إن أحداً لا يناقش في أن العالم الثاني، عالم الإشتراكية الذي برز بقوة فيما بعد الحرب العالمية الثانية قد انهار تماماً ولم يعد له وجود أو تأثير في عالم اليوم. كما أن هناك إعتراف عام بأن العالم الثالث، عالم التحرر الوطني وعدم الانحياز، الذي تشكل تبعاً لثورات وطنية صاخبة بعد الحرب العالمية الثانية أيضاً، قد زال نهائياً حتى أن كافة دوله أخذت تجهد في إعادة الروابط القديمة ودعوة رؤوس الأموال الغربية التي كانت قد ناضلت نضالاً مريراً لطردها، تدعوها إلى العودة للعمل في سوقها الوطنية، والتي لم تعد وطنية، بكل الشروط المناسبة لها. لكن أحداً لم يعترف بعد بأن العالم الأول، عالم الرأسمالية الإمبريالية، العالم الذي عرفناه جيداً خلال النصف الأول من القرن المنصرم والذي تحكم بحركة التاريخ خلال القرون الثلاثة الأخيرة، ذلك العالم الراسخ الفسيح قد انهار كذلك بل كان الأسبق إلى الإنهيار وقد تم ذلك في إعلان رامبوييه (Declaration De Rambouillet) 1975. لا أحد يعترف بمثل هذا الإنهيار بالرغم من كل المنطق الذي يقول بأنه لا يجوز بحال من الأحوال أن ينهار العالمان الثاني والثالث دون أن ينهار العالم الأول المساكن لهما والذي اعتمد في بقائه دائماً على تواجد العالم الثالث كمحيط له يطرح فيه فائض إنتاجه الخانق.
السياسيون الجوف والذين يكتبون دائماً في السياسة بشكل خاص بالإضافة إلى الإقتصاد والإجتماع والدراسات الإستراتيجية دون أن ينسوا ذكر النظام الدولي الجديد ويتطرقوا كذلك إلى العولمة، هؤلاء الكتاب بل المعلقون على الأحداث لم يأخذوا في اعتبارهم على الإطلاق الحقائق الأولية والأساسية في هذا النظام الدولي الذي يعلقون على أحداثه ؛ وأولى هذه الحقائق هي غياب النظام الرأسمالي الإمبريالي غياباً تاماً دون أن يترك أثراً في أحداث الربع الأخير من القرن العشرين بما في ذلك تفتت الإتحاد السوفياتي بل ليس ثمة أي خطأ في الإدعاء بأن الإتحاد السوفياتي ما كان ليتفتت في عام 1991 لو لم ينهر النظام الرأسمالي قبل ذلك بخمسة عشر عاماً، في العام 1975. ومع ذلك يخرج علينا كاتب سياسي أجوف ليدعي أن النظام الرأسمالي إنتصر على النظام الإشتراكي المزعوم. إنني وبكل صدق وإخلاص أنصح هؤلاء من كتاب السياسة الجوف ألا يكتبوا على الإطلاق فذلك أكثر حفظاً لكرامتهم، وإلاّ فليدرسوا قبل ذلك علوم الإقتصاد بعمق كي يتعرفوا على ما يكتبون فلا تتجه كتاباتهم إلى خارج الموضوع فتطيش سهامهم ولا يعودوا إلاّ بالخذلان.

