تسببت رسوم (كاريكاتورية) مسيئة للإسلام نشرتها صحيفة(جيلاندز بوستن) الدنمركية في ايلول الماضي،بانفجار أزمة كبيرة في العلاقة بين (العالم الإسلامي) وبين دولة الدنمرك ومعها الدول الأوربية التي أعادت نشر هذه الرسوم.وقد فاجأت،السرعة والطريقة التي تفاعلت فيها ردود الأفعال العربية والإسلامية، الكثير من الأوساط في كل من الشرق والغرب معاً، وتركت إشارات استفهام عديدة لدى هذه الأوساط، خاصة ما جرى في كل من (سوريا ولبنان)، أكثر دول المنطقة اعتدلاً وتسامحاً في قضايا الدين، وسوريا المعروفة بقدرتها على ضبط التظاهرات. حيث هي المرة الأولى التي يتم فيها حرق سفارات وقنصليات دول أجنبية ( الدنمرك والنرويج)، في (بيروت ودمشق) من قبل متظاهرين محتجين. وكادت (تظاهرة بيروت) الإسلامية أن تشعل (حرب أهلية) جديدة في لبنان بعد أن قام الغوغاء والهمج المندسين بين المتظاهرين بحرق وتخريب العديد من المباني والمحلات التجارية للأهالي والهجوم على بعض الكنائس في منطقة الأشرفية ذات الغالبية المسيحية، فقد أحدثت التظاهرة فوضى واضطراب أمني زاد من التوتر القائم في العاصمة بيروت، ويرجح البعض من احتمال أن يكون هناك أطراف، محلية وخارجية، أرادت خلط الأوراق في لبنان وتفجير الأوضاع المتوترة فيه.

لا شك،أن الجريدة الدنمركية، أكانت قصدت أو لم تقصد ذلك، هي تجاوزت حدود حقوقها في حرية (الرأي والتعبير) التي بررت بها نشرها لتلك الرسوم، لأن هذه الحرية
لا تعني قطعاً المساس بعقائد ومقدسات الآخرين والنيل من رموزهم المقدسة.ومما لا شك فيه أيضاً، أن من حق المسلمين الاحتجاج على الاساءات التي لحقت بهم وبدينهم، لكن كان يجب أن لا تتعدى (التظاهرات الإسلامية) حدود القضية وتتجاوز سقف الشجب والتنديد، وأن لا ترد على الإساءات بإساءات اشد انعكست سلباً على القضية التي دافعت عنها.فما علاقة (الدفاع عن الرسول والإسلام)،بأعمال التخريب والنهب والهجوم على الكنائس والسفرات وقتل أبرياء مسيحيين في العراق وتهديد بتفجير الكنائس في غزة بفلسطين.فمثل هذه الممارسات والأعمال البربرية وغيرها من الانتهاكات التي حصلت وما رفع من شعارات متطرفة-حتى بنظر الكثير من المسلمين- أساءت للإسلام، وربما أكثر من رسوم الكاريكاتوري ذاتها. من الواضح، أن إثارة ( قضية الرسومات) وبهذه الطريقة في العالم (العربي والإسلامي) بعد أكثر من أربعة أشهر من نشرها في الدنمارك،لا يمكن عزله أو تحييده عن الاحتقانات السياسية والأمنية في منطقة الشرق الأوسط، وعن العلاقة المتوترة أصلاً بين العديد من أنظمة دول المنطقة من جهة وأمريكا وحلفائها من جهة أخرى، ذلك على خلفية الموضوع اللبناني بكل تفرعاته، والملف النووي الإيراني الذي احيل الى (مجلس الأمن )، ثم الموضوع الفلسطيني و الضغط على حركة حماس التي فازت بأغلبية مقاعد المجلس التشريعي الفلسطيني للاعتراف باسرائيل والتخلي عن سلاحها كشرط للتعاون الأوربي والأمريكي معها،ثم مفاعيل الاحتلال الأمريكي البريطاني للعراق والحرب في أفغانستان. ويبدو أن الجهات المحرضة تسعى لإبقاء هذه الأزمة مفتوحة لغايات وأهداف سياسية واقتصادية، و لترسل عبر هذه (التظاهرات الإسلامية)أكثر من رسالة وبأكثر من تجاه. فمن جهة: أرادت (الأنظمة المأزومة) في المنطقة تصدير أزماتها الداخلية الى الخارج وإبعاد الشعوب المسحوقة عن قضاياها الأساسية، المتمثلة بالديمقراطية والحريات وتحسين الوضع المعيشي والتعليم واحترام حقوق الإنسان، كما أنها أرادت تخويف هذه الشعوب (المحافظة والمتدينة) من الديمقراطية والحريات بتصوريها، للديمقراطية على أنها: (حرية الإساءة للأديان ورموزها المقدسة وانتهاك القيم والأخلاق العامة). ومن جهة أخرى: أرادت، هذه الأنظمة، أن تظهر قدرتها على تحريك الشارع العربي الإسلامي الغاضب ضد المصالح الأمريكية والغربية في حال تمادت( أمريكا وحلفائها) في ضغطها ومحاصرتها للأنظمة العربية والإسلامية المستهدفة. ومن جهة ثالثة: وربما هو الأهم من كل هذا وذاك، أرادت هذه الأنظمة التي تخشى الديمقراطية، القول لأمريكا وحلفائها ولكل المطالبين بالديمقراطية في دول الشرق العربي والإسلامي: (( أن الديمقراطية هي أسهل وأقصر الطرق لوصول هؤلاء الإسلاميين المتشددين، اللذين خرجوا للشوارع للتظاهر وقاموا بحرق السفارات، الى السلطة)) بمعنى آخر ((إما هم أو الإسلاميين في الحكم)).ومن جهة رابعة: سعي هذه (الأنظمة المأزومة) لكسب (التيارات الإسلامية) المتنامية الى طرفها في معركتها الراهنة مع الغرب الأمريكي والأوربي الضاغط عليها.وبالمقابل أرادت عموم (التيارات الإسلامية)التي كان لها الدور الكبير في التحريض على التظاهر وإخراج الناس للشارع،ابراز قوتها الشعبية والسياسية و الظهور بمظهر المدافع القوي عن قضايا الشعوب العربية والإسلامية وبالتالي طرح نفسها بديلاً عن الأنظمة (القومية واليسارية) القائمة والمسئولة عن تدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية لشعوب المنطقة.أنهم جميعاً أرادوها معارك (سياسية) وعلى أكثر من جبهة تحت (العباءة الدينية)، كل لأهدافه وغاياته، مستغلين المشاعر الدينية للمؤمنين وللجماهير المسحوقة التي كان من الأولى بهذه الجماهير أن تخرج لتطالب بحقوقها المنتهكة وتحسن أوضاعها.

