مبدأ السيادة وحق انفصال الاقاليم في الدولة الفيدرالية
اثار قانون الاجراءات التنفيذية الخاصة بتكوين الاقاليم والذي اقره مجلس النواب العراقي في الحادي عشر من الشهر الجاري موجة من الجدل في صفوف الحقوقيين والسياسيين العراقيين على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم، ما يؤكد الاهمية الاستثنائية التي تمتلكها موضوعة تنظيم العلاقة بين المكونات الاساسية للشعب العراقي، ووضع الاسس القانونية السليمة لتفعيل حق تقرير المصير لتلك المكونات والتي وجدت في الفيدرالية الشكل الانسب للدولة العراقية في الوقت الراهن. واذا كان الكثير مما يطرح في الصحافة حاليا نابع عن مخاوف مشروعة على مستقبل الدولة العراقية، فأن البعض من اطراف العملية السياسية استخدمت موضوعة التصويت على القانون المذكور كواحدة من اوراق العملية السياسية وفرصة لتصفية الحسابات مع الخصوم السياسيين. وفي جميع الاحوال فان البحث في التراث الانساني عن اساليب تفعيل حق تقرير المصير للامم والشعوب المختلفة سيكون اكثر نفعا من اثقال الضمير باتهامات يفتقر اغلبها الى الدليل المقنع.
عند الحديث عن مبدأ السيادة وحق انفصال اقاليم الدولة الفيدرالية لابد من التمييز بين مفهومي سيادة الامة (الشعب) وسيادة الدولة، ومدى مشروعية التمتع بحق الانفصال بالنسبة لاقاليم الدولة. فمبدأ سيادة الشعب، والذي تضمنته الغالبية العظمى من الدساتير المعاصرة، يعني استقلال الشعب وحقه الحصري في اختيار نمط حياته استنادا الى موروثه من التقاليد والاعراف والقيم الثقافية. ويبدو مبدأ سيادة الشعب في علاقة جدلية مع مبدأ سيادة الدولة باعتبارها الاطار الذي يبدو مفهوم الشعب بدونه منقوصا، تماما مثلما يبدو مجتزءا مفهوم الدولة ذاتها دون وجود العنصر الاهم في في هذه المعادلة، وهو الشعب. واذا كان تفعيل مبدأ سيادة الدولة يتم من خلال فرض السلطة، مع كل ما يترتب على ذلك من فرض لنظام الدولة وقوانينها على كامل ترابها، فان تفعيل مبدأ سيادة الشعب يتم من خلال ما بات يعرف في الادبيات السياسية والقانونية بالديمقراطية المباشرة (الاستفتاء والانتخابات بكافة مستوياتها وغيرها من الانشطة...). والديمقراطية غير المباشرة، اي من خلال اجهزة الدولة المشكلة من قبل المواطنين بصورة مباشرة او غير مباشرة على اثر الاطاحة بالانظمة السياسية نتيجة الثورات والانتفاضات الشعبية. وفي جميع الاحوال فان مفهومي سيادة الشعب وسيادة الدولة يبدوان متطابقين lsquo; وكثيرا ما يتم تضمينهما الدساتير المعاصرة كمفهومين مترادفين.
