من جبل آثوس في اليونان إلى الواحات الخارجة في مصر(جزء 2 من 3)
سنستعرض في هذا الجزء بعض محطات الرحلة التي قام بها الكاتب الاسكتلندي ويليام دالريمبل في عام 1994 مقتفيا أثر الراهب البيزنطي الرحالة جون موشوس وتلميذه سوفرونيس السوفسطائي في طوافهم بالأديرة والآثار المسيحية التي ضمتها الإمبراطورية الرومانية الشرقية في أواخر القرن السادس الميلادي.
أراد الكاتب أن يقارن مشاهداته بما سجلاه في مخطوط "المروج الروحية". ماذا بقي وماذا اندثر بعد مضي أربعة عشر قرنا، وأن يترك للأجيال القادمة تسجيلا لما لن يمكنهم رؤيته.. تسجيلا لما كان يسمى بالمسيحية في الشرق!!
كانت أول محطة في دير إيفيرون في جبل آثوس "الجبل المقدس" شمال اليونان حيث أقام ويليام في صومعة صامتة حتى سمح له بعد تردد بالاطلاع على النسخة الأصلية لمخطوط المروج الروحية في مكتبة الدير.. وكان مبعث التردد أنه "كاثوليكي" وهو ما يندرج في عرف الرهبان تحت مسمى "هرطوقي".
وكشف له أحد الآباء عن جانب من أسباب سوء ظن الروم الأرثوذكس بكل من هو مخالف لطائفتهم. فهم لم ينسوا أبدا أن عالما ألمانيا في القرن التاسع عشر قد غادر دير سانت كاترين في سيناء وقد أخفى بين طيات جمله أقدم نسخة للعهد الجديد كانت ضمن كنوز الدير.
وكانت المحطة الثانية هي تركيا حيث يمثل المسيحيون الآن أقل من 1% من تعداد السكان. فماذا وجد؟
Ä اسطنبول (القسطنطينية) عاصمة الدولة البيزنطية ومهد الأرثوذكسية وحاضنتها ما بين القرن الرابع إلى الخامس عشر (عندما سقطت في يد الأتراك العثمانيين). المدينة التي ضمت أروع نماذج العمارة البيزنطية: كنيسة القديسة صوفيا، فقدت الآن أهميتها وتنوع حضارتها وساكنيها. مئات الأديرة والكنائس لم يبق منها إلا العشرات والكثير منها ككنيسة القديسة صوفيا تحول إلى جوامع.
مازالت اسطنبول هي مركز بطريرك الأرمن وبطريرك الروم الأرثوذكس. ورغم أنه يفترض أن معاهدة لوزان لحماية الأقليات توفر الحماية لهاتين الطائفتين إلا أن الأرمن (حوالي 40 ألف نسمة) مازالوا يعيشون الذكريات السود للمجازر التي تعرضوا لها على يد الأتراك العثمانيين خلال الحرب العالمية الأولى. ويدفع الخوف بعضهم إلى التظاهر بأنهم أتراك مسلمون.
والروم الأرثوذكس أحفاد البيزنطيين، عانوا هم أيضا من التطهير العرقي في عشرينيات القرن الماضي لإفراغ تركيا من سكانها اليونانيين. ولم يبق منهم إلا حوالي 5 آلاف شخص يعانون الأمرين من أجل الحصول على إذن ببناء مدرسة أو كنيسة. وأغلق الأتراك كليتهم الإكلريكية فنضب منبع تخريج كهنة جدد منذ عام 1970. واضطر بعضهم لكي يعيش إلى أن يطلق على نفسه اسما تركيا. فمثلا من ولد باسم "ديمتريوس" أصبح الآن "دمير". ومعظم الباقين من اليونانيين هم من العجائز بعد أن هاجر كل الشباب القادر. ويبدو كأن آباء الكنيسة لم يعد لهم من عمل إلا صلوات الجناز فلا أفراح ولا تناصير.
