تعتبر المساواة حالة من حالات الحرية. ذلك أن الناس متساوون في حرياتهم، أي في الحقوق الإنسانية الأساسية، وإن كانوا غير متساوين في نوع المحدوديات التي تحيط كل فرد منهم. في هذا الإطار يمكن أن نفهم العبارة الشهيرة الآتية: ((كيف تستعبدون الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟)). هناك، إذاً، نطاق تصحّ فيه المساواة، لكنها لا تصح خارجه. لا يجوز أن يساوي بين رأي خبير في حقل معين - الطب مثلاً- ورأي شخص لا خبرة له ولا علم ولا إطلاع في هذا الحقل، في تشخيص طبي يقتضي معرفة وخبرة. ولا يجوز أن تساوي مؤسسة بين مرشحين لوظيفة إذا كان أحدهما يملك من المؤهلات والإمكانات المطلوبة ما لا يملكه الآخر.

من ناحية ثانية، لا يجوز التمييز في الراتب بين موظفين يحتلان الرتبة نفسها ويتساويان في المؤهلات والخبرة. كما لا يجوز حرمان بعض الناس حقوقهم المدنية والاجتماعية على أساس ديني أو سياسي، إذا كان هذا الانتماء غير ضار بالمصلحة العامة.

في العائلة، التي هي ركيزة المجتمع الأساسية، يجب أن تكون المساواة قائمة أولاً بين الرجل والمرأة. عادة، الرجل هو المعيل والمرأة هي المربية. لكن توزيع العمل التقليدي هذا لا يقود بالضرورة إلى نقض مبدأ المساواة بين الزوجين، أي إلى حالة يكون فيها الرجل متسلطاً والمرأة خاضعة. هناك أفراد يكون التسلط طبعاً أو عادة في شخصياتهم. ولا شك في أن دور المعيل يفسح مجالاً للرجل لكي يكون هو صاحب السلطان لكن، رغم هذا، قد تكون المرأة هي المتسلطة إذا كان التسلط جزءاً من تركيب شخصيتها. إن روح التسلط هي المبدأ الأساسي الذي يفسر عدم المساواة بين الزوجين، مهما كان العمل الذي يقوم به كل منهما. وينعكس هذا التسلط تربية الأولاد وتكون له نتائج فإذا كان الزوج المتسلط يفرض جواً من الكبت والحرمان على الأولاد، فإن هذا قد يدفعهم إلى فعل ما يريدونه دون علمه، وربما بتشجيع أو من الزوجة (الأم). وهذا يخلق جواً من النفاق في البيت وفي نفوس الأولاد.

ولكي تكون الحياة الزوجية سعياً مشتركاً لتحقيق الذات، يجب ألاّ تنشأ علاقة يكون فيها أحد الزوجين متسلطاً، لا يُسأل عن أفعاله وأهدافه، والآخر راضخاً، وعليه أن يستمد المسموحات والمحرَّمات من صاحب quot; السلطان quot; الإخضاع هو نقيض الحرية والمساواة. والزواج الناجح يقوم على اتفاق، أو على إمكان اتفاق، حول توزيع العمل، وعلى احترام كل من الزوجين للآخر، والمحبة التي لا مجال معها للإخضاع.

أما المساواة بين الأولاد، فتقضي بعدم تمييز الواحد عن الآخر في المحبة والعطف والعناية. كما تقضي بأن تكون حرية التعبير عن الذات، ضمن حدود واحدة لكل الجنسين. وهذه الحدود تفرضها مقتضيات النمو العقلي والخلقي والتكيف الاجتماعي. وهناك كثير من العائلات، وربما الأكثرية الساحقة منها في العالم العربي، حتى يومنا هذا، تميز تمييزاً سافراً بين البنات والبنين، وذلك بالسماح للبنين بأن يفعلوا ما يريدون، دون أن تمتد هذه quot; الحرية quot; إلى عالم البنات. وقد كان تعليم البنات، حتى وقت ليس ببعيد، أثراً غير وارد في الحسبان أو غير مرغوب فيه، في بعض البيئات العربية، وهو لا يزال هكذا في أجزاء من العالم العربي اليوم. في المدرسة، كما في البيت، يجب أن يتعلم الأولاد فكرة المساواة، نظرياً وعملياً وكما يجب أن تكون الحال في كل علاقة بين الناس، هناك نطاق للمساواة في العلاقات المدرسية. فلا يجوز أن يُعهد إلى معلم الرياضيات أو العلوم تدريس الأدب. ولا يجوز التمييز في الراتب بين معلمَيْن يحتلان الرتبة نفسها. أيضاًفلا يجوز أن يتدخل التلاميذ في شؤون الإدارة، وإن كان يجوز لهم الاحتجاج على ظلم أو إجحاف يلحقهم من لدن الإدارة أو المعلمين والمساواة بين التلاميذ أنفسهم لها نطاقها أيضاً.

