لم تنطلق من فراغ فكرة تسجيل هذه المشاعر، وإنما من الحاجة الماسة إلى بسطها في ظل انخراط البلد في المزيد من التخبط. الأخ البعثي يصرّ على الإهمال لما يستجد وبشكل يومي على الساحة السورية من ضغوط، في نوع من الأبهة الكاذبة تذكّرني بالشق البعثي العراقي، وشعاراته الرنانة و"أم المعارك"، و"جيش القدس" وبأنهم سوف يعملون على دحر العدو. هذه اللغة بعثية بامتياز سخّرت العواطف النبيلة لغايات دنيئة. على مرّ التاريخ كانت العاطفة شيئاً مقدساً، غير أن الأخ البعثي لعب على المقدس وأحاله بمصالحه إلى شيء معروض للبيع. وهنا تداعى إلى ذهني أن الأرض شيء مقدس، وتُروى بالدم، ولعل جزءاً من هذه القداسة جاء من كوننا منها انبعثنا، وإليها سوف نعود، وهذه الأرض المقدسة تعاملوا معها بتسفيه واحتقار شديدين. ولقد أشيع عن مسؤول سابق أنه دَفن مع أبنائه نفايات نووية في قلب الأرض السورية، ولو لم تكن هذه الأرض معدة للبيع والشراء بعرفه ومنطقه لما أحال جوفها إلى حالة مشعّة بموت آخر مؤجل للسوري الذي يسكن عليها. وعن الأرض أيضاً استرعى انتباهي مثال آخر، فجبهة الجولان باردة لم تُطلق فيها رصاصة، والرصاص كثير، فلو لم يَسحب رخصة القداسة من تراب هذه الأرض لرواها بالدم، وهذا ما يجب أن يكون، وفي حالة أننا غير جاهزين للحرب فلا بأس بالإعداد لها على أن نكون في الوقت ذاته مستعدين للاحتمالات كافة. لم يكن شريكي في الوطن لو عرضت عليه أفكاري ليكترث بها. يبدو هذا واضحاً وجلياً من الإرث الهائل لديه من السخرية، ليست على كل حال سخرية النبيه الفطن وأين هو منها وقد ضيّع العمر في شعارات كاذبة، ومن التخويف والتخوين اللذين وضع في قلبيهما السوري على مدى حكمه. ولسان حاله: لا أدري لماذا أنتم على هذا القدر من الحقد، لقد علونا بالعروبة بعد أن أظهرناها وجلوناها ونفضنا عنها غبار مستعمر ومتآمر، ودفعنا بها إلى آفاق أخرى متألقة بذاتها فجعلنا من العربية لغة أولى في الديار الممتدة من المحيط إلى الخليج، وكنا الوجه الآخر للإسلام السمح الذي وصل بروحه إلى كل بقعة من الأرض. ما " يميز " البعثي والكلام لي أنه يدّعي امتلاك كل شيء، ويعلن دائماً عن شرعية هذا الامتلاك، فما دامت لغة القرآن الكريم عربية وهم كما يزعمون عروبيون فهم والإسلام واحد، وينسون بتعمّد مفضوح أن الإسلام دين للناس جميعاً. هذا الخلط بينهم وبين الإسلام لا أدري له سبباً، ولعلهم يظنون في أنفسهم أنهم النخبة على طريقة " شعب الله المختار" يتفاخرون بالعروبة على الجميع وهم أول من ضيّع مفهومها، بوقوفهم إلى جانب الفرس في حرب الخليج الأولى، ومع الأمريكان في حرب الخليج الثانية. لن نناقش هنا شرعية حروب صدام ويتفق الجميع على طغيان هذا الرجل وإن لم يكن وحده الذي طغى في الساحة العربية، بل إن إخوانه في هذا المجال كثيرون كثرة هائلة. وهم أول من نزع حسّ العروبة عن ذاته، نحن لم ننزعه عنهم، ولهم مواقف كثيرة لا يحار العقل فيها بقدر ما هو مستهجِن لما يصدرونه من مواقف لا تتسم بالنبل ولا بغيره، وإنما تتسم بحُبّهم لمكاسبهم، ولأجل هذه حطّموا كل إمكانية بانتقال البلاد إلى الحدّ الأدنى.. إلى الحالة الإنسانية التي نزعوها عن إنسانهم الذي أفقروه وضعّفوه وسوّوا بكرامته الأرض ومرّغوا أنفه بالتراب، وكسروا عبر حكمهم كل جارحة سورية تريد أن تكسب كرامتها على أرضها، وأن تتحرر من رجس سيطرتهم المطلقة على كل شيء. بدا هذا واضحاً في مؤتمرهم الأخير. لم يلتفتوا إلى الداخل برغم وهنهم وعجزهم.
