ثمة كتلة من الأحاسيس المفعمة بشحنات موجبة وأخرى سالبة.. وشرارات تحترق في صدري.. وغصة في حلقى.. ومشاعر مختلطة وغريبة لمواطن في وطن أصبح هو أيضاً غريب.. وحتى وسط أصدقائي لأشعر بأنني غريب.. أريد أن أفضفض.. أريد أن أخرج ما يعتمل بقلبي.. أن أقذف سموما قاتلة في كياني.. أين ورقى وأين قلمى..!!.. انها كتلة أحاسيس أسعى لترجمتها بقدر ما تسعفني قدرتي على التعبير.
فمنذ حلول شهر ديسمبر.. واحساسي كان مؤهلا لكتابة موضوعا عن الذكرى الخامسة لشهداء الكشح.. مذبحة قرية الكشح.. وشهدائها الأبرار.. والذين راحت أرواحهم هدرا.. واحد وعشرون قبطيا.. ذبحوا وأحرقوا غدرا.. الا أن المسئولين جرموا الأبرياء، و برأوا المجرمين القاتلين.. نعم هذه هى الحقيقة.. هيأت نفسى ورتبت أوراقي لتقديم المقال بعد نظم كلمات مقفاة قد أسميها زجلا متواضعا، لأن حالي يتماهى مع المثل القائل quot; ليمونة في بلد قرفانة quot;.
لندخل في الموضوع.. ولكن لا أدرى هل هي مجرد صدفة حين اختار الحكام توقيتا معينا لتعكير صفو بني البشر، في أيام تعتبر من أحلى ومن أغلى أيام السنة.. أحلى الأيام بفرحتها.. وأغلى المناسبات بقدسيتها.. لكن للأسف.. دوما يكون اختيار وقوع المصائب في نهاية العام.. مع أعياد الميلاد ورأس السنة.. هل بلاياهم خاضعة لنظام قفل الحسابات الختامية.. أم أنها نابعة من أمراض الأحقاد والضغائن.. نعم وجب لهم اغلاق دفاتر حساباتهم، بحسابات قاتلة حزينة مؤلمة.. ثم ترحيل آلامها الى الأعوام التالية.. أم ماذا..؟؟ ولكن لماذا.. كل هذا.. !!..
ولكن قبل أن أفيق من تجميع أفكارى لذكرى شهداء الكُشح (بضم الكاف).. سمعت ما صعقنى وشل أفكارى بل وجمدها فى هذا الفصل البارد.. فصل بارد بطقسه.. وبارد من بلايا أصحابه.. أخبار شهداء آخرين.. أخبار شهداء اللاجئيين السودانيين.. والذين quot; كُشحوا quot; بماء بارد من صنابير خراطيم صنعت خصيصا لايذاء بنى آدم.. والبنو آدم هنا.. أصبحوا شهداء الكَشح (بفتح الكاف).. من الفعل كشح يكشح كشحا.. وهنا تفاعل احساس شهداء قرية الكُشح مع شهداء ميدان الكَشح.. يا للأسف.. وبدون مؤاخذة.. !!
فبمجرد سمعى للأخبار الواردة من القاهرة فجر يوم الجمعة الموافق الثلاثين من ديسمبر 2005.. أقول : ياقاهرة، قهرتى نفسى.. ياقاهرة، ظلمتى أناسى.. وكانت أصوات وسائل الاعلام المختلفة مختلطة ببكاء أطفال اللاجئين السودانيين والمعتصمين بحديقة مصطفى محمود، بحى المهندسين.. اننى أراهم.. أننى أخالهم.. بل أننى أسمع صراخهم يدوى فى أذنىّ عبر آلاف الأميال.. أرى خراطيم المياة وهى تضخ تيارات مياهها الباردة.. تندفع بقوة ضغط ضاغط.. وكأنهم كانوا يطبقون فكرة اقتحام خط بارليف مرة أخرى، ولكن للأسف، هذه المرة لاختراق أجسادا بشرية.. مياه باردة تهدر لتغرق أطفالا نائمة عند فجر يوم عطلة.. يالهذا التوقيت الشنيع البشع.. المنعدم الاحساس.. خراطيم مياه.. تستخدم لاطفاء الحرائق، يستخدمونها لاطفاء الأرواح الحية.. أرى الآباء والأمهات.. يقومون مذعورين.. يحوطون أبناءهم من كل جانب.. ولكن هيهات.. منهم من فارق الحياة.. ثار الآباء.. تعالت الآهات.. اشتباكات وكدمات.. ومات من مات.. والاجمالى على حسب الاحصاءآت.. تقارب الثلاثين قتيلا.. وكتب من كتب.. هذا مؤيد وذاك معارض.. الا أننى أعتقد.. ان هناك طرقا كثيرة يمكن التعامل بها فى مثل هذه الحالات.. مع أخذ كثيرا من الاعتبارات.. مثل التوقيت.. والطريقة المتخذة فى التفريق.. ثم عمل حسابا لبنى آدم.. و بحسبة بسيطة.. هناك أطفال تحبو.. هناك عجائز عاجزة.. هناك مرضى مرضرضة.. ثم هناك بلل فى فصل شتاء قارس.. وهذا البلل يؤدى الى الالتهابات الرئوية القاتلة.. أم أن دماءهم رخيصة، أم لأنهم قادمون من تحت ظلم نظام فاشي في السودان.. وكما عبر عنهم نبيل شرف الدين فى مقالة quot;شفت اللى حصل للزناجرةquot;.. الجملة التى سمعها أثناء محادثة الشاب quot; الروش quot; مع البائع باحدى مطاعم الوجبات الجاهزة.. هذا مثال بسيط من نوعية بسيطة من نوعيات الأجيال القادمة.. ويا لخوفى على الأجيال القادمة
وهنا امتزج الاحساسان.. لشهداء المذبحتين.. شهداء قرية الكشح وشهدا مذبحة quot; منتزه quot; الكَشح من حيث الظلم المتعمد.. والتفرقة.. والفرقة.. والخ.. الخ.. وهكذا خرجت كتلة الاحساس..

