قامت السيدة كوندليسا رايس بزيارة إلى لبنان أمس الخميس من ضمن زيارتها لمنطقة الشرق الأوسط وحكوماته، وقد تضمنت هذه الزيارة عدداً من الرسائل إلى الداخل والخارج كان أبرزها زيارة السيد جنبلاط في منزله في فردان، وعدم قيامها بزيارة القصر الجمهوري ولا لقائها بالجنرال عون، كما حدث في زيارتها السابقة. وكانت تصريحاتها دعماً للبنان واستقلاله وسيادته وحق شعبه باختيار رئيس متحرر من قيود التبعية، ومن جهة أخرى التشديد على تنفيذ القرارات الدولية وأهمها القرار1559، وكان تعليق السيد جنبلاط رداً على أسئلة الصحافيين quot;بأنني أنا تغيرتquot; كافياً لفهم المغزى خلف تخصيصه بهذه الزيارة المفاجئة.
ولكن في الجانب الآخر كان تجمع الضاحية الجنوبية الذي ضم عشرات ألوف الضاربين على الصدور والذين تزينهم أعلام صفراء بمجملها، يصغي إلى خطاب السيد نصر الله وكلامه الموجه إلى من يريدون التغيير بواسطة الشارع، وينبه إلى خطورة استعمال هذا الشارع، وخطورة التفرد بالمواقف، وبأن لبنان لا يمكن أن يقوم على الغلبة لفئة، ولا يجب أن تطرح شروط للحوار، ولا أن تغيّب فئة من اللبنانيين، وهذا كله حسن نسمعه لأول مرة من السيد حسن، ونقول: أين كان هذا الكلام يوم رفض السيد حسن التكلم عن سلاحه، ورفض أن يحاور بهذا الشأن، وأن هذا السلاح هو كالعرض لا يمكن التخلي عنه، فهل كان هذا الكلام من قبيل الشروط أم ماذا؟ وماذا تغير اليوم؟
ويوم رفض السيد نصر الله حتى الكلام عن أخوتنا أبناء الجنوب الذين كان ذنبهم الدفاع عن أرضهم وعرضهم وتراب لبنان، فهل كان هؤلاء فئة من اللبنانيين يجوز أن تغيّب وتستبعد من أي حوار أو إبداء رأي أو الدفاع عن النفس؟
وعندما يقول بأن لا غلبة في لبنان لفئة مهما كثر عددها، فهل تخلى عن طرحه منذ أسابيع بأن هناك فريق غالب ويحق له فرض الشروط؟
في خطاب السيد اليوم، كعادته، تناقض بين الطرح الموضوعي اللبناني المقبول، والطرح العنتري الفئوي المرفوض. فهو يتحدى الأساطيل الأميركية من جهة، وكأنه يستعد لحرب إن تجرأ أحد على مطالبته بتسليم السلاح، ومن جهة أخرى يتهجّم على من يحاولون المطالبة بخروج الرئيس لحود الذي مدد له بقوة الاحتلال وفرض فرضاً على اللبنانيين، وبغض النظر إن كانت الدعوة إلى إسقاطه، بالشكل، صحيحة أم لا، ولكن المبدأ يبقى صحيحاً، والمطلب حق، لأن الدستور اللبناني واضح بشأن التجديد، وهذه إحدى الضوابط الديمقراطية التي يتحلى بها هذا الدستور لمنع التسلط والحفاظ على التوازن والاحتكام للشعب وممثليه.
السيد نصر الله لا يقبل بأن تفرض فئة على اللبنانيين رأيها بقوة الشارع، وهو يفرض رأيه بقوة السلاح؛ على طائفته أولاً، ومن ثم على كل اللبنانيين. هو لا يحب أن يستعمل الشارع للظهور وكأن اللبنانيين يؤيدون مشروعاً سياسياً قد تكون أضراره محدودة في أشخاص ونفوذ، ولكنه قالها بكل وقاحة أكثر من مرة، بأنه هو من يقرر الحرب والسلم في الجنوب، ولو كلف ذلك خراب لبنان بأسره وعودة القصف والتخريب إلى بيوت كل اللبنانيين، وهو يتحالف مع دمشق ولو كلف ذلك قتل الأحرار وتخريب البلاد وتهريب السلاح ونشر الفوضى.
