ليس خافيا على احد الازمة التي يمر بها العراق، فالوضع الامني المتردي لا يسمح لاي مجال في التقدم في اي قطاع من القطاعات الاقتصادية والاجتماعية او حتى في شؤون ادارة الامور الصغيرة، فالتفلت وقلة الانتاجية والتجاوز على حقوق الغير وعدم القدرة على تنفيذ القانون حتى في المسائل المدنية تعزي الى استفحال ظاهرة الارهاب، كما ان هذه الظاهرة افرزت على مستوى الشعب العراقي ظاهرة خطيرة الا وهي انعدام الثقة بالاجهزة المنفذة للامن وخصوصا الشرطة والحرس الوطني، وبالتالي شيوع ظاهرة الاتكال على الذات او على العشيرة التي ابتدأت ايام النظام الصدامي وترسخت حاليا في امور هي من صميم واجبات الدولة ومنها العدالة وتنفيذ القانون.
ان الواقع الحالي والذي لا يرى فيه بصيص امل او حسب العبارة التي باتت شائعة اليوم (ضوء في نهاية النفق) يجعل غالبية العراقيين تتعلق بوهم اسمه الانقلاب العسكري، تمنيا في استباب الامن والامان وتخلصا من ظاهرة الارهاب والقتل المجاني التي شاعت في العراق في الوسط والجنوب، ففي الوسط ومنها الموصل ايضا تشيع ظاهرة عصابات القتل والاجرام باسم تنظيمات دينية او تحت يافطات دينية، وجرائمها تطال الجميع المسيحيين والكرد والشيعة ومن يعمل في اعمال معينة مثل الحلاقة كمثال لعبثية هذه العصابات واعمالها، اما في المحافظات الجنوبية فالاعمال الاجرامية تتخذ ابعاد اكبر بتحولها الى تنظيمات سياسية علنية تقوم بفرض قيمها على الجميع من خلال تهييج الشارع اوبعضة تارة بحجة معادا اميركا واخرى بحجة معاداة ايران او الاثنين معا، والضحية في كل الاحوال هو العراق والعراقيين والدولة واجهزتها المشلولة والغير القادرة على عمل اي شئ.
نادرة هي الانقلابات العسكرية التي نجحت بعلاج لمشاكل اي بلد، بل ان التجارب تعلمنا ان اغلب هذه الانقلابات وان كانت تتبني شعارات الاصلاح والتعديل والعدالة الا انها انتهت اسواء مما سبقها في كل الممارسات وخير مثال على ذلك هو العراق الذي انتهى بعد سلسلة الانقلابات العسكرية اسواء مما كان في الزمن الملكي.
اذا العراقيين في تمنهيم الانقلاب العسكري يهربون من السئ الى الاسواء ولكن هل يعاب من يده في النار ان طلب اي علاج، والعراقيين حتى في اقليم كردستان الامن يعانون مما يجري في مناطق الوسط والجنوب، نحن يقينا نرى ان الانقلاب العسكري سيكون الاسواء في نتائجه، لان الواقع الحالي ليس نتيجة لسوء الادارة بقدر ما هو عدم الاتفاق على مفهوم موحد للوطن والمدعوم من الجوار الاقليمي، فاغلب الاطراف لها رؤى ايديولوجية ضيقة للوطن والمواطنية وتريد فرضها على العراقيين اجمعين بالقوة والتي تجد لدى الجوار الاقليم دعما لها وليس بالضرورة لان الجوار يؤيد هذه الرؤى بل قد يدعم توجها لانه يراه الاقوى من اجل تحقيق مصالح اخرى كان ينتقم من الامريكيين او يعيق مخططاتهم السياسية و خصوصا اشاعة المفاهيم الديمقراطية في الحياة السياسية وقيم الحرية في المجتمع الامر الذي يضر بمصالح الكثيرين في الداخل العراقي وفي الجوار الاقليمي.