وهنا يبدو لي الشريك في الوطن وقد أصابه الحنق من شبكة الانترنيت. بدا هذا واضحاً على لسان وزير الإعلام السوري في محاضرته التي ألقاها في الرقة على جمهور عريض عندما قال ما في معناه أن مواقع الانترنت خاصة، ولا سيطرة لنا عليها. كانوا يتمنون لو باستطاعتهم إغلاق هذا المنفذ الرهيب الذي عرّاهم. ولأنهم عاجزون وصفوا الآخر ب"الحاقد" ذلك أن مؤتمرهم الأخير، كما زعموا، وضع الأسس لإلغاء قانون الطوارئ، وفي طريقه إلى تشريع قانون للأحزاب يصبح بموجبه الجميع مشاركاً في صنع القرار، وهو أيضاً في طريقه إلى حلّ بعض المسائل العالقة مثل تجنيس الأكراد. إلى جانب هذا كله، بنوا المدارس والمستشفيات وشقوا السبل في سوريا كلها، وأناروا البلاد حتى لم يتركوا قرية من دون كهرباء. وأما بخصوص دفن مواد مشعّة فهي محض افتراءات من مغرض، وأما جبهة الجولان فكيف يطلقون الرصاص ولم يحققوا بعد توازناً في القدرة!!!؟
ليس من تشفٍّ في هذه اللغة، بل إن هذه الأخيرة تنطق مرغمة بعشرات من صور القهر والإحباط وبعشرات أخرى من صور التغييب والإذلال. فأينما وليت وجهك في سوريا تجد أثراً من " اشتراكية " ممسوخة. تنظر فترى يافطات تدلّك على مكاتب لحزب البعث وفروعه في المحافظات وأخرى تدلك على الجمعيات الفلاحية والعمالية، وثالثة تدلك على فروع حماية " الثورة " ورابعة تشير إليك ببنان القهر أنهم باقون فوق صدرك كالجحيم. وإذا ما قررت أن تمعن النظر فسوف يصيبك العمى من الإمبراطوريات المالية التي تكونت في سوريا في ظل البعث " الاشتراكي " ويملؤك الغضب على حال الثقافة التي نُوِّمت في الحضن البعثي لتفيق منه على حال من البؤس، مشرّب "بعطر" ماسخ يشبه ذاك الذي تسكبه الداعرات على صدورهن ووجوههن.
شريكي في الوطن، وبرغم أنه عاث فيه فساداً، يصرّ على أن الحمق منا وفينا، وأننا مجرد أصوات تغيب في الفراغ، فور خروجها من الحلوق، التي أضيف لها من عندي أنها حلوق مجروحة أطاح بها البعثي فجعلها لا تقوى على غير الهمس. ولسان حالنا: إننا لسنا كذلك، وأما همسنا فلأننا لم نقوَ من قبل على رفع الصوت في ظل السيطرة العمياء من المخابرات على البلاد، وعلى المواطنين في كل بلدة وفي كل ناحية وقرية، وعلى كل شارع وزقاق. ولو أنهم استمعوا إلينا نحن "الآخر" لأدركوا حجم نفورنا منهم.
أما بخصوص نظرتهم إلى الإنسان عامة وإلى السوري بخاصة، فهي مرصودة بعيني من يمشي في الشوارع. تجد الناس "سكارى وما هم بسكارى" عيون في الأرض لا تعرف لوناً للسماء، تراقب الدبابات من كل نوع من الحشرات. وفي نوع من التنفيس عن غضبة تملؤهم، تراهم يسحقونها بأحذيتهم، وكأنما هم يريدون سحق شيء آخر.
هؤلاء الناس فقدوا البوصلة فتاهت كرامتهم بين الخوف من السجن والجلاد، وبين صمت عميق يمتد على ما يزيد على أربعين سنة من الحكم الفاشي. لقد تدهور السوري فتحول في أغلبه إلى راش ومرتش وإلى منافق غمّاز لمّاز نهّاز للفرص. ليس هذا قدراً ولكنه يشبهه إذا ما قيس بعمر الإنسان.
ما زلت أحفظ بعض أبيات الشعر، من تلك التي ترسم صورة البعثي في أذهان الناس وفي أعينهم وقلوبهم. إنها أشعار لخّصت الصورة القاتمة التي تركها عند " الآخر" المسحوق والمغيب، والمنتزعة حقوقه. من هذه الأشعار بعض أبيات أحفظها للشاعر المرحوم فيصل البليبل. من قصيدة ـ الله وشعراء وحزب البعث، آخذ هذين البيتين
يقول الله في الشعـراء قـولاً ويستثني الكرام المؤمنينا
ولو أصغى لحزب البعث ربي لقال فيهم كذبتم أجمعينا
ومن قصيدة كيمياء البعث
إن للبعـث كيميـاء عجـاباً تجعل الجوهر الكريم تراباً
كيمياء ترضى الشياطين عنها تطمس المكرمات والألبابا
لو أصابت سيوف خالـد منها قطرات أحلنـها أخشابـاً
ولعل ذروة النظر إلى حزب البعث تتمثل في هذا البيت
يا حزب البعث كرهناك شلّت يسراك ويمناك