من يتمعن بالتاريخ الأمريكي المعاصر يجد أن فرانكلين روزفلت هو الرئيس الأمريكي الوحيد الذي عاش ولاية رئاسية ثانية سعيدة ومريحة ولم يفقد شعبيته أو تنتهي ولايته بفضيحة كما صار معتاداً فيما بعد. لقد عاش الرؤوساء الأمريكيون السابقون مثل آيزنهاور،جونسون،نيكسون،ريغان،كلينتون، نهاية عهد قاصرة وتعيسة، وتشير التوقعات أن جورج وولكر بوش، الرئيس الحالي، لن يفلت من هذه اللعنة، ولن يكون استثناءاً،حتى لولم توجه له تهم مباشرة كما حصل مع نيكسون إبان فضيحة ووترغيت أو كلينتون مع فضيحة مونيكا لوفينسكي. فالكسوف السياسي لهذا الرئيس بدأ مبكراً، ويتناقض مع ما حققه من شعبية كبيرة قبل عامين، ولاسيما بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001، فبعد مرور عام ونيف على إعادة إنتخاب جورج دبليو بوش، يجد الأمريكيون أنفسهم في حالة شبه شلل لثلاث سنوات قادمة، داخلياً وخارجياً، وبالتالي ينفتح أمام الحزب الديموقراطي المنافس أفق جديد للفوز بالانتخابات القادمة إذا استمر هذا التدهور في شعبية الرئيس الجمهوري وتفاقم الأزمات الاقتصادية والسياسية. أصبح الرئيس الأمريكي كالبطة العرجاء كما يقول المثل الأمريكي، قبل حلول موعد الانتخابات التشريعية لمنتصف الولاية الثنية في نوفمبر/تشرين ثاني 2006،التي تشكل في العموم بداية نهاية السلطة السياسية الداخلية للرئيس الحالي. كانت سرعة هبوط شعبيته مثيرة للغثيان ومدوية ففي استطلاع للرأي أجري في شهر نوفمير2005 بلغت نسبة الذين مازالوا يثقون بجورج دبليو بوش 35 بالمائة فقط من مجموع السكان، في حين تم انتخابه قبل عام بفارق 3 ملايين صوت متفوقاً على منافسه الديموقراطي جون كيري.
أحد أهم العوامل لهذا الانهيار الجماهيري للرئيس الحالي هو حرب العراق التي لم تكن نجاحاً له بكل المقاييس. كان الرئيس جورج بوش الإبن يؤكد بافتخار أنه يمتلك رصيد سياسي وشعبي كبير متشجعاً بإعادة انتخابه المريح مقارنة مع إشكالية شرعية انتخابه المشكوك فيها في ولايته الأولى سنة 2000،وصرح أنه ينوي أن يستغل هذه الشرعية المتينة هذه المرة لتنفيذه مشاريعه وبرامجه وقد أفاق الأمريكيون على نحو مبكر على النتائج الكارثية لسياسة بوش داخلياً وخارجياً. لقد نجم هذا الانهيار السياسي عن تداخل ثلاث أحداث متنوعة في أسبابها وطبيعتها. مواصلة حرب العراق دون بصيص ضوء للخروج من النفق المظلم، عجز وعدم كفاءة وعدالة الإدارة الأمريكية الفيدرالية حيال تبعات وتداعيات إعصار كاترينا والتحقيقات بشأن ظروف الكشف عن هوية عميلة السي آي أيه فاليري بالم من قبل أعضاء في الحكومة وخرق الرئيس بوش للقوانين الأمريكية التي تمنع التنصت على المواطنين والمسؤولين والسياسيين وهو الأمر الذي أمر به بوش ونفذه بسرية قبل الكشف عنه مؤخراً. الجدير بالذكر أن الكشف عن إسم عميلة المخابرات الأمريكية جاء عقاباً لزوجها المتهم بالكشف عن زيف الادعاءات الرسمية الأمريكية والبريطانية بخصوص محاولات صدام حسين للحصول على اليورانيوم من النيجر لأغراض نووية عسكرية لصنع القنبلة الذرية.من الصعوبة بمكان إدارة كل ملف من هذه الملفات كل على حدة فما بالك باجتماعها معاً مرة واحدة وفي آن واحد، مما وجه أصابع الاتهام لإدارة بوش وعدم كفاءتها وخرقها للدستور وتجاهل القضاء وممارسة العدالة الموازية خارج الأراضي الأمريكية.
