&
كتب غسان تويني في النهار فقال : " نبدأ هذا المقال، على غير عادة، باستشهاد من مسرحية يمكن وصفها (والاستشهاد شاهد) بالسوريالية. انها من المؤلف الالماني الشهير: برخت، الشيوعي النزعة.
عام ،1953 كان ثمة اضطراب في برلين الشرقية، فشكا الحاكم من ان "الشعب" لا يفهمه، وبالتالي يعارضه، أو ما هو بمثابة ذلك في النظام التوتاليتاري الديكتاتوري الأكثر صلابة.
وبدل ان تقترح المسرحية اختيار حاكم آخر، اذا بمن يسأل الحاكم: "ولماذا لا ننتخب (نعم: ننتخب!) شعباً جديداً؟".
نسوق هذه النادرة الى الذين يهوّلون على لبنان بأنهم يستعدون لهجرته، نتيجة ما يشاهدون من "محاولة انقلاب رئاسي - مخابراتي"... ونسألهم، بدورنا: "وماذا لو قرر الحاكم فعلاً لا "البقاء في مملكة لا شعب فيها" (كما في المسرحية الرحبانية) وهذا عملياً مستحيل، بل البقاء في الوطن والجهاد فيه، أياً كان حكمه، لئلا يتهافت للحلول محل المغتربين (الأفاضل الذين نحترم شعورهم المبكر باليأس) "شعب" آخر (والارجح من جنسيتين معروفتين، على الاقل) يطمئن الى الحاكم، والحاكم يرتاح اليه؟
... ونسارع لتكرار القول ان الاوطان ليست فنادق يختار روادها "الفندق - الوطن" ذا الخدمة الأفضل، سعياً وراء الراحة، ليس إلاّ!!!
ونحن، في كل حال، على ثقة من ان الأكثرية ستبقى لتعمل حتى يصير الوطن في مستوى طموحاتها له، وحقوقها عليه، ومنه.
* * *
واستطراداً، ندعو القلقين على مصير الحريات في لبنان، بل على مصير لبنان الديمقراطي، الى قراءة تاريخ الانقلابات العسكرية في الدول العربية التي كانت مسرحاً لها، فيدركون لماذا لا يمكن ان ينجح في لبنان هذا الشيء الذي وصفه وليد جنبلاط بمشروع الانقلاب الرئاسي - العسكري - المخابراتي، فشاطره تخوفه معظم خطباء مؤتمر الدفاع عن الحريات... وعن حق!
وقبل ان نشرح أسباب اطمئناننا، نتوقف لنشكر قائد الجيش وهيئة الأركان التي اصدرت بيان تطمين توقف عنده الكثيرون بتفسيرات متضاربة... ولا نجد غضاضة، من وحي تاريخ الانقلابات التي عاصرنا شخصياً (ونعترف بأننا كنا في ظروف جعلت بعضها يستهوينا) في لفت قيادة الجيش اللبناني الى ان الانقلابات لا تعلن عنها هيئة الاركان مقدماً، ونادراً ما تقوم بها او تعرف بها او تقرها هيئة الاركان مجتمعة... انما تحدث الانقلابات من فريق في الهيئة أو الجيش يعارضه فريق، واذذاك تنطلق السلسلة الجهنمية التي تمتلئ بنتيجتها السجون - والمقابر احياناً - بالضباط تلو الضباط، والعسكر تلو العسكر... مما يتنافى والطبائع اللبنانية، فضلاً عن غربته عن تاريخنا وعقليتنا.
* * *
وحده لبنان تميّز بالتغلّب على محاولة انقلاب عسكري من غير ان تستتبع هذه محاولات انقلاب مضادة... والمفارقة انه لم تحدث في لبنان هكذا محاولة الا عندما "افرزت" الشهابية، في عهد الرئيس شهاب بالذات، اجهزة مخابراتية كانت آنذاك "مضحكة - مبكية" في بدائية وسائلها، الا انها ابتكرت للرئيس - على بصيرته الاجتماعية الاصلاحية - سلسلة من الهواجس، وكانت تهوّل عليه باخطار وهمية تحيق به، مما مكّنها من ايهامه انها تقوم بما تقوم به لأنها "حزب الرئيس" وانها هي هي الجيش، فوحدها اذاً تحميه من الاخطار وتعمل من أجله بتجرّد و"نزاهة"(!!!).
وبلغت سيطرة الأجهزة على الرئيس القمة بعد محاولة الانقلاب "القومي الاجتماعي" - العسكري، فتوسلتها، قمعاً وتوقيفات ومحاكمات واحكاماً... علماً بأن ثمة من يقول أن الأجهزة "استفعلت" الانقلاب من حيث لم يدرِ أصحابه، أو هي على الأقل "تركته يحدث" بدليل ان ضباطها كانوا منتصف الليل إياه ينتظرون في وزارة الدفاع، "يلعبون الورق" مطمئنين!
