاً متكافئة من خلال اختبارات شفافة و(fair) بحسب التعبير الذي استخدمه وهبي، موضحاً أن مهنته هذه لا تحتمل المجاملات ربما تكون كلفتها أضعافاً مضاعفة مما قد يتقاضاه هذا الشاب الذي لم يزل واقفاً على عتبات الطريق في عالم القمار، الذي لا يعلم عنه سوى أبناؤه من اللاعبين والمقامرين المحترفين شيئاً يذكر.
وبنظرته الماكرة التي لم تتغير منذ ربع قرن، بل ازدادت عمقاً، أطلعني "وهبي" بابتسامة لا تخلو من السخرية على إحصائيات عن المتقدمين، 1150 شخصاً، بينهم 400 فتاة، جميعهم من الحاصلين على مؤهلات جامعية عليا، وبعضهم حاصل على درجة الماجستير في الاقتصاد والقانون، فضلاً عن آخرين من خريجي كليات الطب والهندسة والألسن والتربية الرياضية والفنون الجميلة والسياحة والفنادق والإعلام والآثار والعلاج الطبيعي والحقوق وغيرها، وجميعهم أيضاً من شرائح اجتماعية متميزة، كما تشي بذلك بيانات محال إقاماتهم وأسرهم فضلاً عن مظهرهم الخارجي.
وكمن تطوع لإشباع فضولي راح من تلقاء نفسه، ودون انتظار لأسئلة أطرحها، يشرح لي تفاصيل ما جرى في الاختبار الأول الذي عقد للمتقدمين في قاعة الحفلات بالفندق، وكان عبارة عن أربع صفحات تشمل عدداً من عمليات الحساب بالعربية والانكليزية والتي تتراوح بين البساطة والتعقيد، وقد أعدت وفق نسق خاص، وكان مطلوباً أن يجيب عليها المتقدمون خلال مدة زمنية لا تتجاوز ساعة واحدة، وكان بالنسبة للبعض امتحانا عسيرا حتى أن الوقت الأصلي للامتحان انتهى دون أن يتمكنوا من الإجابة إلا على ربع الأسئلة، وفشل 80% من المتقدمين ليصعد العشرون بالمائة للتصفيات.
صادر ووارد
أطلعني "وهبي" على عشرات من بطاقات "كروت" التوصية، كانت تحمل أسماء وصفات وظيفية مرموقة، بل راح يبتسم إلى أبعد درجة يمكن أن ينفرج عنها فكاه، وهو يقدم لي توصية وردت في خطاب رسمي موجه من مسؤول رسمي كبير، يوصي فيه بالاهتمام بحاملته "شابة حاصلة على بكالوريوس اقتصاد وعلوم سياسية من جامعة القاهرة"، والمساعدة على منحها وظيفة بالفندق، والمثير في الأمر أن هذا الخطاب ورد من مكتب المسؤول برقم صادر ووارد مما دعاه إلى رفع الأمر لإدارة الفندق التي اجرت بدورها اتصالاً بمكتب المسؤول للتحقق من صحة الخطاب، وهو ما ثبتت صحته بالفعل، حيث فوجئ مدير الفندق بالمسؤول يطلب منه بكل ود مساعدتها في العثور على فرصة عمل مناسبة في الكازينو، لأن أمر هذا الفتاة يهمه، مؤكداً أنها تستحق فهي بارعة وموهوبة، وسوف تحظى برضاه.
التوصيات شملت ايضا عددا من كبار المسؤولين، ورئيس بنك خاص يوصي على شاب حاصل على بكالوريوس هندسة قسم كمبيوتر جامعة عين شمس، وتوصية أخرى من رجل اعمال شهير كمستورد ووكيل إقليمي للسيارات، يوصي بقبول شاب حاصل على ليسانس الترجمة من كلية الألسن، أما التوصيات من الفنانين فحدث ولا حرج، ولعل أطرفها تلك التي أرسلتها راقصة شهيرة قالت في بطاقة توصيتها الوردية لمدير الفندق: برجاء حجز وظيفة لأخي الأصغر ضمن الوظائف المطلوبة في الكازينو، و"كلي عشم فيك يا باشا"، وأمهرت توصيها بتوقيع "حبيبتك .. فلانة"، وبالطبع لم يكن ذلك الشاب الضخم شقيقها ولا حتى بالرضاعة، لكنه مجرد شاب حاصل على بكالوريوس تربية رياضية عرفته أو عرفها في ظروف يعلمها الله وحده.
