الفكر السياسي العربي لدرجة يصيب المرء بالغثيان. يهب الإسلامجية والقومجية واليسارجية للاعتذار عن حزب الله لأنه لم يعلم الحكومة اللبنانية بخطته للإعتداء على إسرائيل وقتل عدد من جنودها واختطاف إثنين بعد تجاوز الخط الأزرق وهو الحدود الدولية باعتبار الأمم المتحدة كما باعتبار السلطات اللبنانية. يعتذرون بأعذار غبية وقبيحة تقول بأن الحزب لم يكن يتوقع أن يصل الرد الإسرائيلي إلى ما وصل إليه من تدمير للبنان وتقتيل لشعبه. قليلة هي الأعذار التي يتجاوز قبحها قبح الذنب المقترف لكن هذا العذر هو الأغبى والأقبح. ولعل قبح إعتذار الآخرين تجاوز قبح إعتذار قادة حزب الله، بل هو فعلاً تجاوزها حيث تقدم حسن نصرالله ضمنياً بالاعتذار من الشعب اللبناني، عذراً مسبوغاً بالندم على ما فعل وما جلبه فعلياً من خراب ودمار للبنان ومن خسائر سيكابدها الشعب اللبناني وبمختلف مكوناته إلى أمد طويل.
لقد برهن هؤلاء وأولئك على أنهم الأغبى أيضاً وليس الخطّائين فقط. فما كان لأي سياسي لديه قدر من الحصافة أن يتوقع أن ترد إسرائيل على أي إعتداء لحزب الله مهما كان صغيراً ومحدوداً بأقل من هذا.. لماذا ؟؟
منذ انسحاب إسرائيل مدحورة من جنوب لبنان في أيار 2000 أخذ حزب الله يهدد إسرائيل بقوته الصاروخية الضاربة والتي يصل مداها إلى أعماق إسرائيل وكبرى مدنه. بمناسبة وبغير مناسبة كان حسن نصرالله يتوعد إسرائيل بدمار شامل تطلقه ما يزيد على ثلاثة عشر ألف صاروخاً يمتلكها الحزب. وكان هدف نصرالله الواضح من هذه التهديدات المتكررة يومياً هو نزع مخالب إسرائيل عن طريق معادلة الردع فلا تعود عدوانية كما شأنها دائماً، ولعله أرادها أيضاً أن تكف عن التفكير والتخطيط لضرب المفاعلات النووية الإيرانية مثلما فعلت في العراق.
مثل هذه المقاربة للوجود الصهيوني في فلسطين ولعدوانية إسرائيل بالتالي إنما هي مقاربة غبية ولا تنطوي على أي قدر من الحصافة أو التجربة السياسية إذ أنها تفتقر إلى أي رؤية علمية وتاريخية لقيام إسرائيل ولطبيعة بنيتها كقاعدة متقدمة للإمبريالية أو ك quot; كلب حراسة للإمبريالية quot; بتعريف ستالين عام 1952، حتى وإن حافظ المتأسلمون على رفض الإعتراف بأي وجود يهودي في فلسطين الموقوفة لخدمة الإسلام. لم يفطن حزب الله إلى أنه إذا ما خلعت أنياب الأفعى فلن تعود الأفعى أفعى، وإذا ما نزعت مخالب الهر فستعضه الفئران. لم يتتبع حزب الله تاريخ إسرائيل فيراها غير أنها مجرد رؤيا توراتية لن تلبث طويلاً حتى تضمحل وتتلاشى. إسرائيل تدرك تمام الإدراك أنها نمت طرفاً عضوياً من أطراف الإمبريالية وتوقن أنها إذا ما فقدت قواها الحربية والتدميرية فلن يعود لها وجود في المشرق العربي ـ كما يدرك الأمريكان ذلك وهم الحرس القديم للإمبريالية. لذلك أخشى ما تخشاه إسرائيل هو السلام فتشترط دائماً شروطاً جائرة لتقبل مبدأياً بالمفاوضات للبحث عن السلام.
وهكذا فإننا نجد أن الإستراتيجية العامة لإسرائيل تقتضي دائماً عدم تواجد أية قوى معادية في المنطقة قادرة على مواجهتها وردعها. في تاريخ إسرائيل قام مشروعان تحرريان يستهدفان تقليم أظافرها وهما مشروع عبد الناصر أولاً ثم مشروع منظمة التحرير الفلسطينية من بعد. في مواجهة المشروعين قامرت إسرائيل بمصيرها وعبثت بموازين القوى الدولية بتشجيع من الأمريكان بالطبع وخلصت إلى تحطيم هذين المشروعين بصورة نهائية. إذاً من يظن بعد هذا أن تسكت إسرائيل على مشروع حزب الله الإيراني أصلاً والمعزول عن القاعدة الشعبية العربية العريضة ؟ كيف لها أن تسكت عن إمتلاك المتأدلجين بروح الله لآلاف الصواريخ المقدر لها أن تنزع روحها العدوانية التي هي الدعامة الوحيدة لوجودها ؟ كانت إسرائيل تنتظر المناسبة للتخلص من تهديدات حزب الله وصواريخ حزب الله. المناسبة المنتظرة الفضلى وفرها لها حزب الله الذي تجاوز جنوده الخط الأزرق، وليس خطوط مزارع شبعا، ليسحقوا دورية إسرائيلية بكامل عدتها وعديدها ويأسروا إثنين من جنودها.
إمتلكت إسرائيل بذلك الشرعية الدولية للهجوم على لبنان، كل لبنان، فالقانون الدولي لا يأخذ بحجة الحكومة اللبنانية في أنها لم تكن تعلم بعملية حزب الله ولا تتبنى تلك العملية الأمر الذي يعني نزع أي شرعية عن العملية بل وإدانتها. وهو ما يعني أيضاً أن السيادة في لبنان لم تنتقل من قوات الإحتلال السوري إلى الدولة اللبنانية بل إلى قوات أخرى تعود لفئة لبنانية الجنسية هي حزب الله. تمكنت إسرائيل من شن الحرب على كل لبنان بحجة أن حزب الله متواجد في مختلف خلايا المجتمع اللبناني وأنه يتجهز بمختلف ذخائر الحرب عن طريق هذه الخلايا. قصفوا الجسور والطرق لتعطيل الإمدادات كما قصفوا كل الشاحنات والمركبات الكبيرة لذات الغرض. وقصفوا بشدة الضاحية الجنوبية وهي معقل حزب الله. خططت إسرائيل لإنهاء حزب الله مرة واحدة وإلى الأبد وليس صحيحاً أن إسرائيل قامت بتدمير لبنان لأنه الوجود الموازي لوجودها كما يزعم البعض. فشلت إسرائيل في الإجهاز على حزب الله ليس لأن مقاتلية أظهروا بأساً شديداً في مقاتلة أعداء الله ـ والحسن والحسين كما أشار نصرالله ـ بل لأن الجيوش النظامية غير قادرة أبداً على الإجهاز على العصابات خاصة وأن خلايا حزب الله تتوزع على مساحة الشيعة في لبنان.
لم توقف إسرائيل الحرب موفرة ما تبقى من الحزب، وهو قليل على ما يعتقد، بل أوقفتها مكتفية بالتطبيق الكامل للقرار 1701 الذي لا ينتهي إلا بإنهاء حزب الله وكل المزاعم التي تقول بنصر نصرالله.
عبد الغني مصطفى
التعليقات