ليس بالأمر السهل نقل تجربة بلد يعتبر من افضل دول العالم في ممارسته لحقوق الإنسان والديموقراطية إلى بلاد العالم الثالث، خاصة سوريا، التي مازال نشطائها يحاولون الإجتهاد من إجل إيجاد قواسم عمل تجمع اكبر عدد منهم حول اسس وثوابت قد تكون أو لا تكون معاصرة.

تعتبر كندا من الدول المميزة في ممارستها لهذه الحقوق على مواطنيها، خاصة أن شرعة حقوق الإنسان تعتبر المقياس الأول في الترتيب، يليها الدستور والقانون فيها. لكن الخطاب السياسي السوري كان ومازال يستفزّ المشاعر كالشعر الحماسي. أما السلوك السياسي، فحدُث ولا حرج، والدليل حزب البعث وما آل إليه في طريقة حكمه، واحزاب الجبهة الوطنية وما تحولت به عبر إشتراكها النظري في الحكم، واختصارها إلى اشخاص معدودين، يشاركون الحياة السياسية عبر منافع مشابهة لمنافع رجال السلطة ورموز النظام.

مارست العمل الطوعي مع حزب الليبرال الكندي على المستوى الفيدرالي منذ عدة سنوات، لم يكن الهدف من ذلك إلا القيام بتجربة الممارسة الحزبية في هذا البلد الذي شاءت الظروف أن يستقبلنا بعد تجربة العيش لسنوات في فرنسا. كان الغرب امامي واحداً قبل تجربة الحياة المعاشية فيه. لكن بعد زمن معين كان لا بد تبيان ان المبادئ الأساسية لكيان الدولة ودور الإنسان بها الأول بها، قد يكون مشترك، وإن وجدت فروقات لا يمكن ملاحظتها إلأ من خلال الممارسة اليومية ولسنوات.

سمحت الظروف حضور مؤتمرين لحزب الليبرال الكندي على مستوى المقاطعة، كان لا بد أن اسجل عدد من الملاحظات حول ممارسة الحرية والديموقراطية من خلال التجربة وليس من خلال التنظير والتأطير.

يستمر المؤتمر عادة يومين أو اكثر، يناقش المؤتمرون عدد من المواضيع التي تهتم بشؤون المواطنين القضايا الكبرى، كالبيئة والمشاركة بتطوير بعض الأسلحة مع الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها. اسئلة يقدمها الناشطون في الحزب، عبر لقاءات، يدعو إليها بعض النواب، او جمعيات الأحزاب في كل منطقة إنتخابية.

يحق لأي مشترك في كل حلقة التحدث برأيه حول الموضوع لمدة زمنية محددة، موافقاً أو مخالفاً، أو مضيفاً للموضوع المناقش به. يتحدث من يرغب بكل حرية، بإحدى اللغتين المعترف بهما في كندا، الفرنسية أو الإنكليزية.

بعد المناقشات يتم التصويت على كل من هذه البنود وتقدم فيما بعد لقيادة الحزب في المؤتمر العام على مستوى البلد.

لم ألاحظ في تلك التجربة أي جدال من النوع الإيديولوجي، أو نقاش حول بعض القضايا الفكرية أو النظرية، الخاصة بالحرية والديموقراطية. لكني أذكر مرة، أن احدهم حاول التحدث عن الدين في احدى الحلقات كقضية. عندها قاطعته المسؤولة عن الحلقة، قائلة: إننا في بلد علماني، لذا ارجو التوقف والعودة إلى مكانك. حاول بعدها ان يكمل أو يعترض، فكررت ماقالته له وعاد إلى كرسيه وكأن شيئاً لم يكن.

دعتني تلك التجربة لمقارنة الأداء الكندي لهذا الحزب المشابه لأي حزب آخر في كندا في طريق الممارسة، مع تجربة المنتدى الثقافي السوري في مونتريال، الذي استمر قرابة الستة اشهر، ومقاربة طرق النقاش الذي هدف في محاولات متعددة لإيجاد قواسم مشتركة بين الناشطين السوريين من كافة الإطياف، بدعوة إن الوطن السوري في خطر ويتطلب منا جميعاً محاولة مساعدته ضمن الإمكانيات والظروف.

استمرت تجربة المنتدى السوري بإجتماعات دورية تقام كل خمسة عشر يوماً في مقر أحدى الجمعيات العربية. ثم توقفت لأسباب تقنية، وقدوم الصيف.

تمحورت اللقاءات بعد عدة حلقات عن صعوبات جمّة في عدم قدرة المتأدلجين التغيير والتطوير في افكارهم وآرائهم، كنهم كانوا عملياً، متعاطفين، أو اعضاء سابقين في احزاب تاريخية كانت عماد الحركة السياسية لأكثر من مدة نصف قرن ومازالت في سورية. حيث استمر هؤلاء في إعادة وتكرار ماهو معروف، وما قد درسناه أيام الجامعة، من أفكار وطروحات مكررة. كما لم يكن باستطاعة العديد منهم مراجعة ماسماه البعض بالثوابت بصيغة نقدية أو جوهرية ليتم تطوير بعض الأفكار بشكل معاصر وحديث، كل ماتم الحصول عليه جزئياً، هو قيام دولة سورية، يسود بها الدستور والقانون، حتى ان البعض كان يتلكأ أو لا يرغب بلفظ مبدأ المساواة بين المواطنين، اما عن معنى الديموقراطية فكان ومازال لدى العديد مقتصراً على مفهوم صناديق الإقتراع فقط، بدون الإهتمام بمبادئ الديموقراطية، التي عددناها في اكثر من مقال.

