أورثتنا الدكتاتورية حالة ثقافية عقيمة جداً، كان من المفترض أن تخلق الحرية الظاهرة الآن نوعاً آخر من المعرفة المتناغمة مع الهموم الثقافية الكونية ولكنها لم تحصل. وكأن هذا قَدَر العراق أن تكون متباعداً مع تحصيله الثقافي ومتجاوزا لها لا بكَمّ معرفي آخر ولكن بتجاهل الحاصل. ثقافة عراقية بلغة عربية كواقع حال، وهذه بدوره عاجزة بأستيعاب هموم الثقافة بشكلها الشمولي غير المُحَدَد.

أسست التوتاليتارية في العراق لثقافة حزبية كانت ترتئيها بديلة لكل تناقضات الواقع العراقي السياسي، المذهبي و العرقي. كانت quot;الحزبيةquot; لديها بديلة لكل ما يدور في خلد المثقف العراقي، وبها ألغت الحرية للمجاميع المختلفة والذوات غير المتجانسة، ألغتها لا بمحربتها فكرياً فقط وإنما بأدوات القمع التي أوجدتها الدكتاتورية أيضاً.

كان هنالك بالمقابل ثقافات أحزاب تتباين قوته الفكرية حسب الحقب التأريخية المختلفة. وكانت هذه الأحزاب تقف بمواجهة ما يقدمه الدكتاتورية من ثقافة من غير دراية بأنها هي أيضاً لا تمنح المثقف العراقي حقه الطبيعي وفرصته التأريخية لتدمير الفكر الأحادي مرة والى الأبد. فقدمت هي أيضاً أطباقاً جاهزة بديلة للموجود المُزري. الشيوعيون قد إستندوا الى ماديتهم الجدلية والتاريخية، والأسلامانيون الشيعة الى ما يقدمه الثقافة الشيعية الأيرانية.

الشارع الثقافي بعراق ما بعد الحرب، عراق ما بعد البعث قد أنتج هيجان مذهبي طغت علي كل مصادر التعبير بشكل رهيب. ثقافة سنية مستندة الى تراث عربي خارجي تعتمد الألغاءات العرقية والمذهبية، ترفض الوجود الواقعي الصاعد للشيعة بتياراتها المختلفة الفكرية والسياسية. النوع الآخر من الثقافة الطاغية الآن هي quot;الشيعيةquot; العراقية وهي أيضاً تستمد قوتها وجدلها في البقاء، على الخارج، لا تتميز عن التيارات الشيعية الأيرانية ولا تخفي ولائها المهين لها حتى على مستوى التدرجات الحكومية.

ثقافة المذهب هي ثقافة الشارع العراقي الآن، وتتميز بعدم قبولها للتعاطي الحضاري مع ثقافة الآخر المختلفة. ثقافة المذهب تنفي التوجه المغاير وتقمع الأبداع في التَكَون الحّر. ثقافة المذهب تستند الى كلام الله وشرائع نبيه، ويضع المخالفين في الصف المقابل لسلطة الله.

في المهجر العراقي بدأت حركة اصطفافات وإلغاءات، لا محاولة لمحاربة السطوة القمعية التي تقدمة ثقافة المذهب في الداخل وإنما لتحضير المجاميع الثقافية للعب دور مؤسساتيّ تابع ضمن منظومة حكومة ثقافة المذهب. والا فلم أساليب الألغاءات التي طالما إشتكى منه العراقيّ؟ من المضحك أن نرى أكثرية البعثيين السابقين أشد المتعاطفين لتكوين هكذا مجاميع لتسهل هيمنة ثقافة المذهب عليها، وطبعاً نرى الآخرين اللذين أخفقهم ولاءاتهم الحزبية السابقة، وهُم كمادة خامة تمنح هيئة quot;التعدديةquot; للتكتلات الجديدة في عصر ديمقراطية المذهبي quot;السيدquot; حفيد الرسول العربي.
وقد يتسائل سائل لماذا يفعلون ذلك؟
أقول: هذه إفرازات البحث عن هوية تعتمد الأستناد الى القوي سياسياً واقتصادياً، في السابق كان البعث بموقع المانح لتلك الهوية من جهة، والمعارضين من جهة أخرى، والآن فهي المعادلة نفسها وبدقة تراجيديتها تعيد ترتيب نفسها على هيئة مذاهب. وهذا الأنتساب الركيك للمثقف العراقي هو تلكم العقم في التواصل المعرفي مع حضارة القرن.
كل ذلك بالأضافة الى سبب آخر: quot;من أجل حفنة من الدولاراتquot;.

هَباس بوسكاني
[email protected]