لا شك أن منطقة الشرق الأوسط قد دخلت في طور جديد بعد احتلال العراق في عام 2003م بدأت ملامحه تتمخض عن عملاق شيعي تقوده إيران يتمدد نفوذه بقوة في الفضاء العربي نتيجة للفراغ الواضح الذي تركه سقوط نظام صدام حسين أقوى الأنظمة في مواجهة الأيديولوجية الإيرانية المذهبية التي تسعى لتصدير الثورة إلى ربوع المنطقة واكتساب أماكن جديدة لم تكن لها فيها قدم من ذي قبل كمصر التي شهدت بداية قوية لنفوذ المال الشيعي في شكل نشر ثقافة مذهبية مدفوعة الأجر في العديد من الصحف المصرية أحدثت ضجة في الفترة القليلة الماضية بنشر فكر مذهبي طائفي يسعى للنيل من الصحابة الذين يشكلون مرجعية دينية لا يمكن التشكيك فيها ولا المساس بهيبتها في الخلفية الثقافية والفكرية لأهل السنة المذهب الرسمي المصري والعربي ولا شك أن ثقافة الكاوبوي التي تصرفت بها أمريكا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م وقيامها باحتلال أفغانستان ثم العراق بتعاون أمني وثيق مع إيران وحلفائها في كلا البلدين وسقوط أكبر نظامين عدوين لإيران في كل من أفغانستان نظام طالبان والعراق نظام البعث قد أفسح المجال واسعا لكي تبسط إيران نفوذها في وسط آسيا مستغلة هشاشة الثقافة الإسلامية في تلك المنطقة التي رضخت كثيرا للأيديولوجية الماركسية الرافضة للدين فتركت الأجيال الجديدة من المسلمين عبر ما يزيد على نصف قرن بدون مذهبية إسلامية واضحة اللهم الا الانتساب الشكلي بالوراثة لم يسع العرب لملئه بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في بداية التسعينيات من القرن الماضي تاركين المجال لتمدد مذهبي شيعي قوي يقوم على أيديولوجية تصدير الثورة التي هي في أساسها ثورة فكرية مذهبية.


وقد عمل الاحتلال الأمريكي بغبائه ورعونة قيادته الذين قادوا الأمور بعد الاحتلال سواء في كل من أفغانستان والعراق أو في واشنطن بقصد أو بدون قصد على تقوية الدور الإيراني وبروزها كأقوى دولة إسلامية في المنطقة خصوصا أن الاحتلال الأمريكي للعراق لم يزد على أن قدم العراق العدو التقليدي لإيران على طبق من فضة للدولة الإيرانية التي تمتلك من الرؤية الاستراتيجية والمستقبلية ما تفتقده الدول العربية مجتمعة نتيجة لانشغال كل واحدة منها بمشاكل فرعية داخلية وتفكك إرادتهم في التكتل والوحدة بل والسعي للتشرذم في تكتلات إقليمية تضعف الدور العربي في مواجهة الأيدولوجية الإيرانية القائمة على التمدد الإقليمي وتصدير الثورة والسعي بكل قوة لامتلاك أسلحة نووية تفرض بها وجودها كقوة إقليمية معترف بها من جميع الأطراف بما فيها المجتمع الدولي الذي لا يعترف إلا بالأقوياء.


وما يتصوره بعض قصار النظر من أن أمريكا ستسمح لإسرائيل حليفتها الاستراتيجية بتوجيه ضربة مفاجئة لمواقع تخصيب اليورانيم الإيرانية لإجهاض المشروع النووي الإيراني فهذا منطق قاصر وخاطئ وذلك لعدة اعتبارات يمكن إجمالها في أن دور أمريكا في المنطقة دخل في طور الانكماش والغروب باعتراف كثير من المحللين الأمريكان أنفسهم وتعد الحرب على العراق مسمار حيوي وجوهري في نعش الإمبراطورية الأمريكية التي اطاح بها حماقة مجموعة من الصقور زجوا بها في وحل العراق خدمة لإسرائيل لكنهم في الحقيقة خدموا إيران ووجهوا أكبر لطمة لإسرائيل التي شعرت بأول خطر حقيقي يهدد أمنها واستقرارها بالقرب من حدودها عن طريق حزب الله الامتداد الطبيعي لإيران على الحدود الإسرائيلية والتي هددت صواريخه لأول مرة العمق الاستراتيجي لإسرائيل والذي خرج من حرب إسرائيل على لبنان في الفترة الماضية قوة فاعلة لا يمكن تجاهلها محليا وإقليميا هذا علاوة على تقوية دور الأقليات الشيعية في الوطن العربي وخصوصا في منطقة الخليج التي تستشعر الخطر الإيراني على حدودها وفي مياهها الإقليمية كقوة مستقبلية لا تخفي مطامعها في المنطقة والتي لا تتوقف عند تصدير الثورة ونشر الفكر المذهبي والطائفي.