قام النظام الرأسمالي بداية على أساس قوي وثابت هو السوق الحرة (Free Market)، وهي الأساس القوي الدائم لأنها تقوم مقام الجهاز الهضمي في الحيوان. فالسوق تعيد تحويل كافة المنتوجات الرأسمالية إلى نقد ( نقد ـ بضاعة ـ نقد ) الذي هو الطاقة التي تشغّل مؤسسة الإنتاج الرأسمالية وتبقيها حية ومستمرة. الخمسة الكبار (G5) الذين اجتمعوا في رامبوييه لمعالجة أزمة النظام الرأسمالي القاتلة 1971 ـ 1975 أوصوا بإجراء عملية خطيرة للسوق العالمية للرأسمالية مثلما ورد في إعلان رامبوييه. كانت نتيجة العملية إتلاف السوق وإنسداد القناة الهضمية إنسداداً نهائياً غير قابل للإصلاح. قرر الخمسة الكبار غمر دول العالم الثالث التي كانت محيطية تمتص كل فائض الإنتاج في مراكز الرأسمالية، غمرها بفيضان من الأموال وصل إلى ثلاثة آلاف ملياراً من الدولارات كيما يمكنها من أن تشتري كل ما تكدس في مراكز الرأسمالية من فوائض إنتاج. بعد أن تم إجراء العملية كما وصفها إعلان رامبويية ما بين 1975 و 1980 وجدت هذه الدول الخمس التي امتلكت البضائع والأموال عام 1975 وجدت نفسها عام 1982 بلا بضائع وبلا أموال حيث أن الأموال التي أعيدت إليها قد أصبحت بلا قيمة طالما أن الدول المحيطية المقصودة لم تنتج ما يغطي تلك الأوراق النقدية ولو بجزء قليل منها. وهذا ما تسبب في تضخم نقدي هائل في الدول المركزية كما في الدول المحيطية حتى وصل في أكثر الدول إنتاجاً في العالم، الولايات المتحدة الأميركية، إلى ما يزيد على 20% سنوياً.
ما زاد الطين بلّة هو أن الدول النامية التي كانت تتقدم على طريق التنمية المستقلة والانفكاك التام عن السوق الرأسمالية الدولية ـ وهو ما أدى إلى نشوب الأزمة القاتلة في دورة الإنتاج الرأسمالية عام 1971 ـ هذه الدول، وبعد أن مارست الإستهلاك الواسع لسنوات وسنوات، قد انحرفت إلى الإقتصاد الإستهلاكي ووجدت نفسها غريقة الديون التي لا تقوى على حملها وأن طريق التنمية قد سدّت أمامها نهائياً كما وأن السواد الأعظم من شعبها قد تحـول إلى طبقة وسـطى تنتج خدمات رديئة وتستهلك أضعاف ما تـنتج.
الإنحراف إلى الإقتصاد الإستهلاكي النافي للإقتصاد الرأسمالي أفضى وبسرعة إلى إنحراف آخر أكثر خطورة تمثل في تعميم الإقتصاد الخدمي. فإنتاج الخدمات يصل اليوم في الدول المتقدمة إلى أربعة أمثال الإنتاج السلعي حتى غدا بإمكان أحد قادة الدولية الإشتراكية، شمعون بيريز، أن يقول بأن إنسان العصر لم يعد يشعر بحاجة ماسة للحذاء أو للجاكيت بمقدر حاجته للقراءة وللموسيقى وللرياضة. قامت الضرورة بداية في التاريخ لإنتاج الخدمات لهدف محدد هو خدمة الإنتاج السلعي ؛ وقد حافظ الإقتصاد الرأسمالي على الحد الأدنى من إنتاج الخدمات كيلا تتثاقل دورة الإنتاج السلعي. مع الإنحراف إلى الإقتصاد الخدمي خلال الربع الأخير من القرن الماضي انعكست الولاية إذ تدنى الإنتاج السلعي ليقوم بدور الخادم المطيع للإنتاج الخدمي.
إنتاج الخدمات ليس إنتاجاً رأسمالياً بحال من الأحوال إذ أنه لا يدور بذات الدورة (نقد ـ بضاعة ـ نقد) حيث يتحقق في الغالب بدون رأسمال وبدون أدوات إنتاج ذات اعتبار ؛ كما أن بضاعته كسيحة طالما أن الخدمات في المجمل لا تصل إلى السوق للعرض فلا تدخل في حالة الصنمية، صنمية السلعة. ولذلك يجري تحديد قيمة الخدمة بصورة تعسفية تحت الإدعاء بأن العامل الحدي في قيمة الخدمة هو درجة المعرفة وليس مقدار الشغل اللازم لإنتاجها. وتحت راية إقتصاد المعرفة تجري عملية إفتراس وحشية حتى بالقياس مع شريعة الغاب إذ تقوم الطبقة الوسطى وهي الطبقة التي تنتج الخدمات بافتراس الطبقة العاملة التي تنتج السلع ولذلك بتنا نرى الطبقات العاملة في البلدان quot; الصناعية quot; قد انكمشت بدرجة هائلة وبات حجم الطبقة الوسطى في هذه البلدان بل وفي كل بلدان العالم يساوي أربعة أمثال حجم الطبقة العاملة. التبادل الظالم جداً بين الطبقة الوسطى من جهة والطبقة العاملة من جهة أخرى، بين الخدمات والسلع، لن يعمّر طويلاً إذ ليس لدى الطبقة العاملة القدرة الكافية لتتحمل كل هذا النهب التي تقوم به الطبقة الوسطى. إن مرحلة الإقتصاد الخدمي أو الأحرى الإقتصاد التعسفي ستنتهي بسرعة حتى وإن ظل مصيرها مجهولاً.

