لم يدر بخلد والد الفنان السوري المتميز جمال سليمان، وهو يختار له ه ذا الاسم إبان ولادته عام 1959م - تيمناً على الأرجح باسم الزعيم جمال عبد الناصر، صاحب الشعبية الطاغية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي - أن يأتي اليوم الذي يُهاجم فيه ابنه في وطن هذا الزعيم، لمجرد قيامه بدور البطولة في عمل درامي مصري. لقد كانت مصر آنذاك حاملة لواء القومية العربية، والإقليم الجنوبي لدولة الوحدة المصرية السورية الواعدة، والمفارقة هنا أن عروبة جمال سليمان الناشئة من تجربة وحدوية مع مصر سبقت سوريته . وأغلب الظن أن كل السوريين ما كانوا ليتوقعوا أيضاً حدوث مثل هذا السيناريو في يوم من الأيام، فالدولتان، وإن انفصلتا سياسياً ودستورياً على يد انقلاب عبدالكريم النحلاوي في سبتمبر 1961م، فقد جمعتهما بعد عشر سنوات ونيف لحمة الدم، والتضحية، والانتصار، في أفضل أداء عسكري عربي في القرن العشرين. بيد أن حلم الدولة الواحدة في 1958م، وشراكة الدم في 1973م، لم يشفعا لجمال سليمان في بدايات القرن الحادي والعشرين، فهوت عليه قذائف معسكر الشوفينية المصرية، المتدثرة كالعادة برداء الوطنية، وادعاء الحرص على مصلحة الوطن.
الولاء للأوطان على حساب الأمم - كما أشارت أزمة قطاعات واسعة من المصريين مع سليمان - بدا مفاجئاً للكثيرين، الذين راهنوا على انتشار الهوية الإسلامية، ونجاحها في نبذ التعصب الإقليمي، وإذابة الحدود بين الدول والمجتمعات الإسلامية. ولعل الإطار التاريخي هنا هو الأفضل لفهم الآليات التي تحكم ارتباط تلك الهويات المختلفة ببعضها البعض. فلقد مثلت عملية بناء الدولة الحديثة التي لا تتقاطع حدودها السياسية مع انتماءات شعوبها أهم تحديات الدول القومية في مرحلة ما بعد الاستقلال. وإن كانت السياسات الفوقية سهلة التطبيق بعض الشيء، فإن محاولات أنظمة تلك الكيانات الصناعية بلورة هوية شعوبها باتجاه ترسيخ الولاء لتلك الدول حديثة النشأة لم يكن بذات السهولة، كما هو الحال بمنطق الأمور، فالمسائل المادية أسهل كثيراً في التشييد والتعديل من محاولة تغيير الهوية، فالأخيرة مرتبطة بموروث ثقافي وحضاري، تشكل عبر مئات السنين، ومن الصعب تجاوزه، كما أنه حاضر بقوة في الممارسات اليومية للشعوب، ولا سبيل لاقتلاعه. تلك الصعوبة عبر عنها السياسي الإيطالي ماسيمو أزيجليو (1798-1866م) حين قال بعد توحيد إيطاليا: quot;لقد أنشأنا إيطاليا، وبات علينا الآن خلق الإيطاليينquot;.
بيد أن التحدي كان أكبر كثيراً في الوطن العربي عنه في أوروبا، بالنظر إلى قرون طويلة من الزمان عاشتها الشعوب العربية في ظل حكم مركزي، مرتكز على الرابطة الدينية، والولاء للسلطان، رمز السلطة السياسية. كما أن الولاء للهويات فوق الوطنية كالإسلام والعروبة، والهويات تحت الوطنية متمثلة في الجماعات الإثنية والعرقية المنتشرة بطول العالم العربي وعرضه، إضافة إلى الفترة القصيرة المتاحة لإتمام تلك العملية، مقارنة بالقرون الأربعة التي تمتعت بها أوروبا، وفي ظل تحديات دولية ضخمة كالاستعمار، وإنشاء دولة إسرائيل، ضاعفت من صعوبة المهمة. كانت مهمة إزاحة كل هذا، وإقامة بنيان آخر على أنقاضه قابل للاستمرار أقرب إلى محاربة طواحين الهواء بسيف من خشب.