ويتلقى البطريرك بين حين وآخر تهديدات بالموت ويتعرض مقره كما تتعرض محال المسيحيين وكنائسهم ومقابرهم للهجوم من قبل الإسلاميين المتشددين.
ويتفنن الأتراك في النكاية باليونانيين فكنيسة القديسة أيريني الرائعة يبقوها مغلقة وعندما يقررون يوما فتحها يكون ذلك لاتخاذها مقرا لمسابقة انتخاب ملكة للجمال!!
Ä أما أنطاكيا التي كانت هي والقسطنطينية من ضمن المراكز الخمس الرئيسية للكرسي البطريركي "إلى جانب روما والإسكندرية وأورشليم"، فلم يعد فيها الآن إلا 200 عائلة أرثوذكسية وبضعة كنائس ستندثر فور وفاة كهنتها الشيوخ وأديرة ستختفي بعد رحيل الرهبان الطاعنين في السن.
Ä جنوب شرق تركيا: وبالإضافة للأرمن والروم الأرثوذكس يعيش في تركيا عدد قليل (حوالي 2500) من الأشوريين الكلدانيين والسريان. تعرضوا مثلهم مثل الأرمن للإبادة الجماعية، ولكن لا تضمهم معاهدة حماية الأقليات ولذا فهم يسيرون سيرا حثيثا في طريق الانقراض.
وقد وقع سريان منطقة طور عبدين في جنوب شرق تركيا بين شقي الرحى في حرب العصابات الدائرة بين الأتراك والأكراد الساعين إلى الحكم الذاتي. فالحكومة التركية تتهمهم بالميل إلى الأكراد، والأكراد يتهمونهم بأنهم جواسيس للحكومة. ولذا لم يجدوا بدا من الفرار إلى أوروبا وأمريكا في هجرات جماعية.
وفي منطقة الأناضول لم يتلاش وجود الأرمن فحسب بل اختفت كنائسهم وأديرتهم ومقابرهم وكل ما كان يدل عليهم من على ظهر البسيطة. ولا يمكن الآن لعالم آثار أن يبحث عن آثار الأرمن في تركيا لأنهم ببساطة وحسب المعلومات الرسمية لم يوجدوا هناك أصلا!! وبقدرة قادر انمحت حقيقة وجود الأرمن الطويل في تركيا من صفحات التاريخ. ويأمل الأتراك في أن ينجحوا يوما في محوها تماما من ذاكرة التاريخ. ومن هنا جاءت محاولات الترهيب التي يتعرض لها المؤرخون لو حدث وأشاروا إلى وجود الأرمن.
وكانت المحطة التالية هي سوريا. ويتضح أن الانطباع الذي خرج به الكاتب (في ذلك الوقت من عام 1994) هو أن سوريا مازالت هي أفضل مكان في العالم العربي لحياة المسيحيين. بل أن سوريا كانت منذ بداية القرن العشرين تمثل واحة الأمان للسريان والأرمن الفارين من تركيا، النسطوريين والكلدانيين المطرودين من العراق والمشردين من مسيحي فلسطين.
واستشعر أثناء وجوده في سوريا أن المسيحيين هناك يشعرون بالأمان طالما استمر حكم نظام الأسد العلوي ولكن مخاوفهم تتعاظم من المصير الذي ينتظرهم في حالة انهيار هذا النظام.
وتنقل ما بين حلب حيث أقام في فندق البارون (الذي استضافت حجراته العريقة العديد من مشاهير العالم من أمثال كمال أتاتورك و أجاثا كريستي) ودمشق وحمص وغيرها من المدن والقرى.
ولاحظ ما لا تخطئه العين وهو حرية المسيحيين في إبراز ما يشير إلي عقيدتهم والامتزاج والسلام السائد ما بين أتباع الإسلام والمسيحية وتبرك البسطاء من العقيدتين بزيارة أضرحة الأولياء والقديسين على حد سواء.
وفي دير العذراء في سيدنيا قصت عليه إحدى الراهبات حكاية وجود صورة رواد الفضاء السوريين المسلمين المعلقة في الدير. فقبل رحلتهم إلى الفضاء الخارجي زاروا الدير طلبا للبركة. وعند عودتهم سالمين حضروا لتقديم الشكر للعذراء وأهدوا الصورة للدير.
