لماذا جوبِهت كل محاولات الحداثة الفكرية والعلمية في العالم الغربي مع بدايات القرن السابع عشر بالرفض والمقاومة الشديدة والتسفيه وكذلك الحال بالنسبة للعالم العربي والإسلامي منذ الثلث الأول من القرن العشرين..

من الطبيعي جدا ً أن لا تأخذ الأفكار التجديدية والتنويرية في أي مجتمع مداها الأخير في التسلل الطبيعي والسلس إلى العقليات التي استسلمت للجامد من الأفكار وخضعت كليا ً للموروثات الثقافية ذات القداسة الدينية..

وأية محاولة لاختراق الانسدادات الثقافية وخلخلتها وتفكيكها يعني ذلك في عرف المجتمعات المكبلة بأصفاد الموروثات وحكم القداسات الدينية وهيمنة الفكر الأحادي هي محاولة ليست سهلة على الاطلاق وتكتنفها المخاطر والمهالك وكلنا يعرف ما حدث ل ( غاليليو ) عندما خرج بنظريته عن دوران الأرض وكانت بمثابة إعلان تحدي السلطة الثقافية للكنيسة في تلك الأيام وكانت أقرب صورة لنا في عالمنا ما حدث للسيد ( القمني ) حينما وضع التراث الديني تحت المجهر فتلقى التهديد المباشر في حياته وعائلته ومستقبله..

ما حدث هناك في العالم الغربي قد انتهى تحديدا ً مع انبعاث أنوار الثورة الفرنسية وجهود التأثيرات الفلسفية لعصر النهضة والتنوير فكان أن تسيّد العلم والعقل وحكم القانون وسادت مفاهيم المجتمع المدني وتصالحت الكنيسة مع الحداثة الفكرية والثقافية والعلمية ولكن الصورة في عالمنا العربي والإسلامي لا زالت قاتمة جدا ً ولم تخرج من الأطر الدوغمائية والقداسات الدينية إلى رحاب التنوير والانفتاح والتطور..

وحينما تُخضعَ ( الأديان ) للنقاش الحر والتساؤلات القاسية والنقد والتمحيص ويتعرض ( التراث ) لمحاولات التفكيك الفكري والبحث العلمي تحدث المصادمات والمجابهات مع أصحاب الفكر الدوغمائي الذي لا يملكون امكانيات الصمود بوجه محاولات التنوير والاختراقات الفكرية لأنه سرعان ما ينكشف فكرهم على حقيقتهِ الهشة القائمة على جملة من الأساطير والمقولات ذات النزعة ( التبجيلية ) للتراث والدين والرافضة في مطلق الأحوال نزع القداسة عن المفاهيم الدينية وسلطة التراث..

واتجه الفكر الديني في مفهومهِ ( اللاهوتي ) الصرف الاستحواذي على العقول والمفاهيم وأنظمة الحياة إلى محاربة كل المحاولات التي تُعطي للمسئولية العلمية والعقلية حق التساؤل والنقد ومكاشفة الدين والتراث..

ولذلك يقول المفكر ( محمد أركون ) في جزءٍ مهم من كتابه القيّم ( الفكر الأصولي واستحالة التأصيل ) :

( سياق الثقافات القديمة كان يحبذ الإيمان بالعجيب المدهش أو الساحر الخلاب أو المعجزات الخارقة للعادة..

ولذلك فقد غلبت على تلك الثقافات عمليات التقديس والأسطرة وخلع التعالي والروحانية والنزعة الاطلاقية على الأشياء..

وعندما جاءت الحداثة العلمية وانتصرت راح يحصل العكس :

أي راحت التحليلات العقلية المولدة للنسبية ونزع القداسة والأسطرة والروحانية والصبغة المثالية عن وجه الأشياء تنتشر وتعم..

وينبغي أن نعترف بالحقيقة التاريخية التالية التي لا تدحض وهي :

أن الأنظمة اللاهوتية الطائفية الثلاثة قد غلبت النزعة التبجيلية والتعصبية على المسئولية الفكرية والروحية..

