عندما إقتادت الموساد مع الCIA زعيم حزب العمال الکوردستاني مکبلا الى ترکيا، تهللت أسارير الساسة الترک فرحا و ظنوا لوهلة أنهم قد کسروا العظام الکوردية أو على أقل تقدير نخروها. وقد رافق ذلک الحدث المأساوي بالنسبة للکورد، حملة إعلامية ترکية"وحتى غير ترکية" مضادة للکورد و تطلعاتهم السياسية، کان أهم مايستشف من مضامين سطورها هو إنتهاء زمن الاساطير و إنتهاء أحلامهم الوردية بدولة کوردية. ولامناص من إعطاء الحق للساسة الترک کي يفرحوا و تذهب بهم مخيلتهم المتعبة بإقتصادهم الکسيح و مشاکلهم الاخرى الکثيرة المتفاقمة يوما بعد آخر، بعيدا جدا فيتصوروا أن اللعبة قد إنتهت، ذلک أن العصفور قد صار في أيديهم، فما نفع الخيط من دونه؟ لکن التداعيات الجديدة لحرب تحرير العراق ومانجم عنه من بروز واضح جدا للدور الکوردي في العملية السياسة في العراق، ناهيک عن ترسخ و تعزز الحکم الشبه المستقل للمنطقة الکوردية بأغطية رسمية ذات نقوش دولية، کل ذلک أعاد الصداع الکوردي الى رأس الساسة الترک و وضعهم مرة اخرى في مواجهة ملف السيد عبدالله اوجلان، ولاسيما حين تيقنوا أن الخيط الذي خلفه العصفور وراءه هو أطول و أغلظ من الذي تصوروه. والذي يثير حنق الاتراک و يزيد من غيظهم المتوقد، هو تلک الاستدارة الغير المتوقعة من قبل الاوربيين عن أنقرة بزاوية منفرجة نسبيا، وذلک حين طالبوا بإعادة محاکمة اوجلان في إشارة واضحة الى أن ظروف محاکمته السابقة کانت غير قانونية. والذي يدفع بالترک لعدم الاستهانة بالمطلب الاوربي، هو أن دول الاتحاد الاوربي لاتجد أية صعوبة تذکر في ربط عدم موافقة الترک على إعادة محاکمة زعيم حزب العمال الکوردستاني مع موضوع قبول عضوية ترکيا في الاتحاد الاوربي، مما يعني نوعا من لوي للذراع الترکية و تحديد حرکتها بإتجاه اوجلان. ولم يقف الامر عند هذا الحد وإنما تجاوزه وعبر خطوطا ترکية هي "مابعد الحمراء"، وذلک حين بدأ نوع من الغزل الضمني"المستتر نوعا ما" بين مؤتمر الشعب و الامريکان، کانت جهود واشنطن منصبة فيها على إخضاع مؤتمر الشعب لنوع من الجراحة التجميلية کي يلائم السياق الامريکي. ولانذيع سرا إذا قلنا أنه هناک مرحلة فتور و برود في العلاقات الترکية الامريکية تکمن علتها الاساسية في نقطتين جوهريتين مترابطتين ببعضهما وهما:
1 الدعم الامريکي "الغيڕ إعتيادي من وجهة النظر الترکية" للقوى السياسية الکوردستانية على الساحة العراقية و جعل هذه القوى رقما صعبا لا بالنسبة للعراق فقط و إنما بالنسبة لعموم المنطقة، وسير القضية الکوردية في العراق صوب آفاق جديدة تتوجس منها ترکيا و رفيقتيها في الهم الکوردي "إيران و سوريا" خوفا وفرقا.
2 التماطل الامريکي "بمبررات واهية" في معاونة ترکيا في القضاء على قوات مؤتمر الشعب المتواجدة في إقليم کوردستان على خلفية ذلک الغزل الضمني الذي ألمعنا إليه آنفا.
