يبدو أن الأجواء التي تخيم على محكمة صدام و الظروف الإستثنائية التي تمر بها العراق في ظل إستمرار مسلسل التفجيرات التي تستهدف الحياة اليومية للمواطن العراقي، أثرت الى حد بعيد على مجرياتها. و بالرغم من محاولات صدام لتسجيل بعض النقاط من خلال الإيحاء بالتفاني والشجاعة و الوطنية و العروبية،إلا أن المحكمة الجنائية العراقية الخاصة بمحاكمة رموز النظام البائد أثبتت جدارتها و أهليتها، بالرغم من كل الشكوك التي تحوم حولها.
محكمة صدام، بالرغم من الإمكانات المتواضعة، ترتقي الى مصاف محاكمات العصر. فهي ليست محكمة عادية تجرى لمسؤول سياسي تجاوز صلاحياته في إطار القانون، و إرتكب بعض التجاوزات التي تستدعي المساءلة و المحاسبة، و هي ليست أيضاَ محاكمة اخطاء سياسيين إنحرفوا في قراءاتهم عن جاد الصواب و دفعت شعوبهم الثمن، و إنما هي بحق محاكمة نظام سياسي عربي إستمد جل طروحاته و أفكاره و قيمه من لدن الفكر البعثي الذي تسبب في جرائم بحق الإنسانية ما يعجز عنه الوصف و البيان.
محاكمة صدام تستحق تصنيفها في خانة المحاكمات التي غيرت مجرى التاريخ،على شاكلة محاكمات الرموز النازية في نرومبرغ بعد الحرب العالمية الثانية، و كذلك المحكمة الدولية الخاصة بمحاكمة المتهمين بإرتكاب مجازر ضد الإنسانية في يوغسلافيا السابقة. فمحاكمات نورمبرغ كتبت فصلاً جديدا في تاريخ أوروبا الحديث، يقوم على إعادة بناءه و تشكيله بما يتفق مع المثل الديمقراطية و بما يحقق التنمية الإقتصادية و الإجتماعية، متزامناً مع الإصوات التي إنطلقت في حينه مطالبة بأوروبا موحدة و قوية. كذلك فعلت المحكمة الدولية الخاصة في لا هاي، عندما قدمت كل المجرمين المتهمين بإرتكاب المجاوز ضد المواطنين الأبرياء في يوغسلافيا السابقة من صرب و كروات و مسلمين للمحاكمة، و شكلت فرصة لإعادة الأمن و الإستقرار للبلقان المضطرب تاريخياً على خلفية التعدد الإثني و المذهبي، حيث أضحى الطريق ممهداَ لدول البلقان السابقة و الحديثة العهد في الإتجاه نحو اوروبا الموحدة التي يجري وضع لبناته الأخيرة في هذه المرحلة.
لهذا من الضروري النظر الى محكمة صدام و أعوانه في هذا السياق، من منطلق أنها تفتح الباب لمرحلة جديدة و مغايرة في مستقبل العراق و شعبه يقوم على مشاركة جميع أبناءه في رسم مستقبل بلادهم، بعيداً عن جميع أشكال الإقصاء و الإنكار، و كل مظاهر الإضطهاد و الإستبداد، حتى يأخذ العراق موقعه الطبيعي في محيطه الإقليمي و الدولي كمعزز للأمن و الإستقرار،و مثالاً و إنموذجاً تهتدي إليه شعوب المنطقة على طريق تأمين الحريات الديمقراطية و تحقيق التنمية.
قد تبدو المحكمة و هي تدخل فصولها المثيرة كمسرحية قل نظيرها، على إعتبار أن الأنظمة البائدة في تاريخ منطقة الشرق الأوسط كان مصير رموزها و شخصياتها، إما الموت ( غالباً عبر الإغتيالات ) و أما السجن مدى الحياة، حيث لم تشهد أية دولة عربية محاكمة عادلة لنظامها السابق. و ربما يعتقد البعض أن الإنتقام هو بوصلة العهد الجديد في العراق بعد أن تأخر الأمن و إرتبكت عملية البناء و تبخرت الآمال على وقع عمليات القتل و الإرهاب.
يبدو أن صدام و أعوانه محظوظون في هذا الأمر. فهم مازالوا يتصدرون صفحات الصحف و شاشات التلفاز التي تتابع كل تفصيلات محاكماتهم و يمتلكون الضمانات القانونية للدفاع عن أنفسهم و لكن حظوظهم لا تتجاوز فرحة الشعب العراقي الذي يتابع فصول الإرهاب و المأساة الممتدة لأربع عقود من تاريخ بلاده، ممتناً في مستقبل زاهر تنتفي فيه كل مظاهر و مآسي العهود السابقة. و هو علاوة على ذلك يتطلع الى محكمة عادلة و شفافة حتى تطمئن القلوب و تتعزز الأمال و الطموحات في مستقبل العراق و المنطقة برمتها. لهذا فمحكمة صدام و اعوانه هي محكمة العصر وإن لم تكن بمقاييس الأخرين و إنما بمقاييس تاريخ المنطقة.

زيور العمر