إن تداعيات ضياع السلطة السياسية التي لم يسبق لها مثيل، كانت عديدة. أول الانعكاسات السلبية هو تصدع التماسك داخل الحزب الجمهوري لأنه يتحمل تبعات فقدان مصداقية الرئاسة بالرغم من سيطرة الجمهوريين على أغلبية مقاعد مجلسي النواب والشيوخ في الكونغرس الأمريكي، لذلك يسعى الجمهوريون لتفادي دفع ثمن هفوات الإدارة والرئاسة التي تقع على عاتق الرئيس وحده. وبالتالي يركز الجمهوريون على الملفات المحلية في حملاتهم الانتخابية للانتخابات التشريعية. يتوقع المراقبون والمتابعون للشأن الأمريكي أن الحملة الانتخابية الرئاسية لعام 2008 ستنطلق بصورة مبكرة والتصفيات للمتصدين للرئاسة داخل الحزب الجمهوري ستنطلق هي الأخرى رسمياً سنة 2007. وسيظهر مرشحون طموحون كثيرون إلى جانب من بات معرفون منذ الآن وهم ماكٌين وسام براونباك،وشوك هاجيل. ابتعد بعض أعضاء الكونغرس ووضعوا مسافة بينهم وبين الرئيس جورج دبليو بوش مما جعل هذا الأخير يفقد القدرة على تمرير إصلاحاته الداخلية فيما يتعلق بالضرائب والضمان الاجتماعي. بل وربما سيواجه في الأشهر القادمة صعوبات في ممارسة ثقل مؤثر بخصوص السياسة الخارجية في الكونغرس كمستقبل العلاقات النووية الأمريكية ـ الهندية التي ستكون بمثابة البوصلة التي تؤشر مدى الخسائر التي تولدت من جراء الأخطاء الرئاسية، فلايمكن لمشروع التعاون النووي المبرم بين واشنطن ونيودلهي أن يتم إلا بإذن الكونغرس وموافقته، والحال أن هذا الأخير لايرغب ولايؤيد هذا الاتفاق الذي يبدو في نظره كسابقة سلبية في سياق منع انتشار الأسلحة النووية، إذ أن الهند ليست من الموقعين على معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية. تتوفر فرصة سانحة للحزب الديموقراطي لكي يستغل هذا الشرخ في صفوف الجمهوريين لكنه يبدو غير مستعد أو قادر على الاستفادة من تقهقر شعبية الرئيس بوش.فلم يوضح الديموقراطيون ماسو ف يفعلونه كسياسة بديلة في الملفات الساخنة المطروحة وعلى رأسها المسألة العراقية حيث مازال العراق ينوء تحت ضغط الفوضى ومخاطر الإرهاب وشبح التقسيم ونشوب حرب أهلية تأكل الأخضر واليابس لاسمح الله، إلى جانب التحديات الطبيعية والكوارث والاقتصاد والمال وأزمة الوقود والفساد وعمليات التعذيب والسجون السرية سواء فيما يتعلق بالعراق أو أمريكا. العراقيون يترقبون نهاية اللعبة الانتخابية الأمريكية القادمة وخاصة بعد معرفة بعض المتصدين للرئاسة القادمة في صفوف الحزب الديموقراطي من أمثال هلاري كلينتون وجون إدوارد وهم ليسوا أذكى وأكثر كفاءة ومصداقية من المرشح السيء الحظ جون كيري ومازال هناك ثلاث سنوات أمام الجميع للوصول إلى نتائج أو الاستعداد للاستحقاقات القادمة.
الاختبار الأصعب الذي يواجه الرئيس الأمريكي هو تطورات الأوضاع في العراق. فبالرغم من تكرار جورج دبليو بوش لخطابه الرسمي بشأن العراق إلا أن ما يختفي مابين السطور وما لم يذكر علناً بدأ يتسلل لاسيما ما يتعلق بالشؤون العسكرية والواقع الميداني السياسي والاقتصادي والأمني لحرب العراق.