ولعل أن هناک الکثير من التداخلات و التفاعلات التي تمت و تتم في المنطقة و جميعها تصب في قنوات تعود في نهاية المطاف بالنفع على الملف الکوردستاني عموما والذي هو الاخر يمثل قلقا إضافيا لترکيا. إذ أن سوريا تشهد حالة من الصعود بالنسبة للتيار الکوردستاني و يرافقه نوعا من النکوص و الانتکاس للحکم السوري الذي يبدو أنه يسير في طريق لا عودة فيه. وقد تکون بدء زيارة السيدة کونداليزا رايس للعراق في الاسبوع الماضي من مصيف صلاح الدين"عرين الزعيم الکوردي مسعود البارزاني" رسالة قوية لأنقرة و طهران و دمشق على حد سواء. کل هذه الاحداث و التداعيات و التداخلات، من شأنها أن تمنح السيد عبد الله اوجلان زخما قويا وتجعله قوة إحتياطية ذات أثر فعال في الساحة الکوردستانية ضمن النطاق الترکي.خصوصا وأن هناک نوع من التباينات الواضحة في التصريحات المتضاربة التي تصدر عن الساسة الترک، فهناک من يستهين بالامر ويراه مجرد عملية شکلية لذر الرماد في العيون، في حين يراها البعض الاخر تشکل تدخلا فاضحا في الشأن الترکي و قد يکون له تأثيرات جانبية سلبية على ترکيا. کما أن أنقرة مازالت مندهشة من الموقف الاوربي حيال زعيـم حزب العمال الکوردستاني وترى فيه إنقلابا غير مفهوما على موقف سابق" أساسي صارم" أتخذ من اوجلان عشية إزدياد حمى محاربة حزب العمال و قائده ولاسيما في عقد التسعينيات من القرن السابق. وتتناسى ترکيا الکمالية أن السياسة في بعض الاحيان تتشابه مع الاقتصاد في "البحث عن الندرة" وهذا بالضبط ماتفعله دول الاتحاد الاوربي مع الملف الکوردي عموما وملف السيد اوجلان الذي يشکل جزءا مهما منه، إذ أن البحث عن الحلول النادرة في الاجواء العاصفة و المتلبدة"کما هو الحال في ترکيا" قد يشکل ضمانة قوية لحل معضلة باتت تداعياتها تصل البيت الاوربي. من هنا فإن دول الاتحاد الاوربي جادة تماما في موقفها ويقينا أنها قد تستمد جزءا قويا من جديتها و حزمها في هذا الامر من الموقف الامريکي الذي بات هو الاخر يتعاطف أکثر مع القضية الکوردية في ترکيا و يفضل أن تحسم بطريقة حضارية تتلائم مع المناخ الدولي السائد حاليا في العالم. بيد أن الاهتمام الاوربي بالقضية الکوردية و ملف السيد اوجلان من الممکن جدا تحليله و النظر إليه من زاوية اخرى، وهي أن أوربا"ولاسيما فرنسا و المانيا" تريد أن يکون لها دورا فعالا مشابها للدور الامريکي في المنطقة الکوردية بالعراق، وقد يزداد حمى الاهتمام الاوربي أکثر بالامر مع إزدياد الاجتماعات السرية التي تعقد بين الامريکان و قادة مؤتمر الشعب، وهو يعني"وفق الفهم الاوربي" أن واشنطن تريد أن تستحوذ على مجمل الملف الکوردي لوحدها وذلک مالاتريده اوربا. ومن هذه الزاوية بالذات جاء الاهتمام الاوربي بالملف الکوردي في ترکيا و بتعبير اخر تريد اوربا أن تتعادل مع الولايات المتحدة الامريکية في إهتمامها بالملف الکوردي في العراق"الذي دور اوربا فيه هامشي تماما". ويقينا إن الساسة الترک في الوقت الحاضر، يفضلون لو أنهم لم يلقوا القبض أساسا على الزعيم الکوردي اوجلان، ذلک أنهم قد تيقنوا أن اوجلان أسيرا أو حرا يلعب ذات الدور المهم على الساحة الکوردستانية.
کاتب و صحفي کوردي
مقيم في المانيا
[email protected]
التعليقات