فكل واحد من هذه الأنظمة اللاهوتية اليهودية أو المسيحية أو الإسلامية كان يحرص كل الحرص على المحافظة على ما يدعوه بالتراث الحي وذلك عبر كل الأجيال والمنعطفات التاريخية..

ولم يكن همه الأول الدفاع عن الحقيقة..

وقد آن الأوان لكي نتخلص من هذه النزعة الطائفية والعصبية القروسطية ونرتفع الى مستوى المسئولية العقلية والفكرية..

ولا يمكن تحقيق ذلك إلا بعد اخضاع التراث الحي في كل دين من هذه الأديان الثلاثة إلى النقد القاسي ولكن المنعش للمعرفة العلمية وسوف يدفع ثمن هذا النقد دما ً ودموعا ً..

إن تاريخ الأنظمة اللاهوتية الثلاثة يشهد على مقاومتها الشديدة لتيارات الفكر الحرة والخصبة، وذلك باسم الاعتقاد الدوغمائي الذي يرفض الخضوع لأي تساؤل أو نقاش.. )

ولا تزال المحاولات التي تعتمد العقل والمنطق والفكر الحر لاختراق انغلاقات الأفكار الماضوية الغارقة بالأساطير والأوهام والتقديس في عالمنا العربي والإسلامي تجابه بالتسفيه والقمع والإرهاب الفكري ومُعرضة للاستلاب والمصادرة بحكم إنها محاولات ( تخريبية ) تهدف إلى خلخلة ( الدين ) وتشويه منابعه ومفاهيمه ومنطلقاته كما يزعمون وبالتالي يجب أن يبقى ( الدين ) بعيدا ً عن مسئولية العقل والتحليل العلمي والنقد الفكري..

وما حدث في العالم الغربي حينما اعترض المسيحيون التقليديون الدينيون على كل المحاولات التفكيكية للدين بحجة أن الدين فوق المساءلة النقدية والتاريخية يحدث الآن عندنا وبصورة شديدة الفتك بكل المحاولات التي تهدف إلى إخضاع الدين للتساؤلات النقدية والتاريخية خوفا ً عليه من الانكشاف أمام تلك المحاولات التفكيكية والتحليلية التي تنزع عنه القداسات والهالات المثالية لأنه كما يقولون أنه الدين ( الحق ) ويجب أن لا يقترب منه أحد بالمس أوالنقد أوالتشريح ويجب أن يبقى فوق كل محاولات الإنسان ( القاصرة ) عن إدراك مفاهيمه ومحتوياته التاريخية والقدسية والتراثية..

ولعل واحدٌ من أخطر المفاهيم انتشارا ً ورواجا ً وتمكنا ً عندنا بسبب سيطرة الفكر الديني الخاضع للقداسات التاريخية والتراثية أنه يرى أن الدين يقع خارج التاريخ وفوقه ولا يتأثربتحولات الظروف الحياتية ومؤثراتها الدائمة وتبدلاتها المستمرة كما يقول المفكر ( هاشم صالح ) :

( ما لايستطيع المؤمن التقليدي أن يفهمه أو أن يعترف به هو أنه يعتقد أن الإيمان أو المعتقد الديني يشكل خارج التاريخ أو فوق التاريخ ولا يمكن بالتالي أن يتأثر بضغوط الحياة اليومية أو الظروف الاجتماعية،ولكن التجربة أثبتت أنه مهما علا وسما مشروط بالتاريخ، وأنه ابن لحظة تاريخية معينة )..

لذلك متى ما تحررت العقليات من وطأة الاكراهات التاريخية والتراثية للدين ونزعت عنه القداسات والأسطرة ووضعته أمام مسئولية العقل التفكيري والنقدي ورفعت عنه هالات التعالي والمثالية والتبجيل ستصبح محاولات تفكيكه وتشريحه وتحليله مسئوليتنا الحقيقية لنخرج من سلطته المستبدة العائقة للفكر والعقل والتطور والبحث العلمي..

كاتب كويتي

[email protected]