ومن غير حاجة الى طويل مناقشة وتحليل، حسبنا تدليلاً على ان الطبائع اللبنانية هي غير سواها ان النتيجة الأبرز لتلك الفترة العصيبة من تاريخ الحكم في لبنان كانت انتفاض القوى الديمقراطية، وفي مجلس النواب بالذات، على ورثة الأجهزة، ثم انتخاب المرشح الذي كانت مقاومة تسلّط الأجهزة أبرز وجوه برنامجه السياسي.
ولعل ذلك كله هو الذي حدا شاهداً (من أهله؟) النائب والوزير العالم بالبواطن والخفايا، الاستاذ جان عبيد، الى ان يقول أخيراً في مناسبة حافلة، اننا ورثنا من سيئات الشهابية أكثر مما أورثتنا من حسناتها... أو ما يقارب ذلك!
* * *
من هذا كله، استنتاج أولي نسوقه كذلك تطميناً لبعض المتخوّفين الذين يهمسون، فقط همساً، بخوفهم الكبير من ان يعجز هكذا مجلس نواب عن رفض التصويت على مشروع توحيدي بين سوريا ولبنان، وذلك في اطار "وحدة المسارين" بين نظامي الحكم، الخ... الخ... رغم صدور قانون مطبوعات في سوريا شبه متقدم في هذا اليوم بالذات!
ونسارع ونقول اننا نعرف انه لا يكفي الناس تطميناً الاستشهاد هنا بقول الرئيس حافظ الاسد ان الوحدة بين "دولتي" "الشعب الواحد" لن تحدث الا عندما يقرّها ويقررها الشعب اللبناني.
ونعود الى منطلق المقال لنقول ان ما يدعو الى الاطمئنان هو بالذات تاريخ الانقلابات العسكرية في سوريا التي وصلت سلسلتها العبثية الدموية الى حد اليأس من أي استقرار، فحمل الانقلابيون واعوانهم العقائديون المدنيون، وبرعاية قيادة كانت مهيأة لأن تصبح ضحية انقلاب لاحق معلن عنه سلفاً وكان قيد الاعداد... حملوا جميعاً الحكم السوري الى الرئيس عبد الناصر في القاهرة وطلبوا منه الموافقة على الوحدة، فقبل على مضض، رغم أنه كان في أوج شعبيته ومجده.
وجرى استقبال الرئيس عبد الناصر في دمشق استقبال الآلهة، لا استقبال الفاتحين. لكن المخابرات السورية، التي احتضنها عبد الناصر او هي تسللت الى الحكم الوحدوي، ادت تصرفاتها (أوَلا تتذكرون عبد الحميد سراج، ومآثره و... مصيره؟) الى تدهور شعبية "البطل الأسمر" الذي كانت تحلم الأجيال العربية، وفي دمشق الأموية خاصة، بأمجاد يحققها حكمه. فكان الذي كان من انقلاب على عبد الناصر وفك عرى الوحدة التي ظُنَّت لفترة انها "العروة الوثقى" الموعودة.
* * *
وهل تنسى دمشق؟
لا، لا تنسى، وهي بالمغازي، متى خلدت الى نفسها العميقة، أعلم.
وهي تعلم، ولو جهل "الجهّال" - وجهلاؤها هي بنوع أخصّ - أنْ شيء هو حَمْلُ مجلس نواب مصطنع على التصويت، بالضغط والارهاب، على نقيض ما اشترع من عشرة ايام... وشيء آخر هو حمل مجلس النواب هذا، او المثله بل الاسوأ منه غداً، على الاقتراع وقوفاً لمشروع يقيم وحدة مبتسرة كالوحدة السورية - المصرية، فتتهيأ فوراً (والأجهزة اياها تكون، كالعهد، مسؤولة!) الظروف الموضوعية للفرقة وفي أحسن الأحوال... افتراق يكون أول المهلِّلين له، كما في تظاهرات دمشق وسائر المدائن السورية آنذاك، اولئك الذين صفقوا وهللوا للوحدة وبطلها الأسمر المؤلّه.
فلنعمل كلنا معاً حتى لا يعيد التاريخ نفسه، فكفانا كلنا مظاهر زهو تنتهي الى الخيبات والمآسي، فاليأس والندم ساعة لا تجدي ندامة!!!
وليطمئن المتوجسون في لبنان...
الحاكم هنا، أياً كان، لا اليوم ولا غداً قريباً او بعيداً، ولا بعد غد... الحاكم لن "ينتخب شعباً جديداً" بديل الشعب اذا الشعب عارضه.
