العلاقات التي تجمع بين لبنان وسورية قديمة بقدم هذين البلدين الشقيقين، وتكفي عودة لثنايا التاريخ، للوقوف على ما كان يجمع بينهما ويشد أواصر كل منهما، فالشعبان جاران يحبان بعضهما، ويحترمان بعضهما، بل ويسندان بعضهما، وإذا كانت السياسة غير الحميدة، قد شاءت للشعبين ما شاءته، واذا كان للحرب اللبنانية إنعكاساتها السلبية على البلدين، ما نتج عنه تحكم الاجهزة المخابراتية اللبنانية السورية بكل شاردة وواردة. ناهيك عما وصل اليه الحال... فيبقى طلاق البلدين ليس ابغض الحلال، إنما من المحرمات.

ولكل واحد منا في لبنان تجربة مع السوريين، إن لم يكن مع الجهاز العسكري او المخابراتي... فبالتاكيد مع السائح او العامل السوري او بالطبع، مع من تربطهم في لبنان علاقات أعمق، من خلال المصاهرة بين الشعبين.

وفشل السياسة بين البلدين، واعتبار النظام السوري البعثي مع نظام مخابراتنا العتيدة من الأنظمة القمعية المتخلفة، لا يعني فشل العلاقة بين اللبناني كإنسان، وبين السوري كإنسان، ولعل موجة الإغتيالات التي حصلت في لبنان قبيل وبعد الانسحاب السوري، والتهديدات من جانب بعض المتضررين من انسحاب سورية التي استهدفت السلم الأهلي، ما أجج نار الأحقاد، وزاد من نقمة اللبنانيين الذين كفروا بالحروب مهما كان نوعها (حرب مدفع- حرب اغتيالات-حرب اعتقالات – حرب تجويع...).

ولا بد لي من ان اطمئن اصدقائي وصديقاتي السوريين الكثر، الذين وبعد استشهاد الرئيس الحريري، أصروا وبالغوا في سؤالهم عمن برأي وراء مقتل الرئيس الحريري، وكانهم يريدون ألا تسوء العلاقات على المستوى الشعبي المشاعري أيضًا وهذا من حقهم. فزعزعة العلاقات على مستوى الدولتين، تعرض لما هو خفي، إذ تعرّض لقلوب تنبض بمشاعر دفيئة، وتزخر بالأحاسيس المترفعة عن التفرقة والعنصرية.

كنت أود أن أكتب عن هذا الموضوع بعيد اغتيال الرئيس الحريري، إلا أن الظروف الحياتية العادية، كانت تمنعني، أو تنسيني ما بصدده، لكن مناسبة حديثة العهد جعلتني أعاود جمع افكاري، وأرشها في فضاء إيلاف الرحب الذي يسع لكل الآراء.

إن علاقتي بالشعب السوري علاقة من اطيب العلاقات؛ فمن الشام جاءت إلى لبناننا يومًا عروس تشبه الأميرات بحسنها ولباقتها، وقد تزينت بالخَلق والخُلق، إنها والدة صديقتي التي احبتني تمامًا كابنة لها، حتى إن رفيقتي راحت تغار مني قائلة ماما تحبك اكثر مني، ماما تناقشك وتحترم آراءك اكثر مما تاخذ براي، هذه الأم "السورية" لا أغالي لو قلت أمام الملأ إنها بمثابة امٍّ ثانية لي.

كذلك لي صديقة هي الأخرى من سورية إنها طبيبة، تعمل في إحدى المستشفيات اللبنانية، لا تنقطع عن زيارتي أبدًا، اراها اكثر مما ارى اهلي... وبعد اغتيال الحريري زارتني كعادتها تناقشنا بالموضوع، ثم راحت تجول في البيت تتأمل جدرانه لم افهم ما الذي اصابها ولم مزاجها متعكر في ذلك اليوم! بدت كالمهزوم في مباراة رياضية، سالتها عن ما يجول في خاطرها قالت لا شيء البتة، شربنا القهوة، لكنها كانت على غير ما عهدتها في الكلام، فالصمت هيمن على جلستنا.

بعد يومين من زيارتها تلك، سالت عنها أقاربها في لبنان قالوا لي: إنها ذهبت الى سورية، فجاة تفجّرت الدموع من عيني، لم أبك لأنها رحلت فحسب بل بكيت لشدة رهافة حسها، رفضت صديقتي إخباري بأنها راحلة فقد كانت تعلم سلفًا انني سأحزن على فراقها، وعلى حنوها علي، لقد خافت على مشاعري وكان الحري بنا أن نخاف نحن على مشاعرها، لكنها سمعت من الملامة ما اتعبها وأسقط من يدها الدفاع عن بلدها، امام كثيرين مبتلين بفاجعة الرئيس الحريري، والسؤال هنا من منا تهون عليه اوطانه؟

لكن وبعد فترة وجيزة، عادت صديقتي السوريّة الى لبنان، ذلك ان لا علاقة لها بالسياسة لا من قريب ولا من بعيد، عادت لتزرع الإبتسامة والمحبة الصادقة، أينما حلّت، فاهلا بهذه الصديقة "الطبيبة السورية"، ليست زائرة بل من أهل البيت...

خلال الحرب اللبنانية درجت مقولة " ما بخاف إلا يللي عاملّو شي عملة، والا بكون الواحد عمرو قصير". وهذا يكاد يكون قاعدة فبعد 14 شباط، كثير من السوريين رحل من دون رجعة، وكثير رحل ورجع، وكثير رفض الرحيل متشبثًا بحقه في البقاء في لبنان معللًا: انا أيضًا احب الحريري، وحزين على مقتله وانا مثلكم احب لبنان!

بواب العمارة التي نقطن فيها، إسمه أحمد وهو من سورية، له في لبنان ثماني عشرة سنة، أراد المغادرة بعد مقتل الحريري لكننا كلنا وقفنا في وجهه ومنعناه، لأنه"آدمي" والناس في الحي يحبونه كواحد منهم، أحمد بكى الحريري وحزن على مقتله بهذه الطريقة التي لا يستحقها بحسب قوله، من اعاد النبض الى قلب بيروت. ويوم وقع ابني عن الحائط كاسرًا يده الصغيرة، لم يجد سوى احمد يحمله بين ذراعيه، ويخفف عنه المه، هذا البواب "السوري" كلنا في العمارة نحبه ونحترمه. والأمثلة التي لا يساع لها المقام، كثيرة عن العلاقات بين الشعبين، التي لا تحتاج (لتصحيح العلاقات) بين لبنان وسورية. وعلى رأي فيروز "بحرب الكبار شو ذنب الطفولة" فبالفعل كلنا أطفال امام السياسيين، هذا إذا لم نكن اجنّةً لم تولدْ بعد، مقارنة بما يجهزون له، ويطبخونه سريًا في مطابخهم، فياكلوا هم... ونضرس نحن!.