لايضيع الرئيس الأمريكي مناسبة أو فرصة ليعيد ويكرر حججه ومبرراته وذرائعه المعهودة حول حرب العراق في كل أسبوع تقريباً. ومازال يصر على أن هذه الحرب تشكل رهاناً جوهرياً وأساسياً لحربه الشاملة ضد الإرهاب العالمي، الذي تخوضه الديموقراطيات الغربية إنطلاقاً من بغداد وأن قوات التحالف الدولي تتقدم ببطء ولكن بحزم وثقة نحو النصر.بيد أن للتكرار الملل جوانبه السلبية فلم يعد الرأي العام الأمريكي ولا وسائل الإعلام تهتم أو تلتفت لهذا الخطاب في حين يمكن استخلاص الكثير من المعلومات والدروس الثمينة مما يقوله وما لا يقوله الرئيس الأمريكي وإكتشاف مناطق الظل في سياسة بوش العراقية.
فجهود الشفافية والوضوح والصراحة بهذا الصدد بدأت فعلياً منذ شهر وبالذات منذ نشر quot; الاستراتيجية الوطنية لأمريكاquot; التي تحدد وللمرة الأولى التحديات الحقيقية التي تواجه الولايات المتحدة الأمريكية وحدودها. إلى جانب ما ورد في كتاب الحاكم المدني الأمريكي السابق في العراق بول بريمير في كتابه quot; السنة التي أمضيتها في العراقquot; وكيف أنه أمضى وقته وهو يحاول إقناع الإدارة الأمريكية وأصحاب القرار في واشنطن بعدم كفاية وفاعلية وعدد القوات الأمريكية المتواجدة على الأرض في العراق لاسيما بعد شهر نيسان الدامي سنة 2004 مما دفعه إلى كتابة مذكرة رسمية لوزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد يدعوه فيها إلى نشر مالايقل عن نصف مليون جندي أمريكي أي مضاعفة مايوجد فعلياً على الأرض ثلاث مرات. ودافع عن أطروحته هذه أمام جورج بوش في البيت الأبيض لكنه لم يحصل على أي تأييد أو موافقة لغاية تركه لمنصبه.
الجواب الأمريكي الرسمي لم يتغير حول هذه النقطة الحساسة وهو:quot; أن الرئيس يعتقد أن بأن القرارات المتعلقة بمستوى ونوعية القوات المتواجدة في العراق يجب أن تكون ذات أساس تقني ومناطة بالقادة الميدانيين والخبراء العسكريين الموجودين على الأرضquot;. حسب ما ردده المتحدث الرسمي باسم البيت الأبيض سكوت ماكليلان. وهكذا كان هناك مركزان للقرار الاستراتيجي الأمريكي في العراق. وللمفردات والمصطلحات المستخدمة دلالاتها العميقة.فوسائل الإعلام كانت تقدم بول بريمير على أنه السيد المطلق والممثل الأكمل للاستراتيجية الأمريكية في العراق والذي يقوم على أكتافه أي جهد لتكييف وتأقلم تلك الاستراتيجية مع الواقع العراقي المعقد والذي يغلي في كل لحظة. ولكن عندما يطلب بريمير أي شيء خاصة في الأمور الجوهرية، يلجأ زير الدفاع الأمريكي إلى رأي الجنرالات المطابق لرأيه هو غالباً، والذي لايقدم جواباً شافياً وناجعاً على مخاوف الحاكم المدني. ويعترف بول بريمير بما لم يقله أحد قبله من المسؤولين الأمريكيين:quot; لم نتوقع من قبل حدوث تمرد مسلح في العراقquot; ويوجه سهامه اللاذعة للتحالف الدولي quot; غير الطوعي بل والقسري quot; حيث لم يشر الرئيس الأمريكي في خطاباته دائماً إلى حلفائه في التحالف الدولي إذ هو يعرف أنه تحالف هش وسائر نحو التفتت مع مرور الوقت. فأوكرانيا سحبت جنودها الـ 1650 وبلغاريا سحبت جنودها الـ 460 وهولندا مازالت تبقي على 50 جندياً لها في العراق لا أكثر وتفكر بسحبهم في اسرع وقت. وأعلنت كوريا الجنوبية وبولونيا نيتهما على سحب قواتهما تدريجياً حيث ستبدآن بسحب ثلث القوات خلال السابيع القادمة. وسحبت إيطاليا جنودها الـ 300.ومازال هناك 23000 من 24 بلد مقابل 50000 ينتمون إلى 38 بلداً سنة 2003.