* * *
هذا عن التطمين. وتبقى الضمانات... فكيف نضمن انتصار الحريات وقيام ديمقراطية لا يقدر على اذلالها وأسرها "مشروع نظام عسكري - مخابراتي"؟
جواب بسيط، وصدّقونا ليس خرافياً وليس طوباوياً:
انه تطوير "الجبهة" التي دعا مؤتمر الدفاع عن الحريات (في الكارلتون) الى تشكيلها. انما، انما... ليس بالركض وراء شعارات "الجبهة الوطنية العريضة" التي هي رجع صدى (أو حنين مفتعل؟) للجبهات اللاديمقراطية التي "تصطفّها" تزويراً الأنظمة الديكتاتورية بل الستالينية، هنا وهناك وهنالك، بالذات لقمع الأحزاب المشروعة النابتة بحرية من الصفوف... انما بالعمل لتطوير الحياة الديمقراطية المشروعةِ التعددية الحزبية، وقد عرفها لبنان في صيغة بدائية، قبل تكوينه الدستوري (ايام "القيسية" و"اليمنية"... ثم "الجنبلاطية" و"اليزبكية").
وبنماذج أقرب الى ذاكرتنا التاريخية:
الثنائية البرلمانية التي سادت منذ ثلاثينات الألف الثاني، بين "كتلة وطنية"، بزعامة اميل اده، انشئت، وفيها من كل المناطق والطوائف، للمطالبة بحكم وطني في وجه ممارسة الانتداب الفرنسي الحكم المباشر. و"كتلة دستورية" بزعامة الشيخ بشارة الخوري، وفيها القدر ذاته من تمثيل كل الطوائف والمناطق، واكثر، وكان هدفها الدفاع عن الدستور والمطالبة بتطويره في اتجاه الاستقلال عن الانتداب الفرنسي واقامة دولة حقوق وحريات. وقد دفعت الصحافة (هذا بين هلالين) ثمناً غالياً فتعطلت صحف وأُسِرَ صحافيون كبار، الى ان كان ربيع ،1943 بالحلف بين الكتلة الدستورية و"عروبة" رياض الصلح.
ولما تدهور حكم الكتلة الدستورية، على استقلاليته، وصار الى الفساد واللاشرعية، تألفت "الجبهة الاشتراكية الوطنية" في برلمان 1951 وضمت، حول برنامج اصلاحي متكامل دقيق، نواب احزاب اربعة متباينة العقائد (وضعوا خلافاتهم العقائدية جانباً) ونواباً مستقلين كباراً، ومن كل الطوائف والمناطق، مرة اخرى.
* * *
منهج الجبهة الاشتراكية الوطنية لم يكن ثورياً، ولا اراد في الأصل ثورة ولا انقلاباً.
وكان، على العكس، في تطلعه الى العمل البرلماني الشفاف الخلاق، انما الناعم بالحريات... كان يتمثل بنماذج دعت اليها تيارات عريقة في العالم، وتُحكم دول اوروبية كبرى اليوم بمثلها... ابرزها "برنامج الحد الادنى" الذي يجمع الاشتراكيين والشيوعيين و"الخضر" في فرنسا، وكذلك التحالف الحزبي الذي يحكم المانيا، وايطاليا منذ الانتخابات الاخيرة.
وغاية المرام ان تنشأ الى جانب التكتل البرلماني، جبهة شعبية من غير البرلمانيين، احزابا ونوابا سابقين او لاحقين، وشخصيات سياسية مستقلة لها وزنها في الرأي، يساندون العمل البرلماني بدعم شعبي وثقافي اضافي ويكونون بمثابة القاعدة في المجتمع المدني.
* * *
وبعد، لا نجد ما نقوله لدعاة "الجبهوية" من المؤتمرين في الكارلتون افضل من هذا القول:
كما ان الحريات لا يدافع عنها سوى الأحرار،
كذلك لا تحصين للديمقراطية البرلمانية افضل من تكريس القواعد البرلمانية العريقة واستلهام جذورها التاريخية وتكوين هيكلية لها تقودها الى اليناع... وبصورة طبيعية شرعية غير عنيفة ولا عنفية - وتشترط على نفسها ذلك - يجب تحصين الدستورية بالدستور، وبفرض ممارسة الحقوق واحترام الحريات في قدس أقداسها، أي مجلس النواب، ولا تهرب منه الى سواه موئلاً ومقاماً.
اذذاك، يتحوّل مجلس النواب من مسرح "المسخرة" النيابية التي ارادوها له الى مجلس السيادة الشعبية التي وحدها تضمن الاستقلال.
واذذاك يهون على النواب النواب، بزعاماتهم المتعددة المناهل والاصول، استقطاب اكثرية تنتصر ضمن الشرعية الدستورية على "المهرجان العسكريتاري" (بالعثمانية، الوصف الاصح: "الانكشاري"، نسبة الى الجيش الغريب عن "الأهالي") وعلى الانكشارية القضائية وبقية معالم المشروع المسخ الذي كفانا التهويل به على انفسنا: "مشروع الدولة الأمنية - المخابراتية" التي يثبت التاريخ انها قد تقمع الحريات الى حين، ولكنها تعجز عن اقامة أمن لا يفترس نفسه بنفسه، ولو متستّراً بالاستقرار الدامي.
تماماً كما كان حولنا: من كل انقلاب انقلاب مضاد... وهكذا دواليك الى انتهاء الوطن والدولة الى "اللاشيء" التاريخي ولو متبرّجاً !!!
&