ولكن كل هذا لم يمنع من تناقص أعداد مسيحي سوريا أيضا فوصل إلى ما يقرب من مليون ومائتي ألف نسمة فقط.
ثم عبر الحدود إلى لبنان التي كانت تحاول الإفاقة من كابوس سنوات من الحرب الأهلية التي دمرت وأحدثت شروخا عميقة في المباني والنفوس على حد سواء.
لبنان تتميز من ضمن ما تتميز بأنها تضم تشكيلة متنوعة من الطوائف الدينية والمذهبية. فبين المسيحيين تجد الموارنة والروم الأرثوذكس والأرمن والقليل من الأسيريين والكلدانيين واليعاقبة إلى جانب الإنجيليين والكاثوليك والأقباط. والمسلمون ينقسمون إلى شيعة وسنة ودوروز. بالإضافة إلى عدد محدود من اليهود.
ولذا فعندما اشتعلت الحرب الأهلية لم تقتصر على المسيحيين والمسلمين في مواجهة ثنائية فحسب. بل بدا أن الكل يقاتل الكل في صورة عبثية لم يسبق لها مثيل. الموارنة ضد الأرمن والروم الأرثوذكس. الشيعة ضد السنة..ميليشيات الموارنة يبيدون الفلسطينيين، ورجال فتح يقضون على المسيحيين.. المسيحيون والدروز يتقاتلون في الشوف والشيعة الموالين لإيران يهاجمون قري الموارنة في سهل البقاع وبعلبك.
ولكن في لبنان توجد نوعية من المسيحيين تختلف عن غيرها من مسيحي الشرق المتسمين بصفة عامة بطابع المسالمة واتقاء المواجهة والتي تصل أحيانا إلى حد السلبية والاستضعاف.
في لبنان يوجد الموارنة. الطبقة العليا المرفهة منهم فرنسيون أكثر من الفرنسيين أنفسهم. يتكلمون الفرنسية ويتنكرون لأصولهم السورية. الجناح المقاتل "الميليشيات" يتسم بالغلظة والقساوة وتشير إليهم (مع الإسرائيليين) أصابع الاتهام في بعض من أسوء المذابح "صبرا وشتيلا". الطائفة السياسية من الموارنة استماتوا في الاستمساك بموقفهم ورفضوا أن يشاركهم أحد السلطة. وكانت النتيجة أنهم خسروا الحرب الأهلية وتراجع نفوذهم السياسي وهاجر ما يقرب من ثلث عددهم إلى المهجر في أعقاب الحرب.
ولم تعد البطريركية المارونية إلا مبنى مهجور والأديرة المارونية في لبنان تكاد تخلو إلا من رهبان طاعنين في السن.
ويلاحظ أن نسبة كبيرة من مهاجري لبنان المسيحيين هم من الطبقة المتعلمة الراقية التي تتوق إلى العيش في أجواء تناسب ثقافتها وتطلعاتها.
طائفة أخرى في لبنان حوصرت في مرمى النيران المتبادلة أثناء الحرب الأهلية وهم اللاجئون الفلسطينيون المسيحيون. فلكونهم مسيحيين نظر إليهم الفلسطينيون المسلمون على أنهم مشروع خونة بينما اعتبرهم المسيحيون اللبنانيون إرهابيين.
وزار الكاتب "مار إلياس" أحد مخيمات اللاجئين الفلسطينيين المسيحيين في بيروت. والتقي بعائلة سمع منها قصة مأساوية عن معاناتها منذ هروب الأب بأسرته من قريته في فلسطين عام 1948 إلى جنوب لبنان. وتنقلت الأسرة من مخيم لآخر للاجئين بلا وطن ولا جذور ولا ممتلكات ولا استقرار. ولكن المذهل أن الإيمان والأمل مازالا هناك.
سأل المؤلف الأم: "ألم يدفعك كل هذا لأن تسألي نفسك كيف يسمح الله بكل هذه الويلات؟".
