من بين وسائل الإعلام المعروفة هنا، في لندن، وفي غيرها من العواصم والمدن الغربية، إذاعات الدردشة ( Talk Radios ) وهي إذاعات ليس لديها جدول برامج يومي أو دورة برامج فصلية، كذلك هي تفتقر إلى البرامج الكلاسيكية التي تبدأ وتنتهي في وقت محدد، ثم تليها مواد منوعة وفواصل، ثم برامج أخرى.. وهكذا. وإنما يختار مقدم البرامج في مثل هذه الإذاعات محورا ً للحديث ويفتح خطوط الهاتف ليتصل به المستمعون ويتحدثوا بما يعن لهم حول هذا المحور من آراء وتعليقات ووجهات نظر، بصرف النظر عن مدى ثرائها أو غناها أو سطحيتها وبساطتها.
هذه الإذاعات ممتعة حقا ً. أقولها بعقلية المستمع العادي والإعلامي أيضا ً. فأنت تتحرر من قيود اللغة الصارمة ( الفصحى عندنا أو Queen English هنا ) على حلاوة وعذوبة هذه اللغة الصارمة، التي لايتذوقها ويطير في أجوائها الرحبة بأجنحة من رقة وشاعرية إلا المثقفون. وأنت تدلف إلى عالم خلفي لم تطأه قدماك، من خلال متابعة هذه الدردشة بلغتها المحكية المغرقة في يسرها وسلاستها حد الانصهار مع هموم الناس شخصية كانت أو عمومية. وبإيجاز : تجعلك إذاعات الدردشة جزء ً من كل، متوحدا ً فيه وقريبا ً إلى قلوبه المليونية، النابضة بالحياة والتواقة إلى غد أجمل، وأعدل، وأفضل. وبصراحة بالغة الصراخ : واحد مثلي نخبوي عموما ً، أو لنقل ميال إلى الانطواء والانعزال لكثرة قراءاته ومشاغله وأفكاره ومشاريعه و quot; خيالاته quot; المجنحة أيضا، التي لاتكفيها ساعات اليقظة العشرون في اليوم، لهو بمسيس الحاجة إلى إذاعات الدردشة، مايعوضه عن الكينونة الصاخبة بين الناس، في نشاطات أبرز معالمها التظاهر والتبجح والقضم والقرض.. على ذلك فدردشات الراديو تتنقل معي في جنبات البيت، مادمت فيه، أغسل الصحون مع زوجتي في المطبخ أو أساعدها في نشر الغسيل، أو أستحم أو... وتخرج معي إلى الشارع حين أتمشى، أو أقود السيارة إلى أي مقصد. وليت من لم يجرب هذه المتعة ؛ الإنصات والخلوة إلى إذاعة دردشة عبر راديو صغير مستقر في الجيب، أو عبر راديو السيارة، جربها، فأدرك حجم المنفعة التي فيها !
أطلت وأطنبت وأضعت وقت قارئتي وقارئي في حديث شخصي سمج، لكنهما لو عضا على النواجذ وتصبرا، أدركا أن ربـّاط الحكي يستأهل مثل هذه الثرثرة.
الدردشة الإذاعية انتقلت، حديثا ً، إلى التلفزيون. وهناك الآن قنوات أرضية وفضائية دأبت على نقل استوديو البث الإذاعي إلى الشاشة، بحيث يحرص المذيعون أو مقدمو البرامج على الظهور بالهيئة التي هم عليها في الاستوديو الإذاعي، فلا مكياج صارخا ً، ولا خلفيات مبالغا ً فيها، ولا ديكورات غالية الثمن. وبالطبع، انتقلت هذه الموجة إلى بلادنا الشرقية، وشاعت بيننا برامج الدردشة في الراديو والتلفزيون، لكن من قال لكم إن البث مباشر عندنا في مثل هذه الحالات فلاتصدقوه. وإلا.. هل يعقل أن يكون برنامج quot; منبر الجزيرة quot; مثلا ً في القناة إياها على هذه الشاكلة الانتقائية الواضحة، بما يتماشى وسياسة من يضع لها السياسة، ونحن على الهواء مباشرة ً ؟ ولست أدري، لم َ تكتب هذه القناة على أشرطة محاكمات صدام عبارة quot; تسجيل quot; ولاتكتب ذات العبارة على quot; منبرها quot; رغم تأخر بثه أيضا دقائق عن موعد تسجيله، لزوم التنقيح والانتقاء والفلترة ! ماعلينا.
