كلما بدأنا الحديث عن فلسطين إستكملناه بالحديث عن إسرائيل وكأنهما وجهان لعملة واحدة، إنه ذلك التلازم القدري الساخر بين الجاني والضحية، بين اليهود والعرب، بين الإسرائيليين والفلسطينيين، من يؤمنون بالعدل يأملون أن تتغير قواعد اللعبة السياسية في ملتقى القارات (فلسطين، إسرائيل)، لتحقيق التوازن بين الجاني والضحية ليكون هناك عدل في القضية.

مساحة من الأرض يسكنها مسلمون ويهود ومسيحيون، أمن العالم مرتبط بها ومهدد بأسره فهل المشكلة في الأرض أم في سكانها أم في من يغذي العنف فيها سواء كانت جهات داخلية أم خارجية أم هي حكمة إلهية لبداية نهاية الحياة على الكرة الأرضية بعدما يعم الظلم ويظهر الدجال ويبعث المسيح.

جميع الكتب السماوية تحدثت عن هذه المنطقة وأحداثها ومازالت الأحداث تتسارع وتتغير والعنف فيها يزداد وينمو ويطرد وتتغير السيطرة على المساحات الأرضية بين الجاني والضحية، أخيراً قررت إسرائيل أن تنسحب من قطاع غزة تحت مسمى خطة فك الإرتباط وإعادة إنتشار لقواتها الأمر الذي أدى الى فتح الحدود بطريقة عشوائية بين شطري مدينة رفح والتي تقع على الحدود الفلسطينية المصرية، وتتميز بأراضيها الرملية حيث تحيط بها الكثبان الرملية من كل جهة، وعرفت قديما بأنها الحد الفاصل بين مصر وسوريا على البحر المتوسط.

مرت رفح بأحداث تاريخية هامة منذ العصور القديمة وذلك لتميز موقعها، وفي عام 1906م، حدث خلاف بين العثمانيين والبريطانيين حول ترسيم الحدود بين مصر والشام، وفي عام 1917م، خضعت رفح للحكم البريطاني الذي فرض الانتداب على فلسطين. وفي عام 1948م، دخل الجيش المصري رفح وبقيت تحت الإدارة المصرية إلى أن احتلها اليهود في عام 1956م، ثم عادت للإدارة المصرية عام 1957م، حتى عام 1967م، حيث إحتلها اليهود. وبعد توقيع اتفاقيات كامب ديفيد إستعادت مصر سيناء ووضعت أسلاك شائكة لتفصل رفح سيناء عن رفح فلسطين.

وتقدر مساحة ما ضم إلى الجانب المصري حوالي 4000 دونم وبقى من مساحة أراضيها 55000 دونم أُقتطع منها حوالي 3500دونم للمستوطنات، يعود معظم سكان رفح في أصولهم إلى مدينة خانيونس وإلى بدو صحراء النقب وصحراء سيناء ثم أضيف إليهم اللاجئون الفلسطينيون الذين قدموا لرفح بعد النكبة في عام 1948م، وترجع أصولهم إلى مختلف قرى ومدن فلسطين المحتلة خاصة التي كانت تابعة لقضاء غزة.

تعرضت مدينة رفح الى مجزرة وعدوان سافر كانت حجة إسرائيل فيها هي تدمير الأنفاق المقامة بين شطري المدينة لمنع تهريب السلاح من مصر الى غزة، وفي ذكرى المجزرة لابد أن نتذكر قول بيتر هانسن مدير وكالة الأونروا إن الأمر مؤثر جدًا "كما في كل مرة نشاهد فيها مثل هذا العدد من المدنيين يفقدون منازلهم ويحرمون من كل شيء". وبين الحين والآخر يلوح في الأفق بصيص أمل عندما تتعالى الأصوات المطالبة بحماية دولية للفلسطينيين أو قيام محاولات لمنظمات دولية جادة للوقوف إلى جانب منكوبي مدينة رفح.

بعد الإنسحاب الإسرائيلي إنطلقت ثلاث حجج لتقرير مصير شطري رفح ومعبر صلاح الدين على الحدود :
الحجة الأولى إسرائيلية : تقول أن هناك أنفاق بين شطري رفح مقامة لتهريب السلاح الى قطاع غزة.
الحجة الثانية مصرية فلسطينية : تقول لابد من السيطرة على المعبر لحفظ الأمن ولمنع تهريب المخدرات ولتنظيم الإنتقال الشرعي للسكان والبضائع.
الحجة الثالثة للمواطنين الفلسطينيين والمصريين : تقول إن أبناء المنطقة بحاجة الى زيارة أقاربهم والتسوق والشعور بحرية زوال الإحتلال.

