ربما كان من الصعب الحديث عن وجود هوية فلسطينية ناجزة ومتبلورة داخل المجتمع الفلسطيني. ولعل هذا الاستنتاج له ما يبرره في الواقع الفلسطيني الذي لا زالت تحكمه وتتحكم به العلاقات الاجتماعية والسياسية لمجتمعات ما قبل الهوية أو ما قبل الدولة، إلى الحد الذي يمكننا أن نضع الكثير من علامات الاستفهام حول قدرة الفلسطينيين في المستقبل القريب و مع زوال الاحتلال على بناء دولة ديمقراطية وعصرية وموحدة.

وفي اعتقادنا أن المعوقات التي تقف أمام بناء الدولة الفلسطينية المنشودة لا تتحدد فقط بوجود الاحتلال، كما يحاول الخطاب السياسي الفلسطيني إشاعته، بل أن هناك عقبات ذاتية تتعلق بالتركيبة الاجتماعية الفلسطينية التي تسيطر عليها العلاقات الجهوية والعائلية والعشائرية، والتي انتقلت كما هي تقريبا، إلى التركيبة السياسية الفلسطينية.

هنالك بلا شك الكثير من المظاهر المقلقة والمخيفة داخل هذه التركيبة والتي تستحق التوقف عندها لدراستها بأدوات ومناهج حداثية باتت متوفرة الآن للباحث الجاد. إن مثل هذه المظاهر لا يمكن معالجتها على الطريقة الفلسطينية السائدة وفق قاعدة quot;فإذا بليتم فاستترواquot;، بل هي تتطلب التعامل معها وفق منهج علمي يبدأ أولا بالإقرار بوجودها ومن ثم دراستها وبالتالي معالجتها. ولا اعتقد أننا بحاجة إلى التذكير بأن المكتبة السياسية الفلسطينية كما الدراسات الاجتماعية المتخصصة تفتقر جميعها إلى الأبحاث التي تشير إلى وجود تلك الأمراض والعاهات والتي تمنع توحيد الشعب الفلسطيني على أسس اجتماعية حداثية.

ولعل الأسباب التي أعاقت توحيد المجتمع الفلسطيني على أسس حضارية هي كثيرة ومتعددة. وهي لكثرتها وتنوعها، تأبى أن تختزل في شخص المحتل. فنحن على الأقل لم نسمع بوجود احتلال استيطاني وضع في أجندته صهر هوية الخاضعين له في بوتقة شعب واحد. فمثل تلك المهمة هي ملقاة، في جلها، على كاهل الشعوب التي تتطلع إلى الاستقلال وتعمل بجد ومثابرة لإقامة دولها.
وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن السلطة الفلسطينية التي حكمت في المناطق الفلسطينية التي خرج منها الاحتلال لم تفشل فشلا ذريعا في خلق هوية فلسطينية وحسب، بل هي ساهمت وإلى حد كبير في إضافة الكثير من عوامل تمزق هذه الهوية المشرذمة أصلا. فلقد شهدت المناطق الفلسطينية في ظل حكم السلطة الفلسطينية استشراء العلاقات الاجتماعية القائمة على أساس من الولاء العائلي والجهوي والعشائري. لا بل وأكثر من هذا أيضا، فإن هذه السلطة قد غضت النظر عن إضافة حركتي حماس والجهاد الإسلامي عامل تفتيت آخر لهذا المجتمع، قائم هذه المرة على أساس من التمايز الطائفي والديني، الأمر الذي تجسد في مظاهر عديدة أبرزها: لجوء الفلسطينيين للعنف لحل خلافاتهم السياسية، وازدياد مخاوف الأقلية المسيحية الفلسطينية التي هاجر قسم كبير منها من المناطق الفلسطينية في ظل الانتفاضة الثانية، وذلك بسبب تنامي المد الأصولي الذي أدى إلى زياد مخاوف هذه الأقلية والهرب من الاضطهاد والتمييز القائم على أساس ديني.

المقصود بالتمايز الجهوي هنا هو الشد العصبي على أساس الجهة أو المنطقة (القرية أو البلدة أو المدينة) التي ينتمي إليها الفلسطيني. وهذا يمكن ملامسته والاستدلال عليه تاريخيا وحتى هذه اللحظة، من خلال عديد المظاهر التي لا يكفي مقال للإحاطة بها جميعا، فهي تحتاج إلى دراسات معمقة من قبل الباحثين المتخصصين.

وربما كان من الخطأ الاعتقاد أن ولاء الفلسطيني هو ولاء للوطن الأكبر (فلسطين)، بقدر ما هو ولاء للبلدة أو المدينة التي جاء منها. وهذه البلدة أو المدينة هي من وجهة نظر الفلسطيني عموما هي الوطن. هنالك بلا شك تعبيرات عديدة للاستدلال على ما نذهب إليه وربما كانت صورة الحزازات أو العداوات القائمة بين بعض المدن والقرى وصلت حد إدراجها بالأمثال الشعبية أمثلة على ذلك، فقصص الكراهية والتبخيس بين أهالي قرية الشجرة وبين قرية لوبيا على سبيل المثال، أو بين قرية المغار وقرية عيلبون، أو بين بلدة ترشيحا وبين البصة، تجد لها تعبيرات كثيرة تدل عليها. فأهالي البصة كانوا لا يطيقون أهالي ترشيحا إلى الحد الذي جسدوا فيه هذه الكراهية في أمثالهم الشعبية التي نقتطف منها هذا المثل البصاويquot; مالك يا أرض بتعنّي؟ قالت ترشحاني مارق فوق منيquot;.