بالإضافة،الى تلك الرسائل السياسية المهمة التي حملتها (الهبات الإسلامية) على الرسوم الدنمركية، أثارت، هذه الهبات، العديد من القضايا والمسائل الفكرية والأخلاقية والسياسية الشائكة. أبرزها: (اشكالية العلاقة) بين الشرق (الإسلامي) والغرب (العلماني)، وقدرة كل منهما على فهم واستيعاب الآخر بما هما كيانات جغرافية وثقافية وتاريخية متمايزة عن بعضها،وبالتالي رفعت من رصيد نظرية ( صدام الثقافات أو صراع الحضارات).فمن الممكن أن تتطور الأحداث المأساوية التي سببتها بعض التظاهرات الإسلامية على خلفية هذه الرسوم، أو قد تندلع لأسباب وحول قضايا اخرى مشابهة، وتزيد من درجة الاحتقان والتوتر بين (الشرق والغرب) الى مستوى يصعب فيه السيطرة على الأحداث والتحكم بها،و تفقد القوى الأخلاقية أو (العقلانية) في المنطقة والعالم زمام المبادرة وانتقالها الى ايدي فئات غوغائية هوجاء مستهترة، هنا وهناك، منقادة بنوازعها الغريزية والعاطفية، وبالتالي تشكل خطراً حقيقياً على الأمن والسلم العالميين.كذلك أثارت، الهبات الإسلامية، اشكالية العلاقة بين (الدين والسياسية) في (العالم الإسلامي) وفرص نجاح العلمانية والديمقراطية في المجتمعات العربية والإسلامية وكشفت عن مدى سيطرة الدين على وجدان وعقل (الإنسان المسلم) والدور الكبير والمهم الذي يمكن أن يلعبه (الدين) في تحريك الشارع العربي والإسلامي.

سليمان يوسف

.كاتب سوري آشوري..مهتم بحقوق الأقليات

[email protected]