الأكثر إثارة أن زميلي القديم في الدراسة السيد وهبي أكد أنه لن يقبل هذا "التمساح"، كماأسماه، قائلاً إن من شروط القبول في هذا العمل ألا يكون ضخم الجثة مفتول العضلات كالمصارعين، لأن المناخ المطلوب إشاعته في المكان هو الطمأنينة والارتياح، نطقها بالانكليزية، وليس إرهاب الزبائن كما يوحي وجود هؤلاء مهما كانوا مهذبين وخلوقين ومحترفين، وراح يشرح كيف سيكون عليه الحال في ما لو وجد لاعب نفسه محاصراً بثلاثة من هذا الطراز من البشر الذين يطلق عليهم "التماسيح"، وكيف سيجعلون اللاعب يشعر بالرعب ويسعى للخروج ساعة قبل الوقت الذي قرر أن يمضيه في الكازينو، بينما المطلوب أن يبقى ساعة إضافية للوقت الذي خطط للبقاء خلاله، وليس العكس، ومن هنا ـ والكلام لم يزل لوهبي ـ لابد أن يكون الفتى (ديسنت) التي نطقها بالانكليزية مضيفاً إليها صفات Clever، trustworthy، serious، handsome، and without bad habits، أي ماهر موثوق، جاد وسيم دون عادات سيئة، وألا يتجاوز عمره خمسة وعشرين عاماً، موضحاً أن المقدمين لن يحصلوا على وظيفة بشكل رسمي إلا بعد اجتياز كل الاختبارات بنجاح، وبعدها يتم إلحاقهم بدورة تدريبية خاصة مدتها شهران، يتعلم خلالها الموظف قواعد اللعب، لمدة ثمانية ساعات يومياً داخل غرفة خاصة ملحقة بالكازينو تسمى غرفة التدريب، حيث يخضع فيها لاختبارات عملية على لعب "الروليت"، و"البلاك جاك"، و"البوكر"، و"الكونتو بانكو" وغيرها، وبعد هذه الاختبارات العملية تأتي بعدها مرحلة أطلق عليها مصطلح "الاختبار داخل الملعب"، حيث لا يتخذ الأمر شكل الاختبار صراحة، حيث يتم وضع المتدرب تحت ضغط نفسي محسوب، وحيال مواقف استفزازية مدروسة بدقة، للوقوف على رد فعله، وكيفية إدارته للمواقف المأزومة، ومدى قدراته على التخلص من تلك الضغوط، حتى يتم بعدها تعيين الفائزين في درجة "شيبر" أي مساعد "ديلر" لمدة تتراوج بين ثلاثة وستة شهور، وبعد ذلك يصبح المتدرب أو الموظف المبتدئ "ديلر" أو Dealer.
وصمت زميل دراستي القديم فجأة، ومضى يقول كمن جلس على "كرسي الاعتراف"، إن كل ليلة تمضي في هذه المهنة هي اختبار جديد، والنجاح هنا لا يعني الترقية أو الترفيع، بل فقط الاستمرار، أما الفشل مرة واحدة أو اثنتين فهو وارد ويمكن احتماله أو تجاوزه، لكن حين تتواتر الأخطاء، وترتفع معدلات الفشل، فليس هناك خيار آخر سوى الإبعاد عن الساحة، وتنهد كمن يلقي عن كاهله عبئاً ثقيلاً بالاعتراف لصديق صباه، قائلاً إن هناك "أساطين في هذا المضمار دفعتهم ظروف فشلوا فيها على نحو متكرر إلى نهايات درامية"، كما يقول زميل دراستي القديم "وهبي".
لكنه استدرك قائلاً إن بعض هؤلاء الـ (ديلرز) يثبتون براعة ومهارة لا نظير لها، ولكنهم يتركون العمل في الكازينوهات، وتختطفهم المافيا الدولية للعمل بشكل احترافي كلاعبين في كازينوهات غير معروفين فيها، حيث يبدأ اللعب ليكتسح كل الموجودين، وربما جمع كل أموالهم ومضى، غير أن وهبي أكد أنه كمدير كازينو، بل وكل العاملين في هذا الوسط يعرفون هؤلاء "الديلرز" المحترفين، ولا يسمحون لهم باللعب، أو الاستمرار فيه لو جرى كشفهم حتى أثناء اللعب، قائلاً إنه لا توجد قوانين محددة تحكم هذا الأمر، لكنها أعراف شائعة في أوساط المقامرين، وأن هؤلاء مدرجين ضمن ما يمكن تسميته قائمة سوداء أو Black list فلا يسمح لهم أساساً بدخول الكازينو أو الاحتكاك باللاعبين، وإن لم يتم التعرف عليهم في البداية يمكن كشفهم مع الوقت، ويتم إبلاغ الكازينوهات المتعاونة بأمر هؤلاء "الديلرز" المتنكرين في دور اللاعبين، نظراً لما يتمتع به هؤلاء من براعة.
ونختتم بنتيجة هذه الاختبارات إذ تم اختيار الـ25 شابا "ضعف العدد المطلوب" نظرا لأن القاعدة المعروفة والشائعة كما أخبرني "وهبي" أن نصف المتقدمين على الأقل يتركون العمل خلال الشهور الأولى لأسباب مختلفة، منها اكتشاف عدم أمانتهم، وهذه مسألة تتضح في الميدان، فليس هناك اختبار بعد للأمانة، دون تجربة حية معاشة، فضلاً عن عدم الالتزام سواء بالمواعيد أو قواعد وما أسماه "بروتوكول المكان"، وكذا اعتراض أهله وبالتالي سوف تتحمل إدارة الفندق والكازينو نفقات إضافية في الاعلان عن الوظائف، واختبار وتدريب المستخدمين الجدد، ناهيك عما يسببه بعضهم من كوارث، على حد تعبير زميل دراستي، الذي أمضى عشرة أعوام متنقلاً بين كازينوهات أوروبية وأميركية، مؤكداً لي أنه أصبح اسماً كبيراً له سمعة دولية في هذا الوسط، الذي أكد أنه بالفعل عالم خفي، وسيظل هكذا لأنه ليس من مصلحة أي من أطرافه أن تخرج كل تفاصيله إلى العلن.
وله في خلقه شؤون.







التعليقات