وهي تتجلى في إتاحة فرص متكافئة للجميع لكي يتعلّموا، وفي عدم تمييز تلميذ على آخر لأن صاحب الحظوة نسيب أو قريب أو صديق للمعلم، أو لأنه ابن عائلة مرموقة أو غنية، أو لأن أهله ينتمون إلى مذهب المعلم الديني أو السياسي. كما تكون المساواة في اعتماد مبدأ واحد لتقييم نشاط التلاميذ، لكنها لا تكون في إصدار حكم واحد على الجميع. فهناك تفاوت في الجهد العملي والإنتاج العلمي لدى التلاميذ، وهذا يجعلهم على درجات متباينة.

وكما تأخذ فكرة الحرية مكانها القانوني في الدولة، فالشيء نفسه يحصل بالنسبة إلى فكرة المساواة. فللدولة سلطان ليس للبيت أو للمدرسة مثله في فرض حالة مساواة بين المواطنين. هذه المساواة تسن الدولة بنودها في قوانين، وتطبقها إداراتها المختلفة. وهذا ما نعنيه حين نقول إن المواطنين متساوون، أو يجب أن يكونوا متساوين، أمام القانون.

وعلى الدولة أن تسن القوانين لخدمة الإنسان. فالإنسان هو الغاية والقانون وسيلة. بهذه الروح، تكون القوانين قابلة للتعديل كلما برز فيها ما يعرقل حقوق المواطن الأساسية وكرامته كإنسان. إن مساواة الناس أمام القانون تعني أن الذكر والأنثى، المتعلم والأمي، المؤمن والملحد، ساكن الصحراء وساكن المدينة.. الخ، كلهم سواء في نظر القانون، أي في الحريات والحقوق والواجبات المدنية.

هذه المساواة القانونية يمكن، في أحد جوانبها، أن تسمى مساواة quot;بالقوة quot;. فإذا كان المواطنون متساوين أمام القانون في الحقوق والواجبات، فهذا لا يعني إن للإنسان الأميّ حقاً في أن يعين أستاذ جامعة أو مدير مؤسسة. إلاّ أنه على الدولة أن تتيح فرصاً متكافئة للجميع لكي يتعلموا ويكتسبوا الشروط الذاتية التي تخولهم الوصول إلى ما يريدون من مركز أو عمل. ويحصل الظلم من لَدن الدولة عندما تميز بين أفراد متساوين في الكفاءات، فتفسح مجال العمل أمام بعضهم وتحجبه أمام آخرين.

أيضاً، إذا كانت المساواة القانونية تعني المعاملة بالمثل، فهي لا تعني معاملة المجرم كما يعامل الأبرياء، ذلك لأن الأول خرق بجرمه مبدأ المماثلة. لكنها كذلك لا تعني معاقبة بعض المجرمين ومسامحة البعض الآخر لأنه مدعوم من صاحب quot;سلطانquot;، أو لأنه رشا المحكمة أو الحكومة !

إن عبارة quot; فرص متكافئة quot; تعبر عن جوهر المساواة كما يجب أن تمارسها الدولة. ففي تأمينها ظروفاً موضوعية صالحة وشاملة وواحدة، تتناول شؤون العمل والسَّكن والأمن والتربية والثقافة والاقتصاد والسياسة، دون تمييز منطقة من البلاد عن منطقة أخرى وفئة من الناس عن فئة أخرى، تكون الدولة قد قامت بواجبها من ناحية تحقيق المساواة في المجتمع، مؤمًّنَة الأرض الموضوعية التي يحتاج إليها الناس من أجل تحقيق ذواتهم.

عقيل يوسف عيدان
[email protected]