بعد أقل من خمسة أشهر من حصول تونس على الاستقلال، أقدم الرئيس الحبيب بورقيبة على اتخاذ خطوة ثورية لم يتجرأ على الإقدام عليها من بعده أي زعيم آخر من حكام الدول العربية و الاسلامية، ألا و هي إلغاء تعدد الزوجات بإصدار قانون المرأة المعروف بمجلة الأحوال الشخصية في 13 اغسطس 1956.
لقد نزع القانون التونسي الجديد من الزوج حق تطليق الزوجة إلا من خلال حكم قضائي يصدر عن المحاكم، التي أصبحت ذات طابع مدني، وذلك بعد إلغاء المحاكم الشرعية و توحيد النظام القضائي. لكن و خلافا للاجراء المماثل الذي سبق و ان اتخذه كمال اتاتورك في تركيا بالقطع مع الارث التشريعي الاسلامي و اعتماد القانون السويسري، فضل بورقيبة ان يكون عمله اجتهادا مستنيرا و إصلاحا من داخل الاسلام.
لم يأتي عمل بورقيبة الاصلاحي من فراغ، بل كان محطة جديدة لمشوار بدأ بحملة تحسيسية تكشف الواقع المر الذي تعيشه المرأة منذ قرون، انطلقت قبل لحظة الاستقلال بعقود، من أشهر محطاتها صدور كتاب الطاهر الحداد quot;امرأتنا في الشريعة والمجتمعquot; سنة 1930، الذي أكد على أهمية النهوض بوضع المرأة، و دعا الى إلغاء تعدد الزوجات.
ويكشف د. الحبيب درويش استاذ علم الاجتماع بالجامعة التونسية في دراسته المعنونة بــ quot;مضامين التحديث الاجتماعي في مجلّة الأحوال الشخصيّة التونسيّةquot; و الصادرة سنة 2006، عن هذه المعاني، حين يشير إلى :quot; أنّ محاولات التعريف بقضايا المرأة والأسرة في الثلث الأوّل من القرن العشرين مشرقا ومغربا مثّلت إرهاصات أولى ستلعب دورا مهمّا في الرّفع من مستوى مقبوليّة مجلّة الأحوال الشخصيّة شعبيّا ونخبويّا فيما بعد، من خلال بداية ظهور حركة نسويّة فاعلة، ولعلّه من المفارقات أن نجد بشيرة بن مراد ابنة الشيخ الذي حارب الحدّاد بدون هوادة تتزعّم هذه الحركة النسويّة في تونس خلال الأربعينات وما بعدها، ولا يجب أن نستغرب حين نجد أنّ بعض مشايخ الزيتونة قد ساندوا هذه الحركة النسويّة في الأربعينات والخمسينات وذلك حتّى تبيّنوا أنّ الإسلام ليس ضدّ تطوّر المرأة...لقد مثّلت الأفكار الإصلاحيّة الأولى بشأن المرأة بمثابة البذرة الصّالحة التي لا تموت إذا كانت الظروف غير ملائمة لعيشها، بل تبقى ضامرة لتنبت وتترعرع عندما تتهيّأ الظروف، فهذه الأفكار مثّلت مقدّماتٍ ضروريّة للتّحسيس بقضايا المرأة لدى الرأي الجمعي لتسهيل تمرير مشروع الإصلاح فيما بعد.quot;
و لتوفير أفضل حظوظ النجاح للإصلاح المنشود، كلف الحبيب بورقيبة الشخصية الدينية المعروفة الشيخ محمد الفاضل بن عاشور بصياغة القانون الجديد، الذي quot;استلهم بدوره الكثير من أحكامها من quot;مجلّة الأحكام الشرعيّةquot; التي وضعها الشيخ محمّد العزيز جعيط سنة 1948 و كان يتقلّد آنذاك خطّتيْ وزير العدليّة وشيخ الإسلام المالكي فقد كانت القيادة واعية بما يمكن أن تثيره قوانين هذه المجلّة من جدل و ذلك لما تضمّنته من جرأة تشريعيّة وتجديد في الأحكام quot; (نفس المصدر السابق).