السيد نصر الله يعترف اليوم بأنه يلبس العباءة والعمامة، وهما رمز رجل الدين، ومن ثم فرجل الدين لا يجب أن ينزل إلى ساحات الخصام السياسي، وهو كلام حسن، ولكن هل ننسى أنه نزل، وبنفس هاتين العمامة والعباءة إلى ساحات العروض العسكرية، ساحات القتل والانتحار، ساحات التعبئة والحقد، ساحات حمل فيها بيديه أشلاء قتيل ولوح بها على شاشات التلفزة، وهو مهما كان جنسه أو دينه أو بلده أو انتماءه يبقى في النهاية إنساناً وquot;المراجلquot; لا تجوز على الميت في أي دين ومن أي دين؟ وهل ننسي يوم هدد ببقر بطون أبناء الجنوب في مخادعهم؟
السيد نصر الله يمكنه، بالقدرة الخطابية التي يمتلك وبالتفاف البعض حوله، أن يكون زعيماً لبنانياً، ويكفيه ذلك لو شاء أن يقف عند هذا الحد، ولكنه للأسف يربط نفسه، وخطابه، وعمامته، والاحترام الواجب لها بالخارج، ويحاول أن يجعل من جماعته ألعوبة بيد الغير لأغراض إقليمية ودولية. ولو ركّز السيد حسن في خطابه على مشاكل اللبنانيين، وتناسى السلاح والحرب والجهاد والارتباط بالقوى الإقليمية، وشدد على اللقمة الكريمة، والقدرة على الإنتاج، وتفعيل وزارات الخدمات، وتنظيف أجهزة الدولة وعقول الموظفين من الرشوة والبرطيل ومن الكسب الغير المشروع. لو ساهم في دفع فواتير الكهرباء والماء وتسديد الضرائب للدولة. لكانت قرى لبنان ومدنه - ولا نريد أن نشبهها بأوروبا وأميركا بل بالأردن وتونس - لا تعرف ما معنى انقطاع الكهرباء، وتتغنى بأنها كل سنة تضيف إلى الثروة المائية سدوداً وبركاً وتجمعات، وتزيد من الخضرة في أرض تركض نحو التصحّر وبلد يأكله الباطون وغبار الكسارات. لو أراد السيد نصر الله الخير للناس، كما يدعو لذلك الكتاب، لكان علّم بخطبه الناس كيف يجمعون على الخير، وفرض بهيبته العدل والتسامح، ولأصبحت مناطق لبنان ومدارسه تشع نظافة مع الإيمان، ولعادت إلى بحره وشجره وسمائه نقاوتها ورونقها.
انتهت الحرب في لبنان يا سيد نصر الله، وأجمع العالم على مساعدتنا للتخلص من التبعية والسلاح ومساوئهما، فهلا ترجّلت عن حصانك وأعدت السيف إلى غمده واعتذرت للبنانيين والعالم عن كل إساءة قام بها أي من جماعتك؟ وعن كل زلة لسان راح ضحيتها إنسان بريء؟ هلا اعترفت بأن لبنان لا يقوم إلا على التفاهم والتعاون والتسامح والأخذ برأي الآخر؟
المطلوب الوحيد منك وأنت في موقعك هذا، أن تقول كلمة حق، وتقدم بكل شجاعة وكبر على الإعلان بأن وقت السلاح قد انتهى، وأن على الدولة أن تتسلم كل الأسلحة، وتفرض سلطتها فوق كل شبر من الأرض، وإن هي احتاجت للمساعدة فكل اللبنانيين جاهزين لهذه المساعدة، وبيد واحدة وصوت واحد وقلب واحد، عندها لا تعد زعيماً يفرض نفسه بوهرة السلاح ويخاف أن يفقد المركز والوهرة والزعامة إن هو ترك هذا السلاح، بل تصبح زعيماً وطنياً بكل معنى الكلمة، وتدخل التاريخ من بابه الواسع، وتجعل لبنان والعالم ينسيان الشرور الماضية ويعتبرانها، مثل الحرب، صفحة يجب قلبها، وإلا فإن العالم الذي تتحداه اليوم سيضحك عليك غداً، وسترجع إلى وجع وألم الأيام السابقة، وسوف يتحمل لبنان بدون شك جزء من هذا الوجع.
