يقال ان السفير التركي دخل على عبد الناصر لينقل احتجاج بلاده على بث الاذاعة الكردية من القاهرة، فرد عليه ناصر باستغراب: quot;على حد علمي لايوجد اكراد في تركياquot; ملمحاً الى الازدواجية والتناقض في المواقف التركية، فمن جهة تحارب تركيا الكرد دون هوادة، ومن جهة اخرى تنكر الوجود الكردي على اراضيها، تلميح عبد الناصر دفع السفير التركي للخروج غاضباً خائباً وبخفي حنين من لقاء الرئيس المصري الراحل، لتستمر الاذاعة الكردية في البث من القاهرة لعشرة اعوام متواصلة ولمدة ساعة يومياً. ويقال، ان عبد الناصر طالما نصح الرئيس العراقي السابق عبد السلام عارف ولاحقاً اخيه الرئيس عبد الرحمن عارف، بالتعامل مع الكرد بود وحل قضيتهم بشكل سلمي وعادل، وبالفعل اعلن جمال عبد الناصر في اكثر من مناسبة، عن رفضه واستنكاره لقصف الجيش العراقي لقرى كردستان العراق في الستينات من القرن المنصرم، كما استقبل الزعيم الكردي ملا مصطفى البارزاني في القاهرة عام 1958 معرباً عن تعاطفه وتضامنه مع القضية الكردية وحقوق الكرد العادلة.
قيل الكثير في المواقف الايجابية والمسؤولة لعبد الناصر تجاه الكرد، فمنهم من اعتبرها مجرد تصفية حسابات اقليمية مع حلف السنتو، اراد عبد الناصر حينها استخدام الكرد كورقة رابحة، اما البعض الاخر، فيرى في عبد الناصر الابن الفذ لحقبة التحرر الوطني، وقد عرف عنه دعمه وتأييده لحركات تحررية عديدة، وموقفه من الكرد وقضيتهم كانت مبدئية صادقة، والرأي الاخير هو الارجح والاقرب الى الصواب.
جمال عبد الناصر بوقوفه مع الكرد كان يتبنى في الحقيقة المصلحة العربية العليا، فقد تميز بنظرة سياسية ثاقبة ادركت ان الصراع العربي ــ الكردي لن يصب الا في مصلحة دول وقوى اخرى لها اجندتها الخاصة بها ومتاخمة للدول العربية، وعلى رأس تلك القوى ايران بالاضافة لتركيا واسرائيل، كما ان التصعيد والاستمرار في النزاع العربي ــ الكردي لن يكون الا مصدر ضعف للعرب، وعلى العكس، ايجاد حل عادل وسلمي للقضية الكردية سيكون في مصلحة العرب قبل الكرد، واليوم بعد مرور ما يقارب خمسة عقود من ثورة يوليو الناصرية، اثبتت التجربة العراقية ان جمال عبد الناصر كان محقاً في الدعوة الى ايجاد حل سلمي عادل للقضية الكردية، فكل ما حل بالعراق من ويلات ومصائب هي محصلة للسياسات العنصرية والشوفينية التصفوية التي اعتمدتها الحكومات العراقية المتعاقبة في حل المشكلة الكردية.
موقف جمال عبد الناصر من القضية الكردية، ان دل على شيئ فهو يدل على فطنة الرئيس المصري الراحل وذكائه السياسي وحرصه الحقيقي على المصالح العربية، فلولا اتفاقية الجزائر المشؤومة بين ايران والعراق، التي وقع عليها صدام حسين مع شاه ايران في عام 1975 باشراف ورعاية امريكية وبتخطيط وتزكية من هنري كيسنجر وزير الخارجية الامريكي الاسبق، والتي تنازل بموجبها العراق عن شط العرب لايران، مقابل تخلي الاخيرة عن دعم ثورة الكرد، لولا تلك الاتفاقية لما اقدم صدام حسين على حماقة حرب دموية لمدة ثماني سنوات ضد ايران، ليطالبها بشط العرب بعد ان تنازل عنها بهدف تصفية الكرد، ولولا تلك الحرب الخاسرة لما اقدم صدام على غزو الكويت ليعوض عن خسائره الاقتصادية الهائلة، ولولا غزوة الكويت لما وقعت حرب الخليج الاولى ومن ثم حرب الخليج الثانية ولما تدخلت امريكا في العراق.
ماحل بالعراق من حروب وكوارث لعقود طويلة من الزمن، ترتبط بشكل او بأخر بالمشكلة الكردية، وسياسة الحديد والنار التي اعتمدها حكام العراق بحق الكرد، تسببت بجلب الشقاء لاهل العراق، ولو اخذ هؤلاء الحكام بنصيحة جمال عبد الناصر في طريقة التعامل مع الكرد وقضيتهم، لتجنب العراق واهل العراق سلسلة الازمات المتعاقبة ولكان للعراق شأن اخر تماماً.
رحل عبد الناصر لكن موقفه من الكرد سيبقى خالداً في الذاكرة، اعترف الرجل بوجود الكرد وحقوقهم في ظروف واوضاع تاريخية صعبة، لم يكن للكرد فيها حول ولاقوة، الا الجبال وعزيمة البقاء والله عز جلاله.
كاتب سوري
[email protected]
التعليقات