العالم العربي بين مفهوم الثورة والانقلاب خلال القرن العشرين الميلادي
مدخل :
تمثل السلطة بأشكالها المتنوعة واحدة من أهم القضايا التي شغلت الناس أفرادا وجماعات، بالإضافة إلى النخب الدينية، والثقافية، والسياسية، والاقتصادية في كل مجتمع طوال فترات التاريخ، باعتبارها مدخلا من مداخل التغيير والإصلاح من جانب، ومرتكزا للسيطرة والتحكم من جانب آخر، فكان أن تكالبت العقول والأنفس خلال مختلف الأزمنة من أجل تحقيق ذلك الهدف أيا كان نوعه، وأيا كان مجاله، دون النظر إلى قِيم الوسيلة في بعض الأحيان انطلاقا من القاعدة المشهورة " الغاية تبرر الوسيلة "، وهو ما كان سمة لكثير من أشكال الصراع على السلطة في بعض الفترات.
وعلى الرغم من أن صراع السلطة قد شمَلَ نماذج متعددة، وأشكالا متباينة داخل أروقة المجتمع، سواء كان متمثلا في الجوانب الدينية، أو الثقافية، أو الاقتصادية، إلا أن النموذج الأهم قد تمثل في الشكل السياسي والعسكري، الواضح تأثيره على الحياة الاجتماعية بشكل خاص خلال حقب التاريخ المختلفة، بحيث كان من الأهمية بمكان ليفرض نفسه على المؤرخين القدماء وإلى فترة قريبة، فلم يعبئوا بسواه، فسجلوا دقائقه وأخباره، وحروبه وأثاره.
ومن ذلك على سبيل المثال ما حَفَلَت به سجلات التاريخ الإسلامية التي وثقت لنا معارك الدولة الإسلامية العسكرية إبان عمليات الفتح، إضافة إلى تلك التي دارت رحاها فيما بين قادتها ابتداء من الفترة الراشدية، مرورا بالدولة الأموية، ومن ثم الدولة العباسية، وما تلاها من دول وإمارات حتى الوقت الراهن، وكانت بذلك (أي المصادر التاريخية) المصدر الرئيسي لتاريخ عدد من الحركات الثورية الهادفة لقلب نظام الحكم مثل الثورة العباسية سنة 132هـ ضد الدولة الأموية، إضافة إلى العديد من ثورات العلويين إبان العهد الأموي والعباسي، وثورات الخوارج خلال العهد الأموي على وجه الخصوص، وغيرها من الحركات الثورية التي صاحبت مسيرة التاريخ يمينا ويسارا، قديما وحديثا.
ولقد كان مصطلح الثورة خلال فترات التاريخ الإسلامي هو الصفة اللازمة التي أطلقها جل المؤرخون لكل عمل عسكري يهدف إلى تغيير السلطة الحاكمة، بغض النظر عن ظروف وملابسات وأهداف ذلك العمل، ودون النظر إلى مدى قابلية المجتمع له من عدمه، فتساوت لديهم مثلا : ثورة الحسين بن علي رضي الله عنه سنة 61هـ المدعومة مسبقا من قبل معظم أفراد المجتمع في منطقة العراق على وجه الخصوص، وإن انتهت إلى تخلي كثير ممن دعمها لأسباب نفسية وعسكرية، بثورة بابك الخرمي سنة 220هـ ضد الخليفة العباسي المعتصم، المعبرة عن توجه أقلية اجتماعية وفكرية داخل المجتمع الإسلامي آنذاك.
تطور المفاهيم :
وعليه فقد عمدت الدراسات التاريخية والسياسية الحديثة إلى التفريق من حيث المفهوم بين نوعين من الحركات السياسية والعسكرية الهادفة إلى تغيير السلطة، فالأول يعكس حالة المساندة الشعبية الإيجابية ومقدارها، ويوضح الدور الجماهيري، وهو ما أطلق عليه اسم " الثورة "، والآخر يعتمد على إحداث التغيير السياسي بأسلوب أحادي بواسطة مجموعة عسكرية لتحقيق أهداف معينة قد لا تعبر بالضرورة عن توجهات الشارع السياسية، والاقتصادية وغير ذلك، وهو ما أطلق عليه سياسيا مسمى "الانقلاب ".