ان واحدا من الاخطاء الاكثر شيوعا في الادبيات العربية السياسية المعاصرة هو اختزال حق تقرير المصير للمجاميع الاثنية المختلفة الى واحد من انواع تفعيل ذلك الحق، وهو الانفصال. في حين ان مراجعة بسيطة للمصادر القانونية، وخصوصا الدولية منها، من لوائح ومعاهدات واعلانات وعهود تدلنا الى ان حق الانفصال وتحقيق الاستقلال السياسي ورد كاحد اشكال وضعها فقهاء القانون ومشرعوه الى جانب خيارات اخرى لتفعيل حق الامم والشعوب في تقرير مصيرها. فاستنادا الى مبادئ القانون الدولي لكل مجموعة اثنية ( ethnic group ) الحق بتقرير مصيرها وبالشكل الذي تراه مناسبا. وربما كان تكوين الدوّل المستقلة الخيار الاكثر ملائمة بالنسبة للامم والشعوب التي وصلت الى درجة من التطوّر والكمال الاقتصادي والسياسي تؤهلها لتفعيل الاستقلال السياسي والحفاظ عليه. من هنا يبدو واضحا ان ثمة مقدمات يبدو توفرها شرطا ضروريا لتحقيق سيادة الامة (استقلالها). وربما كان تجمع المجموعة الاثنية وعيشها في منطقة جغرافية محددة واحدا من اهم شروط تفعيل مبدأ السيادة السياسية. بالاضافة الى امكانية التعامل المتكافئ مع اقطاب المجتمع الدولي الاخرى، وليس اقل اهمية من ذلك شرط امكانية الدفاع عن الاستقلال السياسي، وخصوصا اذا ما كان تفعيل ذلك الحق يؤثر على الدوّل الاقليمية التي ترى في تحقيق الاستقلال السياسي لمجموعة اثنية مجاورة جغرافيا تهديدا لاستقرارها الداخلي ولمصالحها الجيو ndash; سياسية. وتبدو امكانية تفعيل مبدأ السيادة اكثر صعوبة (وربما مستحيلة) بالنسبة للمجاميع الاثنية الصغيرة جدا وذلك لعدم امكانية تلك الاثنيات من توفير المقدمات، المادية منها والبشرية، لتفعيل حق السيادة والدفاع عنه. بالاضافة الى ذلك فان تفعيل حق الاستقلال يكون غير وارد في حال توزع ابناء المجموعة الاثنية الصغيرة على الوحدات الادراية للدولة، فاذا كان منح الحكم الذاتي (وهو احد اشكال تقرير المصير) واردا بالنسبة للاقليات الاثنية القاطنة على مساحة جغرافية محددة، فان تفعيل هذا الحق يكاد يكون معدوما بالنسبة للاثنيات المشتتة.
عند الحديث عن مبدأ تقرير المصير لابد من الاشارة الى ان قرار تفعيل هذا الحق بالنسبة لمجموعة اثنية محددة ينبغي ان يأخذ بعين الاعتبار حقوق المجاميع الاثنية الاخرى المتعايشة في ذلك البلد، ذلك ان تحقيق مبدأ السيادة لمجموعة ما سيكون غير مشروعا اذا ما تم على حساب مصير ومصالح الاثنيات الاخرى. من هنا تبدو الموافقة الطوعية للفيدرالية (التوحد) مع المكونات الاثنية لبلد ما امرا لا مناص منه، مثلما يبدو الخروج من الفيدرالية لمكوّن ما مرهون بمباركة وتأييد المكونات الاخرى. ومن هنا ايضا الاهمية الاستثنائية لتضمين الاساس (او الاسس) القانونية للبناء الفيدرالي (دستور الدولة، العقد الفيدرالي، تشريع اقامة تشكيل الفيدرالية.....الخ) القواعد التفصيلية التي من شأنها الحيلولة دون تصدع البناء الفيدرالي اللاحق وتأمين التعايش السلمي لمكوّنات الشعب. وربما كان لدراسة وتحليل تجربة البلدان التي اتخذت من الفيدرالية شكلا للدولة اثر بالغ الاهمية للتجربة العراقية الوليدة في مجال البناء الفيدرالي. وفي جميع الاحوال فأن تفعيل الحق الدستوري لمجموعة اثنية بتقرير المصير ينبغي ان يتم وفق آليات معدة ومتفق عليها سلفا. بخلاف ذلك سيولد تفعيل ذلك الحق من الاشكالات اكثر مما سيطرحه من حلول ليس للمكوّن الاثني فحسب، وانما لكامل النسيج الفيدرالي ايضا.