ولئن تطلبت مسألة ترسيخ الولاء للدول القومية الكثير من الوقت والجهد والصبر، فإن الفراغ الذي نشأ فجأة نتيجة انهيار الخلافة العثمانية لم يكن لينتظر، فقد تم ملؤه بواسطة المستودع الرئيسي المتاح، أي المشاعر الإسلامية الموحدة للشعوب عبر الحدود. تقاطعت الهوية الإسلامية في المرحلة الأولى مع القومية العربية، والتي ساهم في ترويج ومأسسة قيمها جهود فوقية، كان وراءها نظام عبد الناصر في مصر، وحزب البعث في كل من سوريا والعراق، ثم انفردت الظاهرة الإسلامية بالساحة الفكرية والسياسية تماماً بعد الضربات المتتالية التي تعرضت لها القومية العربية في الستينات والسبعينات وما بعدها، فمن الناحية المعنوية، ضرب انفصال الوحدة المصرية السورية، وهزيمة الجهد العسكري الجماعي في 1967م، والغزو العراقي للكويت فكرة الوحدة العربية في الصميم. ومن الناحية المادية، ساهم ظهور البترول، وارتفاع أسعاره، في تقسيم الوطن العربي إلى عالمين منفصلين، أحدهما غني والآخر فقير، والتواصل بينهما ضعيف - وربما مفقود ndash; بسبب غياب المصلحة الإقتصادية. وما رفض دول مجلس التعاون الخليجي انضمام اليمن للمجلس بسبب الفارق في المستوى الإقتصادي بين اليمن quot;الفقيرquot; وسائر أعضاء المجلس quot;الغنيةquot; إلا دليل على ذلك. فضلاً عن تلك العوامل، ولأسباب تتعلق بحسابات العائد والتكلفة، فقد استُبدل في سياسات معظم الأنظمة العربية منطق الأمة ( Raison de la nation ) بمنطق الدولة ( Raison drsquo;etat )، أي تغليب مصلحة القُطر على مصلحة الأمة، وكان أبرز تجسيد لهذا التوجه الأيديولوجي زيارة السادات للقدس، وعقده صلحاً منفرداً مع إسرائيل.
بانطفاء وهج القومية العربية، اكتسب الإسلام السياسي زخماً كبيراً، فانتشرت الحركات الإسلامية في كل الأقطار العربية بلا استثناء، وتعاظمت قوتها بشكل غير مسبوق، فتمكن بعضها بالفعل من الوصول للسلطة (كما في السودان وفلسطين) واقتربت من ذلك جداً في أقطار أخرى (الجزائر نموذجاً)، ومثلت المعارضة الرئيسية للحكومات العربية ndash; سواء عن طريق صناديق الاقتراع أو طلقات المدافع ndash; في دول أخرى كثيرة (كما في مصر وتونس والأردن والكويت). وعلى المستوى الشعبي، تصدر الدين المشهد الاجتماعي والثقافي، وتأسلمت جميع مظاهر الحياة فمن ارتداء الحجاب وإطلاق اللحي على نطاق واسع، إلى انتشار البنوك وشركات توظيف الأموال ومنظمات المجتمع المدني ذات الطابع الإسلامي، إلى تعدد البرامج الإسلامية على المحطات الفضائية، وازدياد الرصيد الجماهيري لمقدميها ممن يُنعتون بالدعاة الجدد.
أدى طغيان مظاهر الهوية الإسلامية على هذا النحو إلى الاعتقاد بهزيمة الهويات الأخرى في quot;معركة العقول والقلوبquot;، والتسليم بأن الأسلمة الكاملة للسلطة والمجتمع حتمية، ولا ينقصها سوى عنصر الوقت. بيد أن ذلك الإدعاء ليس في محله تماماً،
فتجذر الهوية القُطرية في وجدان وخيال الشعوب العربية ndash; بعد عقود من quot;تسويقهاquot; من قبل الأنظمة الحاكمة ndash; وتقديم الخصوصية الوطنية على الإنتماء القومي أمر لا تخطئه عين، ومثال جمال سليمان المشار إليه آنفاً ليس الوحيد. فالاستجابة التي لقيتها محاولات الأنظمة تعبئة رعاياها خلف برامج وشعارات قُطرية ndash; مثل استعانة صدام حسين بأمجاد ال إمبراطورية البابلية لتوطيد الإنتماء للوطن العراقي، ورفع شعار quot;مصر أولاًquot; في مصر السادات - دليل على ذلك. فالتشاحن والاحتكاكات التي تحدث بين الجماهير العربية وقت المنافسات الرياضية تظهر الكثير من مكنونات النفس، تماماً كما تتحول المنافسات الفنية العربية إلى ساحات للتعصب، والمزايدة على الولاء للأقطار، بدلاً من أن تكون وسيلة للوئام، والمصالحة، والتقريب بين الشعوب، ومثال quot;ستار أكاديميquot; وأخواتها ليس عنا ببعيد. كما أن علاقة الجاليات العربية التي تعيش في الدول الخليجية بمواطني تلك الدول ليست دائماً في أفضل حال.
في الوطن العربي، تتعايش الهويات ndash; ما نشأ منها من أسفل وما أُنشىء من أعلى - مع بعضها البعض في نسيج فريد، تتصادم أحياناً، وتتواءم أحياناً، وتكمل بعضها البعض في أحيان أخرى كثيرة. أما احتمالات نفي أحدها الكامل للأخرى فلم تحدث أبداً، ففي قمة بزوغ نجم القومية العربية، لم يتوارى الإسلام، وفي عز الإحساس بانتصار الهوية الإسلامية واختفاء ما دونها، يذكرنا جمال سليمان بأن حدائق الشيطان العربية تتسع لسائر الأشجار والنباتات ، بما فيها التعصب والشوفينية والشعوبية.
نايل محمد شامة
باحث في العلاقات الدولية ndash; جامعة سانت أندروز ndash; المملكة المتحدة
[email protected]
التعليقات