وبالرغم من أن مصطلح الثورة قد اقترن بمجمل التغييرات والتحولات في البنى الاجتماعية والسياسية المصحوبة بالعنف، إلا أنه قد انساق في الوقت الراهن إلى معاني وسياقات عديدة، إذ قد يكون إشارة إلى حدوث تغييرات جذرية وأساسية في حقل من حقول المعرفة كالقول بالثورة الصناعية، والثورة التكنولوجية، وغيرها.
وتختلف الثورات في الوقت الراهن من حيث الشكل والنوع، فعلاوة على ما سبق من الثورة الصناعية والتكنولوجية المنخرطة فيما يعرف بالثورة العلمية التي لا تؤدي إلى تغيير سياسي بصورة مباشرة ولكن بشكل تراكمي من واقع انتقال المجتمع من حالة إلى حالة.
علاوة على ذلك، فقد برز مفهوم الثورة الوطنية التي تهدف إلى تحقيق السيادة والاستقلال مثل الثورة الأمريكية (1775 – 1783م)، والثورة الهندية سنة 1857م ضد الاحتلال البريطاني، والكثير من الثورات العربية ضد المحتل الأوربي، كالثورة الجزائرية الشهيرة بثورة المليون شهيد ضد الاحتلال الفرنسي التي انتهت بالاستقلال سنة 1962م، والثورة الليبية بقيادة المجاهد عمر المختار ضد الاحتلال الإيطالي، وغيرها.
كما ظهرت بعض المفاهيم الدالة على الهوية الفكرية للثورة المحدثة تغييرا جذريا على صعيد البنية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، مثل : الثورة الشيوعية الروسية سنة 1917م، والثورة الصينية سنة 1949م، التي هدفت إلى تطبيق مبادئ كارل ماركس (1818 – 1883م) القاضية بإلغاء نظام الملكية في مقابل تعميم مبدأ شيوع المال بين أفراد المجتمع انتصارا للطبقة العمالية الكادحة ضد الطبقة البرجوازية الرأس مالية ؛ وكالثورة الفرنسية عام 1789م التي حولت طبيعة الحكم السياسي في فرنسا من الملكية الأوتقراطية القائمة على توارث السلطة، إلى الجمهورية المعتمدة على تداول السلطة وفق آليات محددة، والمرتكزة على تدويل السلطة وفصلها عن بعضها البعض ضمن إطارها القانوني بين السلطة التشريعية، والقضائية، والتنفيذية، رافعة شعار الحرية، والإخاء، والمساواة، ومؤكدة على حق الأفراد في التنظيم، وحريتهم في الاعتقاد ؛ وكالثورة الإيرانية مؤخرا سنة 1979م التي تمكنت فيها النخب الدينية بمساندة جماهيرية واسعة من قلب نظام الحكم الملكي البهلوي، البعيد في توجهاته عن لوائح وأنظمة الشريعة الإسلامية، إلى نظام جمهوري إسلامي يقرر مبدأ تداول السلطة وفق آلياته وقواعده الشرعية.
وبالإضافة إلى ذلك فقد ظهرت مفاهيم أخرى تدل على الحالة الأمنية السلمية المصاحبة للثورة مثل : الثورة البيضاء أو الثورة المجيدة التي أطاحت بملك إنجلترا جيمس الثاني سلميا سنة 1688م، والتي كان من نتائجها إرساء دعائم حق البرلمان في تنظيم وراثة العرش وتحديد سلطة الملك بما عرف بالملكية الدستورية ؛ بالإضافة إلى ظهور مصطلح الثورة الخضراء الذي يستخدم لوصف الجهود الدولية لزيادة الإنتاج الغذائي في الدول النامية.
أما بالنسبة لمصطلح الانقلاب فلم تتعدد مفاهيمه، ولم تختلف أشكاله، حيث ارتكزت دعائمه على إعمال التغيير السياسي بواسطة القوة من خلال الانقضاض المفاجئ على القيادة الحاكمة، ملكية كانت أم جمهورية، والعمل على السيطرة على مقاليد السلطة، دون أن يكون للجماهير دور في ذلك.