ان تثبيت حق تقرير المصير في دستور الدولة الفيدرالية او التشريعات الاخرى، ذات العلاقة، لا يعني امكانية تفعيل ذلك الحق في جميع الاحوال، ذلك ان امكانية تفعيله محكومة بجملة من العوامل ربما يقف في المقدمة منها المناخ الجيو ndash; سياسي وتوازن القوى السائد سواءا على مستوى البلد الفيدرالي ذاته او في دوّل المحيط الاقليمي وحتى الوضع الدوّلي، بالاضافة الى الاليات المعقدة التي تضعها الدولة لتفعيل حق تقرير المصير لمكوناتها. وليس قليلة الامثلة في التأريخ الدستوري للدوّل الفيدرالية حينما انتهت محاولات انفصال بعض الاقاليم عن جسد الدولة الفيدرالية الى حروب عصفت، او كادت تعصف، بكيان الدولة ذاته. فقد تضمنت دساتير الاتحاد السوفيتي لأعوم 1924 و1936 و1977 جميعها حق انفصال الجمهوريات الاتحادية، لكن تفعيل ذلك الحق كان يبدو مستحيلا في ظل سيادة الحزب الواحد والذي شكلت فروعه في الجمهوريات امتدادا طبيعيا لهيئاته المركزية ورديفا بالغ القوة لاجهزة الدولة، ما يعني انتفاء اية امكانية لانفصال تلك الجمهوريات سيما وان مبدأ المركزية الصارمة كان السمة الاكثر وضوحا لذلك النظام. وليس ادل على ذلك استثمار مرحلة الاصلاحات التي دخلت التأريخ تحت اسم البيريسترويكا من قبل جمهوريات البلطيق (ليتوانيا ولاتفيا واستونيا) لاعلان استقلالها السياسي حتى قبيل انهيار الاتحاد السوفيتي وتحوّل مكوناته الى دول كاملة السيادة. اما الدستور الاثيوبي لعام 1994 فقد نص صراحة في الفقرة 4 من مادته التاسعة والثلاثين على حق المجموعات الاثنية (القوميات والشعوب والطوائف) في تقرير مصيرها، بما في ذلك حق الانفصال وتكوين الدول المستقلة، لكنه وضع اليات يبدو معها تفعيل ذلك الحق امرا بالغ الصعوبة. فعلى المكوّن الاثني الراغب بتفعيل حقه بتقرير المصير (بأي شكل كان) تقديم طلب موقع من ثلثي اعضاء الجهاز التشريعي للولاية، فيما تقوم الحكومة المركزية بعد ثلاثة سنوات من تقديم الطلب بتنظيم استفتاء لسكان تلك الولاية ويكون الاستفتاء ناجحا اذا صوتت الى جانبه الاغلبية المطلقة من الناخبين. وفي جميع الاحوال فان قرار الاستفتاء يعتبر ساريا في حال مصادقة المجلس الاعلى في البرلمان الاثيوبي (مجلس الولايات) عليه. وهنا اجد مناسبا الاشارة الى ان اثيوبيا تعتبر من الفيدراليات القومية المعقدة حيث تتعايش في ولاياتها التسع مجاميع قومية وطائفية مختلفة.
ان مراجعة بسيطة لدساتير الدوّل الفيدرالية والقوانين الاساسية لمكوناتها (أقاليمها) تبين بأن الكثير من تلك الدساتير اعتبر مبدأ السيادة ليس من المبادئ الاساسية للدولة الاتحادية فقط، وانما لاقاليمها ايضا (المادة 7 من الدستور اليوغسلافي لعام 1992، والمادة 3 من دستور دولة الامارات العربية المتحدة لعام 1971، وكذلك الدستور المكسيكي لعام 1917 والسويسري لعام 1874 المعدل عام 1999)، ما اثار جدلا واسعا بين المشرعين والسياسيين وفقهاء القانون الدستوري ومنظريه حول جوهر مبدأ السيادة ذاته. ففي حين ذهب البعض منهم الى اعتبار سيادة الدولة الفيدرالية مطابقة وموازية لسيادة اقاليمها، اعتبر اخرون ان سيادة الاخيرة تفعل بالعلاقة مع اقاليم الدولة ولا تتعدى الحدود الدولية للبلد الفيدرالي، ذلك ان اقاليم الدولة الفيدرالية تنازلت عن سيادتها لمركز اتحادي (فيدرالي) واحد، وهذاه ما يميز الدولة الفيدرالية عن الكونفيدرالية التي يحتفظ اعضائها (دولها) بالسيادة السياسية الكاملة سواءا بالنسبة لاعضاء الكونفدرالية الاخرين او بالنسبة للدوّل الاجنبية، وبالشكل الذي يضمن لها عضوية كاملة في هيئة الامم المتحدة والهيئات والمنظمات الدولية الاخرى.