وبين هذه الحجج الثلاث ومؤيدي كل حجة تبقى رفح أسيرة غير موحدة ويبقى سكانها وسكان قطاع غزة في معاناة حقيقية لم يفارقهم من زمن السلطة العثمانية والإنتداب البريطاني والإحتلال الإسرائيلي والحروب المتعاقبة على المنطقة.

تتعاون السلطة الفلسطينية والمصرية على فرض الأمن وتهدئة أبناء المدينة الواحدة بعد الإنسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة في الوقت الذي ماتزال إسرائيل تغلق معبر رفح الحدودي المسمى معبر صلاح الدين لتحول قطاع غزة الى سجن كبير، وإذا طال أمد هذا الإجراء فستنتعش الحركة عبر الأنفاق بين شطري المدينة لتلبي حاجات المواطنين ليتنسموا عبير الحرية بعد خروج قوات الإحتلال وهو شيء طبيعي أن يتم خصوصاً في الفترة الأولى للجلاء للتعويض عن الكبت والقهر الذي عاناه أبناء قسمي رفح لمدة ثمانية وثلاثون عاماً.

أنباء تتحدث عن إقتراح "يقضي بسفر الافراد الفلسطينيين الذين يحملون بطاقات هوية (ارقام وطنية) ذهابا وايابا عبر المعبر لكن غير الحاصلين على بطاقات هوية (مثل اللاجئين والنازحين) يمكن دخولهم بعد التوصل الى اتفاق".

إن الخلافات مع (اسرائيل) "لا زالت حول فئة غير الحاصلين على بطاقات هوية وامكانية دخولهم قطاع غزة بتصريح زيارة فلسطيني أو اسرائيلي". ويفصل بين قطاع غزة ومصر شريط حدودي يبلغ 220 كلم من رفح شمالا وحتى إيلات على خليج العقبة جنوبا يطلق عليه الجيش الإسرائيلي اسم "ممر فيلادلفيا". ويتراوح عرضه بين 80-180م في أجزائه المختلفة، منها 14 كلم قبالة مدينة رفح ومخيماتها، والجزء الأكثر سخونة منه في المواجهات بين المقاومين الفلسطينيين وجنود الاحتلال يقع ما بين مصر ورفح بطول 9 كلم.

ويدخل ممرّ فيلادلفيا إذنْ كعنصر أساسي في الإستراتيجيّة الأمنيّة الإسرائيليّة الكبرى، والتي ترتكز على الأهداف التالية:
الأمن الغذائي والمائي.
الحماية الأمنية لشعب إسرائيل.
إحتكار أسلحة الدمار الشامل في المنطقة.
التفوق العسكري بتفكيك دول الطوق.

وتساهم إسرائيل في تشكيل الأحداث إيجاباً وسلباً فهي إقترحت منح الفلسطينيين أرضا مصرية على الحدود لاقامة الدولة الفلسطينية وإستيعاب قسم من اللاجئين الفلسطينيين في تلك الاراضي!ومعالجة مشكلة الاكتظاظ السكاني هناك ولايخفى على المتابع للأحداث مافرضه الإحتلال من حدود مصطنعة لفصل أبناء العائلة الواحدة للعيش منفصلين عن بعضهم البعض فكان من الطبيعي بعد الإنسحاب أن يحدث التدافع بين آلاف السكان والتدفق نحو طرفي الحدود لتعزيز التلاحم بين الأسرة الواحدة التي تم فصلها قسراً بفعل الإحتلال.

بعد الإنسحاب تعالت أصوات، إعادة ترسيم الحدود بين قطاع غزة ومصر بهدف جمع شمل العائلات المنقسمة ما بين شطري رفح المصرية والفلسطينية، وإلغاء الآثار المدمرة التي خلفها الانتداب البريطاني في المنطقة، وذلك باعادة توحيد رفح ورسم الحدود عند العريش، هذه الأصوات جميل ظاهرها إن تمت بإتفاق وخبيث باطنها إذا أسفرت عن نزاع إقليمي من أجل مزيد من الدوران في دوامة العنف.

مصطفى الغريب – شيكاغو