وبالرغم من أن الصبغة الدموية هي الغالبة على كثير من الانقلابات السياسية التي أخذت الطابع العسكري، إلا أن بعضها قد حدث بشكل سلمي بهدف إنقاذ البلاد من هاوية السقوط الناتج عن ضعف أو ربما فساد السلطة السابقة والتي لا تحمل بين جوانبها أي تأييد نَخْبي أو شعبي، الأمر الذي يفسر الحالة السلمية المصاحبة لذلك الانقلاب وبخاصة في الدول العربية الجمهورية، كما حدث في اليمن سنة 1974م عندما انقلب المقدم إبراهيم الحَمِدي على الرئيس القاضي عبد الرحمن الإرياني، وكما حدث في تونس عندما سيطر زين العابدين بن علي سنة 1988م على مقاليد السلطة بحجة مرض الرئيس بورقيبة الدائم، وهو ما اشتهر بالانقلاب الطبي، ولم تقتصر هذه الانقلابات على الحكومات الجمهورية بل انضمت عدد من الدول الملكية إليها مثل انقلاب الملك الحسين في الأردن على أبيه سنة 1952م، وانقلاب السلطان قابوس في سلطنة عمان على أبيه سنة 1970م وغيرها، وقد أطلق السياسيون على مثل ذلك مصطلح الانقلاب الأبيض.
العالم العربي بين مفهوم الثورة والانقلاب :
عرف الوطن العربي في أواخر الأربعينيات مرورا بالخمسينات وحتى ستينات القرن العشرين العديد من الحركات السياسية والعسكرية التي غيرت من طبيعة وتركيبة الحكم والسلطة، وأدت نتائجها إلى حدوث تغييرات اقتصادية كان لها الأثر الواضح في قلب التركيبة الاجتماعية في كثير من البلدان، مثل ما حدث في سوريا سنة 1949م على يد حسني الزعيم الذي توالت من بعده حركات التغيير السياسية فيها، وكذلك التغيير السياسي في مصر سنة 1952م الذي أنهى الحكم الملكي، وفي العراق سنة 1958م الذي كان من جرائه انتهاء الحكم الهاشمي الملكي، وفي اليمن سنة 1962م الذي أنهى حكم الملكية المتوكلية، وغيرها.
وقد حرص معظم زعماء حركات التغيير تلك على إضفاء الشرعية القانونية لحركاتهم، من خلال التأكيد إعلاميا، ومنهجيا على مساندة الجماهير المطردة لهم، من أجل تحقيق القيم الخيرية التي انطلقت منها مختلف تلك الحركات، مما جعلهم يعمدون إلى إدراج تغييراتهم ضمن إطار مفهوم مصطلح الثورة.
والسؤال : هل تنطبق مفاهيم وقواعد الثورة الأنفة الذكر على مجمل حركات التغيير السياسية التي عاشها عالمنا العربي في الفترة الماضية ؟ ثم، هل أدت تلك التغييرات السياسية الهدف المنشود منها ؟ بمعنى، هل تحقق مفهوم تداول السلطة وفق المعايير الضامنة لذلك التداول على أساس حرية التنافس السلمي بين الأحزاب والنخب السياسية في الدول الجمهورية بحسب ما تنص عليه أنظمة ولوائح الحكم الجمهوري ؟ وهل تطورت الآليات الاقتصادية في تلك الدول وفق منهج اقتصادي معين ؟
إن الثورة العادلة المطالبة بما سلب من حقوق وكرامة للإنسان تعني في أبسط مفاهيمها تمكين ذلك الإنسان من ممارسة ما سلب منه من حقوق قانونية ودستورية، كما أنها تعتمد في انطلاقتها على المساندة الجماهيرية العاملة على تحقيق فعل التغيير السياسي بالدرجة الأولى، نتيجة لتزايد الشعور بالضيق والإحباط الاقتصادي والاجتماعي المترتب على سياسية النظام الحاكم، أو انطلاقا من الإيمان بأفكار وعقائد تتعارض مع فكر وعقيدة النظام الحاكم، وهي في ذلك تنطلق من قاعدة الهرم العريضة لتتعاظم تدرجيا وصولا إلى الرأس الذي يمثل النهاية الحدثية للفعل السياسي الشعبي، كما وضح ذلك في الثورة الفرنسية سنة 1789م التي ابتدأت شرارتها الأولى، وتعاظم لهيبها من داخل فئات المجتمع الشعبية المختلفة وصولا إلى القصر، وكذلك الأمر بالنسبة للثورة الإيرانية سنة 1978م التي انطلقت بداياتها من أعماق الأزقة والشوارع، لتتفجر أهدافها في وجه أنظمة السلطة وآلياته الأمنية، فكان أن تدمرت وسائل دفاعه في مواجهة النهر البشري المتدفق المقاوم.