لقد طبق الحبيب بورقيبة المبدأ الأساسي في استراتيجيته السياسية المعروفة بإسم quot;سياسة المراحلquot;، - و التي أثبتت نجاحها في السابق بتخليص تونس من الاستعمار الفرنسي و بأقل التكاليف -، على قانون تحرير المرأة، إذ عمل على وضع الأساس في المجلة الصادرة في 13 أوت 1956، تاركا عملية التعديل و التطوير للمستقبل.من هنا جاءت تنقيحات 1959 المتّصلة بمسائل الميراث لمزيد ضمان حقوق المرأة والأطفال الأيتام، تلاها في 1962 تطوير إجراءات الطلاق بتوفير الفرصة للتصالح بين الزوجين، ثم تطوير القواعد المتعلّقة بالشروط الجوهريّة للزواج في 1964، والتنقيحات الخاصة بمسألة الحضانة في 1966، في حين طوّر تنقيح 1981 إجراءات الطلاق وأقرّ حقّ المطلّقة في جراية عمريّة وحقّ الأمّ في الولاية على أولادها...
لقد أدرك الحبيب بورقيبة منذ البداية أن القانون لا يعني الكثير اذا تعثر التطبيق، من هنا فقد عمل على التاكيد على اهمية التشريعات الجديدة في خطاب مشهود للشعب التونسي في 13 اغسطس 1956، أكد فيه على أهمية الاجراءات الجديدة، و أرسل بذلك مؤشرا قويا على التزام القيادة السياسية الكامل بالتنفيذ، ثم جاءت الخطب الرئاسية الاسبوعية التي عمل من خلالها الحبيب بورقيبة على توعية الشعب و تغيير مفاهيمه و نظرته إزاء المرأة.
و قد نجح الزعيم التونسي نجاحا باهرا في ذلك بدليل أنه لم يحصل أي تراجع على هذا الصعيد، خلال العقود الخمسة الماضية، بل على العكس جاءت تنقيحات 1993 لمواصلة العمل البورقيبي، حوالي 6 سنوات بعد مغادرة الحبيب بورقيبة الحكم. كما جاء تقرير الحكومة التونسية المقدم إلى الأمم المتحدة و المتعلق بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية و السياسية، في مايو من نفس السنة 993 مقدرا للعمل البورقيبي الجليل، إذ ورد فيه quot;إلغاء تعدد الزوجات بمقتضى قانون الأحوال الشخصية و إقامة نظام الزوجة الواحدة تعبير آخر عن مبدأ المساواة بين الرجل و المرأة. و قد أصبح تعدد الزوجات ــ الذي كان هو المظهر الأكثر فجاجة و ظلما لعدم المساواة بين الزوجين ــ جُنحة يعاقب عليها القانون الجنائي، و فضلا عن ذلك فإن الزواج الجديد باطلٌ quot;.
وخلاصة القول أن إلغاء تعدد الزوجات عن طريق الاجتهاد، قد وفر للحبيب بورقيبة ظروف النجاح القصوى لمشروعه التحديثي، حيث أنقذ المرأة من السيف المسلط عليها من طرف الزوج في شكل زواج من ثانية و ثالثة و حتى رابعة، دون اعتبار لمشاعر الشريكة، كما وضع الفقه الإسلامي في خدمة التنمية بدل أن يكون معوقا من معوقاتها، وقد كان ذلك دليلا بارزا على تميز الرؤية البورقيبية، التي تعتقد أن حالة المجتمعات العربية والإسلامية تقتضي أن يسخر الدين من خلال الاجتهاد المتنور، لمساعدة الدولة في مساعيها النهضوية والإصلاحية، وليس العمل على إقصائه وتهميشه، لأن ذلك سيخدم أكثر التيارات الرجعية والمحافظة.
د. أبو خولة
[email protected]






التعليقات