إن أمريكا تعلم تماما خصوصا بعد انكسار وبداية انحسار فكر الصقور وخسارة الجمهوريين في انتخابات التجديد النصفي في الكونجرس الأمريكي بمجلسيه النواب والشيوخ بعد سيطرة دامت أثنى عشرة عاما تجعل الرئيس الأمريكي كبطل كاوبوي مزيف دون بندقية ودون قطيع مجرد شبح يرتدي قبعة ويعاني من هلوسات كيخوتية أن مغامرة إسرائيلية بضرب الأهداف النووية الإيرانية ستدفع أمريكا ثمنها غاليا في المنطقة التي ينتشر فيها الجنود الأمريكية بما يزيد على 150 ألف في العراق كلهم في فوهة المدفع الإيراني وتحت يد حلفائها في العراق الذين تسلموا حكم العراق كغنيمة وهدية من القوات الأمريكية علاوة على المخاطر والأضرار التي تستطيع إيران أن تلحقها بعملية نقل النفط من الخليج العربي الذي أصبح خليجا فارسيا تتحكم فيه إيران وتستطيع تعطيل إمدادات النفط من الخليج إلى العالم الخارجي. كذلك فإن القواعد الأمريكية في الخليج ليست بمنأى عن الخطر الإيراني.


جملة القول أن إسرائيل كدولة وظيفية في المنطقة سوف تعاني مستقبلا بصورة لم تتخيلها هي ولا حلفائها من الصقور الذين خطفوا السياسة الأمريكية في الفترة الماضية والذين خططوا لاحتلال العراق خدمة لدولة الكيان الصهيوني أولا وقبل كل شيء من التغييرات الجديدة التي أحدثها الاحتلال الأمريكي للعراق والذي نتجت عنه تدعيم مراكز جماعات وأحزاب أثبتت وجودها في الفترة الماضية بعد غياب وانحسار دور الأنظمة كحزب الله في لبنان ومنظمة حماس في فلسطين المحتلة ولا ندري غيرهما غدا هنا وهناك في المنطقة.


وهذا يدفعنا للحديث عن ضرورة عودة الدور المصري الذي غاب طويلا وتراجع كثيرا فأصبح تنازعه دويلات أوجدتها الصدفة المحضة لكنها لا تضمن لها استمرارا تزايد على احتكار مصر لمنصب الأمين العام للجامعة العربية وتسعى لتهميش دورها ظنا منها أن امتلاك قناة فضائية أو دفع حصة في تمويل المؤسسة العربية يمنحهم حق توجيهها والانتقاص منها لحساب أجندة خارجية همها الأول والأخير أن يظل العرب في حالة من التشرذم والتفرق كملوك الطوائف تتقاذفهم الأهواء وتحركهم الأصابع الخارجية والحقيقة أن نظام الحكم في مصر يتحمل جزءا كبيرا من تراجع الدور المصري العربي بعد أن نفض دوره كرائد واكتفى بدور الوسيط في قضية محورية كالقضية الفلسطينية ما كانت تجرؤ إسرائيل على ارتكاب المجازر المتتالية لولا الصمت المصري وتراجع دورها في ريادة العرب والاكتفاء بدور المتفرج حتى ما يحدث على حدودها الجنوبية في السودان غضت الطرف عنه طويلا حتى لحق الحريق بذيلها وأصبح تقسيم السودان أمرا واقعا كالعراق لا ينقصه سوى الاعتراف والإقرار وأصبح خطرا ماثلا يهدد أمن مصر القومي على جميع المستويات أهمها على الإطلاق مياه النيل شريان الحياة الأساسية في مصر وعصب الاستقرار الزراعي بل إن النيل ارتبط تاريخيا ووجوديا بمصر فقال هيرودوت مقولته الشهيرة مصر هبة النيل فماذا لو استقل جنوب السودان وأقيمت السدود والحواجز وتم التحكم في منابع النيل بفعل مؤامرات صهيونية تسعى جاهدة لتحقيق هذا الهدف منذ زمن بعيد لخنق مصر وإذلالها.