بينما اتخذت الحكومة الأمريكية إجراءات عقابية ضد جنودها المتمردين الذين رفضوا الالتحاق بوحداتهم رغم المغريات المادية التي يلوح بها البنتاغون للمتطوعين الذين يوافقون على الذهاب إلى العراق.
الجانب الغامض الآخر في السياسة الأمريكية في العراق يتعلق بإدارة الملف الاقتصادي فميزاني الحرب في العراق تضيع في أخطبوط المناورات والصفقات المشبوهة والسرقات والاختلاسات فحسب البنتاغون تكلف الحرب ميزانية الولايات المتحدة الأمريكية 4،5 مليار دولار في الشهر ووصلت الفاتورة لغاية اليوم 137 مليار. يضاف إلى ذلك تكاليف إعادة البناء والإعمار الضخمة جداً وتكاليف أكبر سفارة أمريكية في المنطقة التي تستخدم في بغداد 5000 موظف وتكاليف المساعدة على تدريب وتأهيل القوات العراقي والكوادر الإدارية العليا حيث يتوقع أن مجموع هذه التكاليف في نهاية 2006 سيصل إلى 500 مليار دولار. يضيف إليها البروفيسور جوزيف ستيغلتز، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد والمعارض للحرب، التكاليف غير المباشرة والمرتبطة بهذه الحرب لاسيما في مجال الطاقة والوقود والصحة والتي قد تقفز كثيراً وتصل إلى 2000 مليار دولار بحدود 2010.
عندما نتمعن في الواقع العراقي ونحصي ماتحقق من إنجازات، عدا إطاحة النظام الديكتاتوري السابق، نجد أن الميزان يميل نحو الجانب السلبي. فمبلغ الـ 18 مليار دولار المخصصة، منذ سنة 2003، لأعادة البناء، خصصت لـ 3600 مشروع، منها 900 مدرسة و 160 مركز صحي و تعبيد 1300 كلم من الطرق ولكن 25بالمائة من المبلغ الإجمالي لإعادة البناء ابتلعته الجوانب الأمنية ومازال البلد على حافة الانهيار وتعطل مجمل البنى التحتية أو قدمها وعلى رأسها قطاع الطاقة الكهربائية والماء الصالح للشرب والوقود التي تدنت إلى مستويات أدنى بكثير مما كانت عليه قبل الحرب. لقد وعد جورج بوش العراقيين سنة 2003 بأفضل البنى التحتية في المنطقة، لكننا لانجد في مشروع الميزانية الذي سيقدم لاحقاً للكونغرس الأمريكي أي مبلغ إضافي لإعادة البناء في العراق بل على العكس حيث صرح الجنرال وليم ماكوي قائلاً:quot; لم يكن أبداً في نية الولايات المتحدة الأمريكية إعادة بناء شاملة للعراق بل يتعين علينا فقط إطلاق الماكنة لا أكثرquot;.
الشارع العراقي بكل مستوياته ينتظر المعجزات من الحكومة الشرعية المنتخبة القادمة وهذا هو التحدي الأكبر الذي سيواجهها فهي أمام امتحان عسير ومسؤولية ضخمة فإما أن تنجح لو نسبياً في إسعاد المواطن العراقي وإشعاره بكرامته وحقوقه وترسيخ ثقته بمن انتخبه أو ستنتهي هذه التجربة الوليدة بكارثة لاتحمد عقباها. فعلى قادة البلد القادمين أن يعملوا بجدية وصدق وإنصاف لصالح المواطن العراقي المظلوم والمحروم من ابسط حقوق الإنسان الأولوية وهي حقه في العيش بكرامة وأمان وتأمين حقه بالمسكن والعمل والرفاهية.

د. جواد بشارة

باريس