كتلة احساس..
احساس.. بآلام الناس
ناس مظلومه.. قلوب مكلومه
جروح قديمة تنزف.. أصوات منحورة تهتف
أوتار حزينة تعزف.. بطون خاوية تقذف
أياد مغلولة ترتجف.. أرجل مبتورة تزحف

***
يتامى يلتحفون العراء
عرايا تحت الطل والمطر فى فضاء
ملابسهم مبللة ممزقه.. وطرقات مطرقه..
صاعده هابطه.. على جسم هزيل معلق
بحبل مشنقه
***
ويرقه ميته.. بجدار شرنقه
على ظهر ورقة شجره.. هى أيضا معلقه
انسان.. وحشره.. سواسيه
وقانون الغابه..
مظلوم مطعون بحربه.. وظالم محروس بقلعه
لا يأبـــه..
***
طفل بعيون مغرورقه.. وعجوز يطلب صدقه
وفتاة تطلب مرقه.. وأخرى تبكى بحرقه..
من بطن خاويه.. فى غرفه خاليه
كلهم سجناء..سجناء زمن.. سجناء وطن..
والحاكم.. فى غفله.. فى قسوه..
لا يأبـــه..
***
مسئولون.. سجانون.. لا يأبهون.. فرحون
فى نزوة وشهوه
خطفوا بنات القريه.. حرقوا بيوت القريه
قتلوا أهل القريه.. برصاص بندقه
بعكاز مرتزقه.. وزنديق بزندقه
وظهور مطعونه.. بخناجر مسنونه
وحفاة تمشى.. على أشواك منثوره
وطارق يطرق على أبواب مقفولة
والحاكمون.. لا يأبهون..
ينعمون..يحلمون.. نائمون
فى غرف بستائر مسدوله
والفقراء.. سجناء العراء..
ملابسهم.. أجسادهم.. مسحولة
***
.. وفى.. النهايه..
سيأتى.. سيأتى يوم الحساب..
حيث تحصى الرقاب..
والأحباب.. لقاء وراء السحاب..
.. أما الطغاه..
.. معلقون من الأعقاب..
والتاريخ سيحكى..
على مر الزمان والأحقاب

أرنست أرجانوس جبران