لقد انعكس الانقسام على أساس جهوي طابع الحياة الاجتماعية الفلسطينية ماضيا وحاضرا إلى الحد الذي يمكننا متابعته والاستدلال عليه في صور التنظيمات الفلسطينية التي بنيت على أساس جهوي بكل ما في هذه الكلمة من معنى. ولنا أن نلاحظ في هذا السياق، أن غالبية قيادات الصف الأول للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين كانوا من فلسطينيي 1948 وتحديدا من مدن الجليل والساحل الفلسطيني على وجه الخصوص. كما ليس مصادفة أن تكون غالبية قيادات الصف الأول في جبهة التحرير الفلسطينية من قرية الطيرة تخصيصا، وأن غالبية المنتمين إلى الجبهة الديمقراطية هم أهالي الضفة وأن الغلبة في تنظيم فتح هم من مدينة غزة وضواحيها. كما أنه ليس من قبيل المصادفة أيضا أن يكون الانشقاق الذي حدث في فتح عام 1983 قد جاء على خلفية جهوية، وإلا بماذا يفسر أن يكون المنشقون بقيادة أبو خالد العملة من الخلاليلة (نسبة إلى مدينة الخليل)، أو ما هو التفسير المنطقي في أن تكون معظم قيادات حماس الرئيسية من غزة؟
وهذا ليس جديدا أيضا، بل تجلى دائما في عديد المواقف أبرزها كما ذكرنا الانشقاق الفتحاوي في عام 1983،على خلفية جهوية حاولت أن التخفي بعباءة سياسية مفادها أن المنشقين اتهموا قيادة فتح وعلى رأسها ياسر عرفات بالخيانة والتفريط بالحقوق الفلسطينية إضافة إلى قائمة واسعة من الشعارات الفضفاضة. لقد وصلت الأمور آنذاك إلى حد تتويج هذا الصراع الجهوي بتحوله إلى صراع دموي ساهمت فيه دول إقليمية، تماما كما حدث أثناء الصراع الدموي الأخير بين كل من حركتي فتح وحماس، وكان من نتيجته خروج فتح بقيادة أبو عمار من طرابلس.

إلا أن مشهد الصراع الجهوي لا ينتهي عند هذا الحد، بل يمكن للمتتبع لمسار فتح الانتفاضة بعد ذلك، أن يلاحظ كيف سيطر الخلايلة على فتح الانتفاضة في حلال سلسلة من الإجراءات التي استهدفت غير الخلاليلة كالفصل والتجميد والعزل وتحديد الصلاحيات إلخ ما هنالك من إجراءات اتخذت طابعا جهويا. والجدير بالذكر أن القيادات التي سيطرت على فتح الانتفاضة لم يكن من بينها غزاوي واحد.

لا يمكننا أيضا تفسير السيطرة الأمنية والعسكرية من قبل قيادات حماس على قطاع غزة فقط بالأسباب السياسية وحدها. فإذا كان صحيحا القول إن التيارات السياسية الدينية تأنف من التعددية السياسية وتحاول دائما ممارسة السياسة بفرضها بالقوة وبالعنف، فإن الصحيح أيضا، القول إن حركة فتح لا تختلف عن حركة حماس في هذا الجانب وفي بعض الجوانب الأخرى كثيرا، ولعل الفرق بين التنظيمين هو فرق بالدرجة وليس بنوعية الممارسة السياسية. ففتح مارست هي الأخرى سياسة السطوة على الصعيد السياسي. وفي كل الأحوال فأنه من الصعب الاستكانة إلى عامل واحد مفجر للصراع بين كل من حركة فتح وحركة حماس، تماما كما أنه من الصعوبة بمكان الحديث عن الجانب السياسي البحت لسبب بسيط ألا وهو غياب السياسة عن الحالة الفلسطينية التي حل محلها التجاذب والصراع الجهوي. لقد تجلى ذلك كما ذكرنا في الصراع الدموي والمسلح بين التنظيمين في قطاع غزة. ليس هذا وحسب بل يمكننا تفسير حالة اللامبالاة أمام ما يحدث في غزة من حصار إسرائيلي طال وشل جميع أوجه الحياة فيها،من قبل فلسطينيي الضفة على اعتبار أن ما يحدث لا يعنيهم كفلسطينيين ما دام الحصار يستهدف سوى غزة وحدها، بل وأكثر من ذلك أيضا فإن كثيرا ما يتداول في الغرف المغلقة نوعا من الشماتة والرضا على ما تفعله إسرائيل في أهالي القطاع كنوع من الشماتة وإرضاء لنزعة التفوق والتنافس بين الضفة والقطاع.

ولا اعتقد أن هذا الاستنتاج من قبلنا ينطوي على تسرع في الحكم على المواقف، بقدر ما نحاول إلقاء الضوء على الأسباب الحقيقية لحالة عدم الاكتراث من قبل الكاتب والباحث والمثقف والناشط السياسي في الضفة الغربية لما يحدث من كارثة إنسانية بسبب الحصار الإسرائيلي الذي طال كافة أوجه الحياة في قطاع غزة بحجة معاقبة حماس واعتبارها كيانا معاديا.

ربما نستطيع تفسير الحجج الإسرائيلية ومحاولات إسرائيل لتنغيص عيش الفلسطينيين وتدمير كل البنى التحتية التي يمكن أن تقوم عليها الدولة الفلسطينية في المستقبل، ولكن من الصعب على أي باحث جاد أو حتى المبتدىء في السياسة أن يفسر المواقف السلبية من قبل الناشطين في الضفة الغربية دون الإطلال على صورة الصراع الجهوي للفلسطينيين.

غزة تدفع الثمن مرتين مرة من إسرائيل وأخرى من الأخوة-الأعداء الفلسطينيين في الضفة الغربية.

نادية عيلبوني
صحافية فلسطينية مقيمة في فيينا