يقتلك السوال، أنت المذبوح من مشارق الروح لمغاربها : هل كنا بحاجة لأستعادة كل هذا الألم المفجع مع محاكمة صدام حسين ؟ هل ستمثل هذه المحاكمة في المستقبل الوجة الأبرز للعراق الديمقراطي مثلما يدعي الامريكيون، أم أنها ستكون تعبير بليغ اخرعلى كسر أرادة العراقيين في طي صفحة الماضي وفتح صفحة جديدة ترسم أولى خطوات بناء دولتهم ؟هل ستكشف المحاكمة العتيدة بعض خفايا الماضي حقا، ام أنها لن تشكل سوى علامة استفهام اخرى تضاف الى علامات الاستفهام القاتلة الكبرى التي رافقت الغزو الكولنيالي وما احيط به من مؤمرات وخدع وأكاذيب ؟

ليس من شك في ان البروباغاندا الامريكيه نجحت أيما نجاح في اخراج مشاهد القبض على صدام لنقل الصدمة والترويع تليفزيونيا الى بقية الطواغيت في المنطقة، لكنها لم تكن فاعلة بالدرجة ذاتها في محاكمة ابرزهم، وبشكل يثير الريبة عما أرادته ادارة الاحتلال من هذه المحاكمة البائسة التي لا تصلح تأثيثا لمحاكمة صغار المجرمين.. ليس من شك ايضا أن الادارة الأمريكية ومنذ بداية اشتغالها بالملف العراقي، قد اقتاتت على كل التناقضات العراقية بل عمدت الى تفجيرها بصورة دراماتيكية احيانا.. لكنها تبدو كمن يقف عاجزا عن تجنيد شاهد اثبات واحد من بين رجال صدام، هي التي نجحت حتى مع رؤساء دول، مستندة على أمكانياتها الهائلة في عمليات الابتزاز والافساد وشراء الذمم.. كل شهود اثباتها من بين اعوانه تحولوا الى شهود نفي في المحكمة ما أن لمحت عيونهم صورة ملهمهم وقائدهم الضرورة. كل المؤسسات والمعاهد القضائية والقانونية في امريكا ( أيقونة العدل الاولى ) لم تؤهل لنا _ خلال سنتين من عهدquot; الحرية الامريكية quot;ndash; قاضيا عراقيا واحدا غير هزيل كرزكار ولايحتاج الى سماع الكلام عدة مرات ليفهم ما يقال مثل رؤوف او مدعي عام متماسك،حصيف ومتمكن من ادواتة غير جعفر الموسوي، فاي مهزلة مثلما يحلو لرغد ان تردد ؟

ثم اين هي اطنان الوثائق التي نهبت من حصون شرطة صدام السرية ؟ لقد زعم السيد احمد الجلبي في لقاء مع النيوزويك في نيسان عام 2003 ان بحوزة المؤتمر الوطني العراقي الذي يتزعمه 25 طنا من الوثائق، وصفها بانها( شيئ هائل وبعضها شديد الادانة حتى لدول مجاورة ) فهل غدت حقوق حصرية لدكاكين السياسة العراقية ؟!!!

قد يرى البعض ان المحاكمة بعد استلام القاضي رؤوف هي افضل حالا، انما لمن يمعن النظر سيرى انها تزداد هزالة كلما تناسلت حلقاتها، ليس من كلمات كافيات في لغة الضاد قادرة على ان تصف لنا هذا السفة الفاجر الذي تنقله لنا الفضائيات، كنا نتمناها فرصة يتبين من خلالها لذوي مليون عراقي ما حصل لاحبتهم على ايدي الذئاب الرمادية التي انحدرت من أوجارها في العوجة لتستبيح وجه العراق الجميل، لكنها بعد 30 جلسة لم تكن سوى استعراض باذخ الالوان والاضواء تمنح لصدام وبطانته ليثخنوا بالجراح اجداث ضحاياهم وهم في الرقدة الاخيرة ويقتلوا ذويهم للمرة الالف وبالطبع لشحذ ايتامه وبقية فضلاته بالهمم والعزائم !!!

لايبدو الطاغية مهتما بمصيره كثيرا، هو يقر ضمنيا وان على مضض أن زمنه قد ولى، لذا يجهد نفسه بترسيخ الصورة النمطية التي طالما كان مهووسا بتوجيهها للخارج، صورة البطل المنقذ المغوار، قالها صراحة ( انا سعيد للحديث امام الراي العام )... هذا السايكوباثي الخلاق يعرف اي دور خطر يلعبه الاعلام على الساحة العراقية سابقا وحاضرا.

هي فرصه مجانية تمنح لصدام ليستخدم ذات اللغة الخشبية القديمة، التي يخلط فيها بين النصر والهزيمة، بل هي طيعة في يديه لتحيل كل هزيمة مرة الى نصر مبين... ذات المفردات الفضفاضة، يتحفنا من خلالها بعضاته الكريهة، كأنها لم تكن كافية ابدا كل العقود الثلاثة الاخيرة التي ملأ فيها اسماعنا وأبصارنا لوعة ورصاص ووحشة قاتلة...