ولكي يعود الدور المصري لسابق عهده كرائد في المنطقة العربية ولمواجهة دور إيران المتنامي في منطقة الشرق الأوسط الجديد بخلاف الذي خططت له أمريكا وبشرت به كوندليزا رايس عشية الحرب الإسرائيلية على لبنان الذي تمخضت عن إظهار إسرائيل على حقيقتها كدولة ضعيفة لا تستطيع الصمود أمام بضعة الآلف من الجنود المدربين ومجموعة صواريخ متوسطة المدى اخترقت العمق الإسرائيلي وأجبرت نصف سكانه على اللجوء للمخيمات وهجرت ثلثه من مدنهم وتعود قوتها في الأساس كدولة وظيفية لضعف العرب وتفككهم وتآمرهم على بعضهم البعض فما كان لأمريكا أن تحتل العراق لولا التواطؤ العربي الذي ظن أن غياب صدام سيتيح لبعضهم دورا أكبر وسيمنح بعضهم الأمن والاستقرار غافلين عن أن غياب العراق فتح الباب واسعا للنفوذ الشيعي كخطر مذهبي وقومي على النفوذ العربي وخصوصا في منطقة الخليج والحقيقة أن العرب في ظل غياب الدور المصري أو الانتقاص منه أو تهميشه غير قادرين على مواجهة الدور الإيراني كقوة في المنطقة تسعى لفرض سيطرتها وبسط هيمنتها على الجميع ولكي تقوم مصر بدورها في مواجهة إيران كقوة لا بد من مجموعة أمور يمكن إيجازها على النحو التالي:
لابد من عودة دور الدبلوماسية المصرية بقوة وتنشيطها لإحداث نوع من التوازن في العلاقات الدولية بين الشرق والغرب والابتعاد قليلا عن الفلك الأمريكي الذي لا يكترث كثيرا لقضايانا العربية وتوقف برنامج الخصخصة الذي كان من نتيجته بيع شركات ومؤسسات تمثل عصب الاقتصاد المصري بثمن بخس أهمها قطاع الأسمنت والبنوك وأخيرا صفقة عمر أفندي الذي أثير حولها غبار كثيف أظهرت أن عمليات البيع غير بريئة ولا نزيهة ولا تراعى فيها مصلحة البلد كما أن ثمارها غير ملموسة للمواطن البسيط الذي يعاني من ثالوث الفقر والبطالة وغلاء المعيشة.


لابد وأن تدعم الدول العربية الغنية الاقتصاد المصري ويجب عليهم أن يوقنوا أن استقرار مصر وأمنها هو استقرار لهم أولا وأخيرا وأن يوقنوا أن القواعد الأمريكية إلى زوال ومرتبطة بهدف محدد لن يدوم ولن يكون البديل سوى عربدة إيرانية وكتل سكانية من عمالة أسيوية هندية وغيرها تهدد التركيبة السكانية وتؤثر بقوة على الأخلاقيات والسلوكيات وتتدثر بحقوق الإنسان وغيرها للحصول على إقامة دائمة وعلى هذه الدول أن تعتمد بدرجة أساسية على العمالة العربية لأن فيها أمان واستقرار المجتمع الخليجي دون الالتفات لبعض الأصوات النشاز الذي تدعو للتخلص من العمالة العربية غير مدركة لأبعاد ذلك على الأمن القومي لمنطقة الخليج بصفة خاصة.


ضرورة فتح المجال للثقافة الإسلامية الوسطية ممثلة في الأزهر الشريف لمواجهة المد الشيعي وطائفيته في غلوه في هجاء الصحابة والتطاول عليهم بمنهج وسطي بعيدا عن لغة التكفير السائدة في الفكر السلفي المعاصر والتي تجتذب قطاعا عريضا من الشباب يهتمون بالمظهر والشكل أكثر من اهتمامهم بجوهر الدين وأصوله ولأجل ذلك ضرورة استقلال الأزهر كمؤسسة بعيدا عن قبضة الدولة وإعادة الاعتبار للعلماء والاستعانة بالثقات كالشيخ يوسف القرضاوي ومحمد الراوي بعيدا عن شيوخ التيك أواي حتى يواجهون ثقافة التشدد المنتشرة بين الشباب من ناحية وحتى يتصدوا للمذهبية الشيعية المسعورة ضد الصحابة وثوابت الأمة من جهة ثانية.


تغيير الدستور بما يحقق المصلحة العامة للمجتمع وبما يتمشى مع الواقع المعاصر وفتح المجال لتأسيس أحزاب حقيقية تقودها شخصيات ذات ثقل ثقافي وسياسي وما أكثر تلك الشخصيات في المجتمع المصري بعيدا عن الأحزاب الكرتونية التي لا تمثل سوى بضع عشرات من الأفراد أو طائفة من أصحاب المصالح كالحزب الوطني ممن يسعون للحظوة والكاسب الشخصية وأخر ما يهتمون به مصلحة الوطن والمواطن، فأخر سياسي حزبي محترم مارس السياسة بواقعية فؤاد باشا سراج الدين الذي بوفاته توفى حزب الوفد وسبقه إلى القبر والاعتراف بالقوة الحقيقية مع عدم تضخيم حجمها كالإخوان المسلمين وحقهم في تأسيس حزب سياسي وعدم الهلع من خطرهم فهم لا يتجاوزون 20% لكن قوتهم تعود لتراجع الأحزاب السياسية وعدم جدواها.
هذه بعض القضايا المهمة التي لا بد منها لاستعادة الدور المصري المفقود في صراع الشرق الوسط الجديد الذي تتجاذبه طهران من جهة التي تحتوي النظام السوري وتحاول اقتلاعه من محيطه العربي وتل أبيب من جهة ثانية وربما يسفر هذا التجاذب بين طهران وتل أبيب في نهاية الأمر عن تعاون واتفاق بينهما تدفع الدول العربية ثمنه من أمنها واستقرارها في ظل غياب الدور المصري كرائد وقائد لا يمكن للعرب أن يستقروا بدونه ولا يتحقق لهم أمن وأمان في غيابه.

دكتور أحمد عرفات القاضي
كاتب وأكاديمي مصري
[email protected]