إشكالية الإسلام السياسي العبرة التاريخية التي يلاحظها المراقب من خلال تتبعه للمتغيرات العنيفة التي تشهدها المجتمعات،أن الشعب الذي يتعرض إلى كوارث من حروب وتناقضات سياسية واجتماعية واقتصادية صارخة وهجمات تدميرية وظروف مؤلمة سيجبر على تبني إحدى حالتين ؛ إما أن يتكاتف ويستجمع قواه ويبلور مفاهيم واضحة تمكنه من مواجهة الظروف الشاذة في عملية إصرار على بناء مستقبله،حيث المجتمعات الحية المتجذرة تاريخيا والتي تؤمن بوجودها وتعده ضرورة تاريخية وحضارية لما لها من دور فاعل في الحياة البشرية والتي لن تتنازل عنه ولو قدمت أعظم وأغلى التضحيات،أويتفكك هذا الشعب ويتلاشى وتنهار قواه ويختفي وجوده في الواقع السياسي.
بعد الحروب والاحتلال والادعاءات المتناقضة لازالت الدولة العراقية تواجه وتتحدي الانهيارات السياسية والاجتماعية والاقتصادية،فهل ستتمكن من الاستمرار والصمود أم ستتمزق وتتلاشى من خريطة المنطقة وتصبح في ذمة التاريخ؟
سؤال كبير وخطير لابد أن يواجهه كل (عراقي...) ويسعى بجدية للإجابة عنه.
المجتمع العراقي لا يعاني إشكالية التصادم بحد ذاتها، فالتنوع والتعددية القومية والمذهبية لم تكن ذات يوم حافزا للتناقض والتصادم بدليل أن النسيج المجتمعي العراقي - ورغم كل الإفرازات السلبية- لازال يرفضها ويتوافق بل يترابط في عملية انصهار مستمر،حتى انك لن تجد عائلة عراقية إلا والتعددية قد أصابتها أو تعاملت معها كفعالية اجتماعية إيجابية، (إذ لا مجتمع يخلو في الأصل من تنوع وتعدد ولا أمة تعرى من انقسام وفرقة ولا اعتقاد يبرأ من شكك ومخالفة، فالطبيعة هي التي تملي الفرق والاختلاف،أما التماثل والائتلاف والتوحد فهو من صناعة العقل وثمرة ثقافة ونتاج المفهوم )* ومن خلال هذه النظرية،فالتنوع حالة طبيعية والفرق حالة ملازمة لهذه الطبيعة وهذا التلازم يمنح الحياة معنى لوجودها وإثراء لسببها وبه تدور عجلة البناء الحضاري من خلال استثمار الإمكانات وتفعيل التنوع والتعدد وهذا ما نجحت به أمم عديدة في التاريخ البشري.
الإشكالية التي يعانيها المجتمع العراقي ودولته ؛هي في تبني القوى السياسية المؤثرة فيه مفهوما شاذا ومنتجا سلبيا للتنوع والتعدد والاختلاف،فالاقصائية وإلغاء الأخر وعدم الاعتراف به أو التحسب على انه نقيض من خلال الرفض، أصاب المجتمع وسبب وعي متقد في السلبية والافتراق،(فمادمت مواجها سلبيا للآخر فلما أصر على التمسك به والافتراق أجدى لي؟ )هذه النظرة انحدار في مفهوم الطبيعة لأنها وعي متدن لمفهوم الإنتاج الحضاري وتراجع للإبداع البشري في اللقاء والتلاقح والإبداع، وتاريخ الحضارات يكشف بوضوح شاخص على أن حالة الاتصال والتلاقح وقبول الأخر ماديا وفكريا وفلسفيا كانت أساس لأثراء الإنتاج الحضاري،وهنا تبرز أهمية المعيار الفكري المؤسس للنظام المعرفي الذي يحرك الفاعل البشري في المجتمع.
هذه الأزمة عمقتها القوى السياسية المؤثرة في المجتمع العراقي من خلال تغييب الهوية الوطنية واستحضار الفكر الديني المذهبي أو القومي العنصري كأساس اجتماعي للنظام السياسي المرجو إقامته،فالقوى الأكثر تأثيرا هي تلك القوى التي تتبنى الإسلام السياسي كإطار فكري لمبرر وجودها،ولطبيعتها الأحادية ورفض النقيض عّدته منتجا للبدعة والضلالة فرفضه عبادة وبراءة من الضلالة، وبطلبها التوحد أنتجت الفرقة والتمزق بل عمقته بأن تجاوزته إلى اعتماد التأولية والمذهبية معيارا للتقييم والتفسير.هنا ضاقت فرص التلاقي وحّرمت مجالات الإبداع والتمازج،واصبح الفقه أحادى القرار لا يقبل المناقض،ونتيجة لهذه الثوابت فأن التعاطي بأمور السياسة وأدارة المجتمعات أصبح مستندا إلى الأحكام المسبقة التي لا تراعي أهمية للواقع. أما التيار السياسي القومي فقد رفض الآخر كمبرر للانفصال والافتراق وأكد على السمو العنصري كحافز لقوى المجتمع لتتبني الانعزال.
أن كل الأديان فكرا وممارسة في بداية بزوغها مثلت حركة ثورية لأحداث تحولات جذرية غايتها تعزيز مسيرة الإنسان في حياته وأحداث حالة قيميه تؤهله لفهم معنى متجدد لعالم الشهادة وتصورا روحيا لعالم الغيب، إلا أن الذي انحرف بهذه المسيرة الإبداعية النوعية تمازج التأويل والتفسير مع طموحات التنظيم نحو السيادة والسطوة لاستثمار الإنجاز الإبداعي المتحقق من الأيمان البشري،لذلك نلمس في التأويل تأكيدا مفرطا وتمسكا متزمتا بالمقدس لأنه الرابط القوي الذي يديم التبعية والخضوع،وفي ذلك تغييب للوعي وحجب للحياة بمعناها الروحي والمادي. فأزمة الفكر الأحادي شاخصة معروفة تاريخيا أوقعت الجنس البشري في انهيارات ومآسي عانت منها المجتمعات وفقدت فرص ثمينة من التطور والتقدم، وبفشل قوى هذا الفكر وانحسار تأثيرها الاجتماعي والسياسي سقطت بعدما أحدثت دمارا هائلا، وبدل من رفض الفكر المتدني الذي فشل في اغلب تجاربه التاريخية نرى مجتمعاتنا تنزع إلى الغيبيات والمقدس على انه المنقذ التاريخي نتيجة لعمق التخلف وسطحية البنية الفكرية العراقية.