إنهار النظام الرأسمالي العالمي وعبثاً حاولت حكومة مارغريت ثاتشر في بريطانيا وإدارة رونالد ريغان في الولايات المتحدة إحياء النظام الرأسمالي العالمي والعودة به إلى ما كان عليه عام 1970 إلا أن الجماهير الواسعة التي استمرأت رفاه الإستهلاك الواسع ردتهما على أعقابهما وأقامت حكومات الرفاه
(Welfare State) في كافة مراكز الرأسمالية الكلاسيكية وليس أدل على ذلك من سقوط بوش الأب في انتخابات 1992 مباشرة بعد أن كان قد سيطر بقواته العسكرية على منابع النفط في الخليج وشبه الجزيرة العربية. الدول الرأسمالية الإمبريالية الكلاسيكية مثل الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا وألمانيا واليابان لم تعد رأسمالية إمبريالية كما كانت قبل سبعينيات القرن الماضي. إنتهت الإمبريالية بإعلان رسمي صدر عن الأمم المتحدة عام 1972 وانتهت الرأسمالية بإعلان رسمي أيضاً صدر عن الخمسة الكبار في رامبوييه عام 1975 وإن لم يكن بكل الفصاحة المطلوبة.

ما يهمنا في هذه المقالة السياسية، وليس الإقتصادية، هو أن الأحزاب وخاصة في عالمنا العربي قد تحولت إلى عصابات بسبب فقرها للوعي وجمودها الإيديولوجي. تستند اليوم هذه العصابات في برنامجها السياسي على ما تسميه النضال من أجل التحرر من الإمبريالية. وبدون سبب معلوم تنسب الإمبريالية إلى الولايات المتحدة الأميركية وليس إلى اليابان مثلاً التي تنتج أكثر مما تنتج أميركا من الإنتاج الرأسمالي. ولئن اضطروا لتعيين السبب يقولون عن موقف الولايات المتحدة غير العادل في القضية الفلسطينية. الإنحياز لإسرائيل كان سياسة استعمارية بهدف استخدام اسرائيل ككلب حراسة للإمبريالية. أما اليوم حين لم يعد هناك من إمبريالية فليس ثمة حاجة لأية حماية خاصة وأن الشعوب العربية لم يعد لديها أي نهوض تنموي، بل إن مراكز الرأسمالية القديمة لم تعد تعارض النهوض التنموي في ظل شروط الإقتصاد الخدمي العالمي.
وما يهمنا بالدرجة الثانية هو الإشارة إلى أن أحدث نظريتين في الإقتصاد السياسي في الغرب وتحديداً في الولايات المتحدة الأميركية وهما نظرية quot; صدام الحضارات quot; لصموئيل هنتنجتون ونظرية quot; نهاية التاريخ quot; لفرانسس فوكوياما اللتان أشغلتا حيزاً كبيراً من الفكر العربي ـ أشير إليهما في استبيان إيلاف الأخير حول الكتب الجديرة بالقراءة ـ ليستا جديرتين بأكثر من إثارة السخرية. ظهرتا تدافعان عن النظام الرأسمالي واقتصاد السوق في بداية التسعينيات فقط بعد أن لم يعد النظام الرأسمالي واقتصاد السوق بحاجة لمن يدافع عنهما حيث كانا قد دفنا عميقاً في الأرض قبل أكثر من خمسة عشر عاماً. وهنا يصح القول في كل من السيدين هنتنجتون وفوكوياما ( لاحق الشتا بفروة ). نعم لقد تدثر كل من الكاتبين العالميين بفروة ممزقة بعد أن انقضى فصل الشتاء. سنكتب في مقالتنا القادمة في نقد نظريتيهما البائستين.

فـؤاد النمري
www.geocities.com/fuadnimri01