القناة التلفزيونية العربية التي يبدو لي أنها تبث برامج الدردشة على الهواء مباشرة، دون قيود أو حدود، هي قناة quot; جرس quot; التي بدأت بثها التجريبي من بيروت، والتي ترئس تحريرها وترأس مجلس إدارتها الإعلامية اللبنانية المعروفة نضال أحمدية.
ورغم كون هذه القناة فنية، في الدرجة الأولى، لكن متابعة سريعة لخارطة الموضوعات التي توزعت عليها محاور الدردشة، التي تديرها إعلاميات واعيات، تشير إلى وجود منهجية واضحة لدى فريق العمل، الذي يصدر مجلة quot; جرس quot; أيضا، تستهدف تحريك الركود والسكون المستوليين على أجوائنا الاجتماعية، وخاصة فيما له صلة بحقوق المرأة والعلاقات بين أفراد الأسر العربية، وغير ذلك من أمور الاجتماع. لكن مما يؤسف له، أن ثمة الكثير من أبناء مجتمعاتنا العربية، وخاصة الرجال بمختلف أعمارهم وليس الشبان فحسب، ممن لم يرقوا إلى مستوى الحس الاجتماعي النظيف، الذي يؤهلهم للتعاطي مع الفتاة الصحافية أو الإعلامية التي تقدم لهم خدمة تنويرية وتوعوية، في إطار عفوي و أنيق و حي، على شاشة مناضلة، وإلى هزيع أخير من الليل، كثيرا مايشهد حيرة حائر وأرق ساهر ومعاناة وحيد، فراحوا يغلقون منافذ شعورهم و إحساسهم وإدراكهم أمام مفردات الوعي والتحضر والثقافة النظيفة والحوار السليم، فاتحين منافذ الشهوات الشيطانية المريضة على لغة الخمارات الرخيصة والبارات العفنة، ناظرين إلى المرأة المكافحة والواعية ذات نظرتهم إلى أية امرأة على طول وعرض الزمان والمكان. وعند هؤلاء المرضى، لا تبدو المرأة، على العموم، إلا مشروع رذيلة.
و طوال إنصاتي لإذاعات الدردشة في المملكة المتحدة، على مدى عشر سنوات، لم أسمع كلمة quot; نابية quot; من مستمع أسوأ من quot; Rubbish quot; أي قمامة ( أجلكم الله ) لكنني سمعت وشاهدت وقرأت، في ليلة واحدة، على شاشة واعدة بالكثير من التنوير والتوعية والتثقيف، عبارات quot; مفعمة quot; بأحط الأوصاف وأسوأ المفردات، موجهة من مشاهدين، إلى من يفترض أنهن أخواتهم وبناتهم، وهن حريصات فعلا ً على لعب هذا الدور النبيل، ثم يأتي من يأتي ليقول إن تلك دار إسلام وهذه دار حرب، أو يفتي من يفتي، من شيوخ الجهل بتكفير المسلم، غير ملتفت إلى العفونة التي تسيح تحت فراشه... !
عيون الكلام : رأى بعضهم الشـِبلي َّ في المنام فسأله : مافعل الله بك ؟ فقال : ناقشني حتى يئست، فلمـّا رأى يأسي تغمـّدني برحمته.
علاء الزيدي
[email protected]




التعليقات