ان العودة الى تأريخ التطور الدستوري للكثير من الدول التي اتخذت من الفيدرالية شكلا للدولة تدلنا الى ان اكثر تلك البلدان اصالة في البناء الفيدرالي وجدت نفسها امام خيارات صعبة في التعامل مع مكوناتها الراغبة في تفعيل حقها بتقرير المصير. فبين الرغبة في تفعيل حق مثبت دستوريا والحرص على المصالح الانية والستراتيجية،الاقتصادية منها والسياسية، وحتى الامنية، للدولة الاتحادية يمتد خيط بالغ الحساسية مثلما هو بالغ الخطورة. من هنا لجوء سويسرا الى استخدام القوّة لاجهاض محاولة بعض الكونتونات في منتصف القرن التاسع عشر الخروج على السلطات المركزية (الاتحادية). والحيلولة دون محاولة احدى عشرة ولاية امريكية الانفصال واقامة كونفدرالية خاصة بها اثناء الحرب الاهلية (1861 ndash; 1865). حيث قررت المحكمة الفيدرالية العليا ان اتحاد الولايات المتحدة الامريكية غير قابل للهدم. وبقرار قضائي مماثل اجهضت محاولة انفصال ولاية مكسيكية في العام 1938. فيما اقدمت الولايات المتحدة الامريكية على استخدام القوة لمنع ولاية تكساس من الخروج على الولايات المتحدة والانظمام لدولة المكسيك الجارة. واضطرت نيجيريا الفيدرالية الى استخدام القوة ايضا حينما اعلنت بعض من ولاياتها في السبعينات من القرن الماضي الاستقلال واعلان دولة جديدة تحت اسم (بيا آفرو). ولا اعتقد ان هناك ضرورة للتذكير بأن روسيا الفيدرالية ما زالت تحاول معالجة الاثار الناجمة عن النزاع المسلح الذي بدأ في عام 1995 والناتج عن محاولة احدى جمهورياتها ذات الاكثرية التشيشانية الانفصال واعلان دولة الخلافة الاسلامية هناك.
في ذات الوقت فان التاريخ يؤشر ايضا الى حالات استطاعت خلالها بعض المجاميع الاثنية تفعيل حق تقرير المصير وتكوين دولها المستقلة. ففي بداية الثلاثينات من القرن التاسع عشر تمكنت فنزويلا من الانسلاخ عن جسد فيدرالية كولومبيا العظمى، فيما خرجت سنغافورة في العام 1965 من تحت عباءة دولة ماليزيا الفيدرالية وبشكل سلمي. لكن النزاع المسلح كان سبيلا لخروج بنغلادش عن دولة باكستان والتي اعلن دستورها لعام 1973 الفيدرالية شكلا للدولة.
انني ارى ان النظر الى حق تقرير المصير ينبغي ان يتم من خلال موشور الحقوق والحريات الاساسية للمواطنين، افراد وجاعات، وفي المقدمة منها الحق بالحياة، ذلك ان لا فائدة من وطن يخلو من الحياة.
د. فـلاح حاجـم
*- استاذ جامعي متخصص بالقانون الدستوري
التعليقات