ولكننا نقول: على من تقرأ مزاميرك يا داوود؟ فنصر الله غير قادر، ولو اقتنع، على التخلي عن سلاح ليس بسلاحه، وعن دور لم يختره، وعن مهمة ليس بقادر على تغييرها، والقدر الفارسي، هذه المرة، هو من يحدد التوجه والأهداف، وهو من يناور ويحاور، وهو من يتنازل أو يتحدى، وليس هؤلاء اللبنانيين إلا صوراً ومنفذين، لا حلفاء ولا مؤيدين، وتلك هي المشكلة الكبرى. فهل سيبقى لبنان ينتظر الفرج الآتي من طهران وتفاهمها مع العالم؟ أم أن أغلبية اللبنانيين ستستطيع مساعدة هؤلاء على التخلص من نير التزلم للخارج، وتنزع عن كاهلهم أسباب البؤس والشقاء وأدوات الحرب والتبعية؟
السيدة رايس ممثلة العالم الحر قالت بأن هذا العالم مستعد لمساعدة لبنان واللبنانيين على الخروج من أزمتهم، وهي في زيارتها الرمزية للمسيحيين (بشخص البطريرك) والدروز (جنبلاط) والسنة (الحريري) وأركان الديمقراطية في الدولة (السنيورة- كحكومة وبري - كمجلس) لم تستثن من اللبنانيين سوى من يعادي المجتمع الدولي، ويتزلم لأعداء لبنان، ويفرض موقفه على من يدعي تمثيلهم، إن كان ذلك في المركز أو الفئة، وهذا حق الولايات المتحدة ورئيسة الديبلوماسية فيها. فهل سأل أحد عن زيارة وزير خارجية إيران وفحواها الأسبوع الماضي؟ وعن زيارة الصدر وأين تندرج؟
الديمقراطية في لبنان تعيش أياماً دقيقة، وهي على محك الأحداث، فهل سيكون تفاعلها سبباً إضافياً لتعميقها في المجتمع اللبناني، وهل تبقى الأمور عند حدود الخطابات؟ أم أن العرس الذي شهدناه ونشهده سوف يودي به؛ تعنت من جهة، وتفرّد من جهة أخرى، وتزلّم أعمى لجماهير تقاد إلى الصدام لتفقد الحلم والمبادرة وتسقط في صراع الأوهام؟
أمنيتنا إلى اللبنانيين من كل الفئات والآراء، أن يتركوا فرصة لتجربة الديمقراطية، ولهذه الديمقراطية شروط أهمها أن صندوق الانتخاب هو الحكم، ولكن يجب انتفاء السلاح والتساوي بين المواطنين، وعندها يصعب الصدام ويسهل الرضوخ إلى النتائج والعمل للانتخابات القادمة على قاعدة النقد والمعارضة الصادقة والبناءة. فهل سنصل يوماً إلى مستوى راقي من ممارسة الديمقراطية؟ أم أن الديمقراطية ستبقى غطاءً جديداً لأوحال الماضي ومخلفات الصراعات الضيقة؟
الكولونيل شربل بركات
كندا - تورونتو
24 شباط 2006
التعليقات