أن التحريفية والتلفيقية التي تمّيز بها الفكر السياسي الديني على مر العصور شكلت كارثة إنسانية أدركتها مجتمعات عديدة على مر العصور والأزمان وأقرب أدراك لهذه التحريفية،النزوع العلماني الذي تبنته أوربا مع بزوغ الثورة الصناعية،فقد شكلت التحريفية الدينية معوقا ومكبلا لأي نزوع نحو الإبداع والتطور.

أن الدعوة إلى العلمانية أو كشف انهيار معايير الفكر السياسي الديني في مجتمعاتنا لا تعني أنها تلقى صدى أو قبولا يتمتع بقاعدة شعبية فهذه الجموع لازلت متمسكة بالمقدس مدافعة عن رموزه إلى حد الموت وخصوصا بعد أن نشأ تحالف غير مقدس بين التيار السياسي الإسلامي والنفوذ الدولي الكولونيالي بزعامة التيار المسيحي الجديد الذي أوصل هذا التيار إلى السلطة السياسية!!.هذا التحالف نشأ مستندا إلى قاعدة المصالح المشتركة،فثمن وصول التيار السياسي الإسلامي إلى السلطة، فرز للتيار الثوري المتطرف ليشكل العدو المشترك الذي ستضربه الكولنيالية المسيحية الجديدة تحت مسمى(الإرهاب الدولي) ومن خلال ذلك، يتعزز النفوذ وتتعمق المصالح وتمد بديمومة متجددة. هذه السياسة ليست جديدة على الكولنيالية، فقد تحالفت سابقا مع التيار القومي العربي الذي تمكن عبر تحالفه مع المؤسسة العسكرية من استلام السلطة بدعوى إنجاز الاستقلالية والتنمية فأودى بالبلاد والعباد إلى الهاوية والاحتلال والتخلف وانتج استبدادية دمرت الوطن.
لن تدرك مجتمعات المنطقة وبالذات المجتمع العراقي حجم الكوارث التي سيحدثها التيار السياسي الاسلامي إلا بعد التجريبية التي تعود على ممارستها،وأي دعوى إلى الانعتاق والتحرر من الفكر المغلق ورفضه ما هي إلا نتاج فكري في افضل حالاته يمثل تبليغا أو تنبيها لن تكتشف قيمته إلا بعد أن تقع المعاناة، إنها إشكالية اللا مفكر به!

*علي حرب،نقد الحقيقة،المركز الثقافي العربي،ط،/1،1993ص30

جمال البزاز