ان للكذب دور كبير في حياة صانعي السياسة في الدول الديمقراطية خاصة وغير الديموقراطية عامة، حيث أثبتت الأبحاث أن الناخبين يتوقعون من السياسيين ان يكذبوا عليهم بل ويطلبون منهم ذلك في بعض الأحيان، هذا وإن برر السياسيون الكذب في حملاتهم الإنتخابية لكسب أصوات الناخبين إلا أنهم يمارسون شكلاً من ألعاب الورق "البلوت" مثلاً التي تتطلب من اللاعب بذل المستطاع لعدم الكشف عما بحوزته من أوراق.

ان المواطن تعود ان يكون هدفا لشعارات ووعود كاذبة تدغدغ طموحاته وتواسي آلامه رغم أنه يعرف من خلال التجربة أن أكثر هذه الوعود لاتتحقق، لذا فإن القائد أو الزعيم أو السياسي لا يجد غضاضة في إطلاق الوعود الطموحة رغم علمه المسبق بعجزه عن تحقيقها، كما أن الشعوب تكذب على قادتها بشعارات بالروح بالدم نفديك يازعيم وعندما يقع الزعيم في مشكلة لانجد من يساعده في الخروج منها.

وليس غريباً أن أسوق هذه المقدمة في الوقت الذي تستعد العديد من الدول العربية والإسلامية لإقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل رغم الكذب والنفي المتكرر وسنضرب لهذا مثلاً ذلك اللقاء الباكستاني-الإسرائيلي في إسطنبول الذي قال عنه مسؤول سياسي رفيع بأنه للدفاع عن القضية الفلسطينية، كما كرر أيضاً "ينبغي عدم إساءة الفهم، هذا لا يعني أننا نعترف بإسرائيل، ولن نعترف بها حتى يحصل الفلسطينيون على دولتهم" ثم استدرك "أو نلمس بوادر اتفاق في هذا الاتجاه".

أما الأسباب الكاذبة والتي تعطي إيحاء بالصدق فقد جاءت على النحو التالي :

- تعزيز الحضور الباكستاني على الساحة الدولية.

- القلق الباكستاني من أن التوازن الإستراتيجي في جنوب آسيا قد يتأثر بتنامي الروابط العسكرية بين إسرائيل والهند وقربهما من الولايات المتحدة.

- الهدف من اللقاء كان الدفاع عن القضية الفلسطينية.

- إن الاجتماع عقد عقب استشارة وموافقة أطراف عربية فاعلة على هذه الخطوة.

- رغبة الباكستان بعدم العيش في عزلة لأن الدول التي تتطلع إلى المستقبل تتلمس التغييرات العالمية مسبقا.

- إن باكستان لن تعترف بإسرائيل قبل إقامة الدولة الفلسطينية.

- إسرائيل تقول إن اللقاء جاء "بمبادرة من الرئيس الباكستاني الذي طلب من رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان القيام بدور الوسيط في هذا الصدد".

- باكستان تقول اللقاء جاء بضغوط أمريكية ورغبة شديدة وإلحاح إسرائيلي.

- باكستان تقول إن اللقاء جاء على خلفية الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة، ولتشجيع إسرائيل على المضي قدما بعملية السلام وصولا لإقامة دولة فلسطينية.

- خبراء ومحللين سياسيين يقولون إن اللقاء جاء بعد اتصالات سرية بين البلدين، مشيرا إلى أن باكستان تعتقد أن إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل من شأنها تخفيف الضغوط الهندية وتعميق العلاقات مع الولايات المتحدة.

- إسرائيل تقول إن تطبيع العلاقات مع باكستان سيشكل مدخلا لتطبيع العلاقات مع دول إسلامية أخرى كإندونيسيا وماليزيا وبنغلاديش.

ويتعلم السياسيون في علم السياسة بعض المباديء منها " انه ليس من الخطأ ان تكذب وإنما الخطأ هو أن يكتشف الناس إنك تكذب " وعلى أرض الواقع نعلم أن الجماهير قد يغفروا للكاذب فعلته لكنهم لن يرحموا ابداً من يقول الحقيقة، وتؤكد بروتوكولات حكماء صهيون على اليهودي أن يكذب و يكذب ويكذب حتى يصدق نفسه فيصدقه الناس، وحال الشعوب وزعماءها في علاقاتهم مع بعضهم البعض كحال أحد الشخصيات في مسرحية هنري الرابع لشكسبير حيث يقول " إذا كان الكذب يسعد مولاي فاني أسوق له كذبي بكل حبور".

اذن فالسياسيون والشعوب يكذبون على بعضهم البعض وهذا مايؤكده الواقع الذي تعيشه الأمم الديموقراطية وغير الديموقراطية على حد سواء. ويؤكد أحد الباحثين إن أحد أسباب لجوء السياسيين الى الكذب هو إصرار الجماهير على الدخول في تفاصيل لا يحبذ السياسيون مناقشتها بشكل علني. حيث قال " إنه لو غض الناخبون الطرف عن الكثير من الأمور لكذب السياسيون بشكل أقل".

ومن يتابع المؤتمرات الصحفية للسياسيين لوجد أن القاسم المشترك الأكبر فيما بينهم هو الإفصاح عن القليل والتهرب من الإجابة وربما الكذب في بعض الأحيان، ويبدو ان السياسيين على اختلاف أشكالهم يعتبرون إحتكار الحقائق وتصريفها بحذر جزء هاماً من طبيعة عملهم.


لعلنا بعد كل ما تقدم نستطيع القول بأن السياسيين يكذبون لإسعادنا ويسمعوننا ما نطرب له ومن يتقبل ذلك الكذب من الشعوب فإنهم في الواقع يكذبون على أنفسهم وهنا نتساءل ألم يكذب زعماء كثيرون في إيجاد المبررات لأفعالهم المشينة بحق البشرية وهي الحروب التي طحنت ولاتزال تطحن النفوس البريئة بحجج أمثال تدمير أسلحة الدمار الشامل والحرب على الإرهاب وحق العودة ومقاومة التطبيع والتوطين.

وفي نهاية مقالنا هذا ندعوا الساسة والزعماء أن يتحروا الصدق في أقوالهم وأفعالهم ليكونوا صادقين مع أنفسهم وشعوبهم، كما نحث الباحثين في العلوم السياسية على دراسة أقوال الساسة والمنظرين وشعاراتهم وحملاتهم الإنتخابية التي لاتخلوا من الكذب لتوضيحها لشعوبهم حتى نزرع الصدق في النفوس المريضة، الأمر الذي دعانا أن نقول كذب السياسيون ولو صدقوا.

مصطفى الغريب – شيكاغو