فأجابت بيقين : "ولكن الله لم يسمح بها! تلك الشرور هي من فعل البشر!" وعندما سألها هل تظن أنهم سيعودون يوما إلى منزلهم في فلسطين ابتسمت ابتسامة متفائلة قائلة: "هذا في يد الله.. سنرى.."
ثم تحط به الرحال في فلسطين حيث يحج إلى قبر جون موشوس وتلميذه سوفرونيس في دير القديس ثيودوسيس الذي لم يعد فيه إلا راهبة واحدة.
فلسطين، حيث ولد المسيح.. ماذا بقي من المسيحية هناك؟
في أورشليم العديد من الطوائف المسيحية. أكثرها عددا وغنى وممتلكات هي الروم الأرثوذكس (حوالي 100 ألف نسمة). وهناك الأرمن (حوالي ألفين) وقليل من الكاثوليك (الفرنسيسكان) والأقباط.
في عهد جون موشوس كان في صحراء اليهودية 150 دير للروم الأرثوذكس لم يتبق منها مأهولا إلا ستة أهمها دير القديس سابا حيث أقام ويليام واضطر لأن يبتلع (وهو الكاثوليكي) الملحوظة التي قالها عن اقتناع أحد رهبان الدير وهي أن بابا روما هو زعيم طائفة الماسونيين وأنه من عبدة الشيطان!!
كما كان هناك في عصر موشوس 70 كنيسة للأرمن اندثرت بالتدريج. ويبذل الإسرائيليون محاولات كثيرة عن طريق الوسطاء لشراء الأرض المملوكة للأرمن والروم الأرثوذكس في أورشليم. وتهمل السلطات الإسرائيلية عامدة حي الأرمن وترهق أصحاب المحال بالضرائب الباهظة. كل ذلك لدفعهم دفعا للرحيل.
ويتعرض المسيحيون لمضايقات وهجمات من جانب المسلمين المتعصبين والدوروز الموالين لإسرائيل. هذا بالإضافة إلى معاناتهم كغيرهم من الفلسطينيين من الاحتلال والنفي والتشريد.
وبعد أن لعب المسيحيون دورا قياديا في حركة التحرير. على سبيل المثال حنان عشراوي اللسان الفصيح والوجه المشرق للقضية الفلسطينية في المحافل الدولية، وعزمي بشارة، وإميل حبيب، وجدنا أن دورهم قد تراجع في الحياة السياسية بعد أن استبدلت شعارات الكفاح لتحرير الوطن بشعارات الجهاد في سبيل الله. واستبعد مفهوم المواطنة وأخرج المسيحيون من معادلة النضال. ولم يعد لمسيحي أورشليم حتى الحق في الانتخاب.
وكانت النتيجة أن هجرات المسيحيين التي بدأت منذ عام 1948 وشهدت موجة ثانية في عام 67، قد تعاظمت أخيرا. وتراجعت نسبتهم في فلسطين فلم تعد تزيد عن 15% من تعداد السكان وبدأت مجتمعاتهم تذوي ووصل الحال إلى أنه يوجد حاليا في سيدني باستراليا من مواليد أورشليم عدد يزيد عن الذين مازالوا يعيشون في المدينة المقدسة.
ولو استمر الحال على ما هو عليه لن تتواجد المسيحية مستقبلا في أرض المسيح كعقيدة حية. وستصبح أكثر الأماكن قدسية مجرد متاحف أثرية.
وفي الجزء القادم والأخير من هذا العرض سنصحب الكاتب إلى أرض مصر... إلى المكان الذي كان يعتبره أخطر محطة في رحلته: إلى الصعيد. وسنختتم معه الرحلة فيما كان يمثل الحد الجنوبي للدولة البيزنطية: الواحة الخارجة في صحراء مصر الغربية.
فإلي لقاء قريب لنرى كيف أضحى حال المسيحيين في الأرض التي لجأت إليها العائلة المقدسة والتي بارك الرب شعبها.
التعليقات