كانت المحاولات المتكررة من كل طرف، تحاول استقطاب البعض للأخر لتشكيل محاور، اكثر من محاولة الإستفادة من الطروحات الجديدة والمعاصرة لمعنى الدولة واسسها، وقضية ممارسة الحرية والديموقراطية. وكانت محاولاتنا لدفع التفكير إلى مواقف جديدة تستمد معناها من تجربة العيش في كندا تبوء بالفشل الذريع، لا بل المحاربة احياًنا، خاصة عندما كان البعض يعّبر برأيه وبشكل عفوي، عن عدم وجود حرية أو ديموقراطية في كندا، وكأنه جسدياً موجود في كندا، أما عقلياً، فما زال في خليته الحزبية التي لم يعد لها وجود اصلاً في وطنه الأصلي.

بعد تلك التجربة، كان لابد للمرء أن يتساءل عن السبب الأساسي، الذي يدعو الناشط السوري إلى الإنصهار في تجربة سياسية بخلفيات أيديولوجية، اثبتت فشلها، ليس في سوريا فقط، بل في عديد من الدول العربية والعالمية التي انتشرت بها مثل هذه الأحزاب. ماهو السبب الذي يدعو البعثي والشيوعي والإسلامي، إلى عدم القيام بنقد ذاتي وقراءة معاصرة لما يحمله في تجربته السابقة وعقله وقلبه، في بلد يمارس فيه حريته وحقه الكامل بها، وفي بلد تقام به الإنتخابات على ثلاثة مستويات، مستوى البلديات، ومستوى المقاطعة والمستوى الفيدرالي.

لماذا وهو المتنعم بكل هذه الحريات، يرفض التعلم منها ومحاولة على الأقل استخلاص نتائجها والدعوة إلى تطبيقها أو جزء منها في بلده الأصلي. وطنه التاريخي الذي ولد به، وعاش به أهله واجداده لمئات السنوات، بلده الذي لم يسمح له بممارسة شئ من هذه الحرية أو الديموقراطية، الذي غادره بسبب سياسة الحزب الحاكم مخيراً إياه بين السجن أو الصمت المؤبد.

هل يكون السبب متمثلاً في العادات والتقاليد، بمعنى ان تغيير المبدأ الذي تربى عليه، عيب وخطأ، أم أن الخروج عن أية ايديولوجية حملها وأثبت الزمن خطأها عبر التطبيق، كونها لم تكن قادرة على إجبار العسكر والطامحين إلى السلطة التمسك بمبادئها والعمل لها؟

أم أن السبب ناتج في أن التخلي عن مثل هذه الإيديولوجيات، سيشعر حامليها بالعراء، لعدم قدرتهم على تغيير نمط التفكير واكتساب مفاهيم جديدة معاصرة تنحو إلى أداء عملي اكثر من خطاب إيديولوجي يملاً النفس بالحماس والحماس فقط؟

أم ان العمل السياسي تاريخياً قد أمنًّ لنا حلقة من المعارف والأصدقاء والرفاق، الذين سنخسرهم لو تم التغيير في الأفكار التقليدية إلى افكار معاصرة.

أم ان المشكلة قد تكون أكبر من أي فرد أو أي حزب، أو أية إيديولوجية، هي بالأصل مشكلة في صميمها ثقافية، تصب في كافة مكونات الحياة في مجتعاتنا من عادات وتقاليد ومعتقدات منصهرة بعقولنا الباطنية، تنمو معنا عبر تربية معينة تبدأ في سن الطفولة، وتكرر نفسها في اجيال متلاحقة.

ماهو السبب الذي يمنع عقل الإنسان السوري من اداء حوار ذاتي يدعو إلى التغيير والتحرر من تجارب الماضي الفاشلة بنتائجها كما هو حاصل اليوم. ماذا ينقص العقل لكي يتم نقد تجربة الأحزاب التاريخية ومحاولة معاصرة الحاضر بمعايير التجربة الغربية بعد الحرب العالمية الثانية وقيم حقوق الإنسان ومؤسسات المجتمع المدني، وقضية فصل الدين عن الدولة، خاصة أن هذا الغرب كان نفسه مصدر لمعظم الأحزاب القومية واليسارية في النصف الأول من القرن الماضي.

إنه سؤال كبير جدّاً، مازال البعض يناقشه من مبدأ أيديولوجي محمل ببعض البهارات والدسم المعاصر.

إنه سؤال سيهمله من اعتاد العمل السياسي بمعايير التجربة الشخصية ودائرة الثوابت الممنوع التساؤل عنها كونها قد توصم بإسماء واسماء، بهدف الإقصاء الغريزي، لا بطرق الحجة والحوار الجدي الهادف إلى إيجاد اجوبة متكاملة وعملية في إسقاطاتها.

تجربة الإنتقال من نشاط سياسي quot;ترفيquot; الأداء في أوطان المهجر، ومصيري في ارض الوطن، قد يتطلب جدية أكبر، وتساؤلات اعمق، لا في محاولات قد تؤدي بنتائجها إلى تكرار تجارب قد تكون مهلكة بحق الوطن لعقود زمنية قادمة، ولا في التضحية أو النضال وتحمل الإضطهاد المعنوي والجسدي فقط، تساؤلات مصيرية عن سبل إستراتيجية تصب في نتائجها في بناء وطن السعادة والأمن لمواطنيه كلهم.

د. فاضل فضة