اذا صار شبه يقين ان الوضع الشاذ الذي يعيشه العراق ليس في طريقه للحل حاليا وان الانقلاب العسكري المتمنى من الكثيرين ليس بوارد القدرة على حل اي مشكلة، وخصوصا ان الجيش بوضعه الحالي واجهزة الامن المتشكلة على اسس محاصصة حزبية وانعدام الروح الوطنية كلها تجعل من المتعذر نجاح الانقلاب العسكري في تحقيق اي هدف من المرجو تحقيقها، فالانقلاب العسكري قد يكون باب لولوج الحرب الاهلية المدعوم بالاليات العسكرية من الدبابات والمدفعية وقيام جبهات المواجهة. وعلى ضوء عدم وجود عقلانية سياسية والتخندق الطائفي والديني ومحاولة جعل الدولة لكي تقوم على اسس طائفية معينة سنية او شيعية، وارتهان القرار السياسي لدى البعض الى الجوار الاقليمي يجعل من ايجاد حل للوضع امر شبه مستحيل ما لم تنهار قوى الاطراف المتصارعة وتتحطم امالهم في نجاح خططهم في اقامة دول على اسس ايديولوجية معينة لكي يدرك الجميع ان الحل الوحيد هو في اقامة دولة القانون الانساني، وعندما نقول دولة يعني بالضرورة الغاء اي صفة ايدولوجية لها وخصوصا الصفة الاسلامية لانه باعتقادنا لم ولا يوجد شئ اسمه الدولة الاسلامية وان وجدت في نماذج معينة فهي لا تحقق صفة الدولة والتي من اولى شروطها النظر الى مواطنيها بنظرة متساوية وترمي الى تحقيق العدالة بين افرادها.
وهنا نود التأكيد على العقلنة السياسية الغائبة والمغيبة بفعل ارتفاع نغمة الشعارات الدينية والتي لا تمانع في تدمير الكل لتحقيق جزء صغير من الحلم الايدولوجي، كما هو حاصل في لبنان فحزب الله دمر لبنان ويعتبر الامر انتصارا لمجرد تمكنه ةمن اقتناص بعض الاسرائيلين او اليهود في ادبياته.
اننا نرى انه مادامت القوى السياسية العراقية خانعة وخاضعة او متخاذلة امام الخطاب الديني المؤدلج والرامي لخطف الدولة بحجة تحقيق العدالة السماوية والتي لا نرى تحقيقها في التجارب المماثلة، فان طول معاناة العراقيين مستمرة للاستمرار والوضع الى المزيد من التدهور، والامر لا يحل بانقلاب عسكري بل في دخول الجميع الى خيمة الوطن الواحد اي الاتفاق على مفهوم موحد للوطن، ينبع من العراقية كمواطنة وكامة تتشكل من قوميات ومذاهب متساوية في الاحترام والمكانة، فالعراقية هي ملك للجميع، قد نختلف على العروبة، وعلى الاسلام وعلى التشيع وقد نختلف على الانتماء الحزبي والمناطقي ولكننا كلنا نمتلك جزء من العراقية ونفتخر بهذه العراقية، ان عراقيتنا المشتركة هي التي ستبني وطنا متصالحا مع الذات وهي التي ستكون الخيمة التي سيمكن للكل دخولها براحة ودون تشنج، كما كانت العروبة التي شعر الكرد والاشوريون والتركمان انها مفروضة عليهم فرضا.
ان عراقيتنا ستحدد علاقتنا بالجوار على اساس مصلحتنا العراقية، وليس على اساس انتماءات قومية او دينية او مذهبية، ان علاقتنا لن تكون مع الجوار الا من خلال لغة المصالح المشتركة ونحن بعراقيتنا لن نحاول فرض اي قيم او اي اتحاد او اي قيادة على الاخرين، فبعراقيتنا سنكتفي بحدودنا المعروفة دوليا ولن نتطلع الى الخارج لتحقيق وحدات قومية او دينية، ولن نتجه الى الجنوب لتحرير فلسطين، فتأيد حق الفلسطينين ان كان لديهم حق لم يتمتعوا به هم الذين سيحددوه وان رأيناه صائبا وكل ماهو صائبا من منظور عراقيتنا سنؤيده والعكس بالعكس.
اذا التعلل بالانقلابات العسكرية ليس حلا، بل هو انتكاسة كبرى في مسيرة العراق، الحل هو ان نعود الى انفسنا كعراقيين وان نبني دولة عصرية على اسس وقيم العصر، لاننا من هذا العصر ومن هذا العالم.


تيري بطرس