لم يتردد طاغية العصر الذليل في القول انه كان الحاكم بامره في العراق وان الخيوط كلها كانت تتجمع لتنتهي في يديه وانه كان مالك ذهب المعز وسيفه... رسالة ذات مغزى بالطبع، تخالف صورة حكام العراق الجدد، الذين اضاعوا البلاد والعباد بضعفهم وتخاذلهم وصراعاتهم الدموية التي لا تنتهي

غير ان السيد الرئيس لخليل الدليمي.. ينأى بنفسه عن الحديث عن حفلات القتل الجماعي التي شهدتها جمهوريته الفاضلة، هو يكره القتل اصلا، ينفر من مشهد الجثث ويتطير من رائحة الدم.. صحيح ان عدة مئات من الا لوف قتلوا في عهده الميمون و لكن المحاكمات كانت شفافة وعادلة، الا يكفي ان رئاسة محكمته الخاصة أنيطت بعواد البندر، والرجل متبحر في القانون،ضميره ميزان وقد افنى عمره بين المجلدات والدساتير.. يزعجه حديث الشيعة الخبثاء عن المقابر الجماعية التي ملأت ثرىالرافدين بدلا من بساتين النخيل وبيارات البرتقال.. يمقت البوح عن اطفال دفنوا مع لعبهم الصغيرة، عربات مع ركابها.. هل كان افضل لو دفن العراقيين فرادى وكل منهم يعاني في وحشة قبره ؟ لقد دفعه حنوه وورعه ndash; ظاهر العيان في المحكمة ndash; الى لم شمل العراقيين حتى تحت التراب، فواراهم الثرى في اجواء عائلية حميمة...

رقة صدام ووداعته ليست جديدة على العراقيين بالطبع، قد خبروها بعد ليالي معدودات لاستلامه السلطة، اذ اعدم العشرات من رفاقه في الحزب والدولة، عامدا كالعادة الى تصوير جلسة ادانتهم التي لا تقبل الطعن، وقد بدا حراسه يجرونهم واحدا تلو الاخر من قاعة الخلد في بغداد الى حيث يلقون حتفهم، فيما هو يقرأ اسمائهم وعيناه تغرورقان بالدموع...

ولايشذ بقية القتلة عن سلوك أرعنهم الاكبر، للان ورغم فضاعة ما ارتكبوه، لم ينكسراحدهم في المحكمة و هم يستميتون للظهور بمظهر رجال الدولة الكفوئين والتكنوقراط والمتوادين فيما بينهم...برزان الذي يريد ان يصورأقذر جهاز امني عرفه التاريخ بانه محض مؤسسة خدمية تشبة مثيلاتها لرعاية الايتام والارامل وأن رفاقه في المؤسسة ليسوا سوى ملائكة ارسلتهم العناية الالهية، هم محترفون افنوا شبابهم في الخدمة العامة بالضد مما يشاع من انهم سفاحون أبدعت أنوياتهم المريضة في تقتيل العراقيين بطرائق يانف بل يعجز حتى الشيطان عن ابتداعها... عجبا، فمن ذا الذي قتلنا، من حطم وطننا هذا التحطم العاصف، من هشم مجتمعنا كل هذا التهشيم المريع، حتى بات كل عراقي يحلم بان يهرب من العراق ويحط رحاله في اي مكان اخر، ولو كان الجحيم ذاته ؟!!!

أغلب العراقيون يتفقون مع خليل الدليمي بانها ليست محاكمة عادلة فعلا، اذ اية عدالة تستمرء السير بسلحفائية ناشزة وراء ثلة من الكذابين الذين يطعنون في صدقية المحكمة وشرعيتها ووثائقها، هم المشكوك حتى في اصلابهم.. فيما عجلة القتل والتدمير البعثي تدور رحاها يوميا في العراق وباسرع من الضوء ؟

وأية عدالة حين يصير العراقيون ثانية محض صور تلفزيونية تطرد عن المشاهدين ضجرا عابرا، وترغم المكلومين منهم على مشاهدة حثالات العرب كنجيب النعيمي وعصام غزاوي و ليلى خليل.. ممن يذهلهم مليارات رغد وفلاشات المصورين...

الا تستحق كل اختراعات صدام حسين المذهلة كقطع الاذن واللسان ووشم الجباة واحواض الاسيد والمثارم البشرية محاكمة عادلة ؟ الا تستحق كل فصول اليتم والهضم والسبي والجوع التي استمرت اكثر من 35 عاما، محاكمة اكثر عدلا ؟ الا يستحق الراتب التقاعدي ذي الدولار والنصف لشيبة متقاعدي اغنى بلد في الدنيا محاكمة اقسى ؟ الا تستحق كل سنوات اصطيافنا اللاهبة في الخنادق، وقودا لحروب ملتبسة خاسرة، محاكمة اكثر قسوة؟

الم يكن اكثر رحمة بهذا العراق الذي يقتله الصداميون الف قتلة يوميا توجيه اطلاقتين كريمتين لصدغ صدام حسين ؟ بل الم يكن اكثر رحمة بالعدالة ذاتها الاقتصاص لهذا العراقي النبيل المدجج بالتاريخ الذي وصلت قيمة المواطن فيه الى ان يخطف الابرياء من الشارع ليعدموا بدلا من اللصوص والمرتشين... أم ان المحاكمة مصممة ndash; كالتصميم الفضائحي لفوضى العراق ndash; فقط لتقتلنا سهوا ؟!!!

حيدر الواسطي

[email protected]