وهو ما افتقدته العديد من حركات التغيير السياسية في الوطن العربي، إذ لم تنشأ شرارتها الأولى من نبض الشارع، وبالتالي فلم تعبر عن أهدافه وتطلعاته بشكل عام، علاوة على أن كثيرا منها لم يعكس مجمل الشعارات والمطالب التي تمت الدعوة إليها، مثل تحقيق العدالة الاجتماعية، والمساواة السياسية، والرخاء الاقتصادي، وغير ذلك.
ولو نظرنا إلى خريطة الملامح السياسية في المثلث الثوري في كل من مصر، والعراق، واليمن على سبيل المثال، لرأينا أنها لم تختلف في تطورها وأبعادها عن بعضها البعض، ولم تلبى الحد الأدنى من ملامح شعاراتها السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، فالتداول السلمي للسلطة بين النخب والأحزاب السياسية في تلك البلدان يكاد يكون منعدما، والوعد بالنمو الاقتصادي الشامل يكاد يكون مفقودا، إن لم تتراجع مقدرات الأفراد والمجتمعات الاقتصادية بشكل ملحوظ، والحلم بالعدالة الاجتماعية تلاشى في ظل تغير مفهومه الأيدلوجي، بحيث سمحت مختلف حركات التغيير السياسية تلك بظهور طبقة اجتماعية جديدة، لها جميع استثناءات طبقة القصر السالفة إن جاز التعبير.
وبالرغم من تشدق هذه الأنظمة السلطوية بتطبيق الفعل الديمقراطي من خلال إجرائها للانتخابات النيابية والرئاسية، إلا أن ذلك لم يَرقَ للتأثير الإيجابي الهادف إلى تحقيق المطالب والتمنيات لإنسان الشارع العادي، بحيث لم تحقق تلك الانتخابات الهدف المنشود منها القاضية بتفعيل تداول السلطة، كما لم تعبر المجالس النيابية عن دورها في الرقابة والتشريع الحقيقيين، بل إنها على العكس من ذلك كانت الستار القانوني لتأكيد احتكار السلطة، مما كرس الفردية لتتحول هذه الأنظمة بشكل أو بآخر إلى سلطة ملكية في قالب جمهوري.
وهو ما تؤكده معظم الاستفتاءات الرئاسية التي تقرب نتيجتها من المائة بالمائة، مما جعل الكثير من الرؤساء العرب يملكون شرعية تفوق شرعية رئيس أي دولة في الغرب الديمقراطي ؟! ؛ ولعل الفرق بين الحزب الواحد والأسرة الواحدة في الحكم كامن في أن الأخيرة كانت برضى من شعوبها، وقناعة منهم، بأن ذلك هو ما يقرره دستور الدولة، أما الأولى فهو بعدم اختيارهم، وبشكل مخالف لنظام الدولة الدستوري القائم على التعددية وتداول السلطة كما هو مفترض.
وعليه فإن جل ثورات العالم العربي التي قامت لتصحح وضعا سياسيا، واقتصاديا، واجتماعيا، بحسب تعبير زعمائها ومنظريها، تحتاج إلى ثورات أخرى تصحح مسارها، وتعيد مضامين ما قامت من أجله، وتعمل على تطبيق قوانين العدل الضابطة للحقوق السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية للشعوب المنتهكة حقوقها.
التعليقات