كيف تخرق قناة الجزيرة مهنية التغطية الإعلامية؟
كيف غطّت ليلى الشايب حادثة إعدام برزان؟


حسناً فعلت ( إيلاف) قبل ايامحينما فتحت ملف الإعلام العربي، ولعلها تسجل في ذلك سبقاً إعلامياً. وأنا في هذا المقال، لا أريد أن أعقّب على كل ذلك، بل أودّ أن أقف عند مثال واحد من بين أمثلة لا تحصى تخرق فيها قناة الجزيرة قاعدة المهنية، التي تمنح أي مؤسسة إعلامية شرعيتها الأخلاقية.


ومن المؤكد أن فيصل القاسم، المذيع الأبرز في هذه الفضائية، هو لا يتحرك خارج نطاق السياسة التي تقوم عليها الجزيرة. وعندئذ لا يصبح ثمة فرق بين القاسم أو جمال ريان أو خديجة بن قنة أو ليلى الشايب أو الشيخلي أو جميل عازر أو سامي حداد....
يمكن أن نحدد بعض ملامح جمهور قناة الجزيرة، فهي تخاطب جمهوراً ذا منطلقات ومواقف وجدانية، وذا حساسية قومية وإسلامية في المقام الاول. وهذا هو الانزلاق الأول للجزيرة التي تحولت من وسيط لنقل الخبر بحيادية على النحو الذي جرى فيه، إلى مشارك في توجيهه الوجهة التي يمكن أن يستثمر فيها استثماراً ينسجم مع حساسية الشارع الغارق في كابوس من الاعتقادات الزائفة.


لقد أسندت الجزيرة إلى المذيعة ليلى الشايب، مهمة تغطية خبر إعدام برزان التكريتي الذي كان رئيساً لأعتى جهاز مخابرات في المنطقة لمدة أربع سنوات، وعاث الرجل في الأرض فساداً، ويمكن لأي طالب للحقيقة أن يتوصل إليها بصرف النظر عن طائفة المصدر. ويبدو أن صدام توجس من بطشه فأسند إليه مهمة إدارة أرصدة العراق في سويسرا من 1988 إلى 1999.


طبعاً هناك حيلة تتبعها الجزيرة في كل خبر يهمّ ستراتيجيتها وسياستها الفكرية، وهي عندما تشعر بأن ( رائحتها قد فاحت) كما يقول المثل، تدعو شخصيات مختارة بعناية فائقة، وتستدرجهم إلى الحديث عن تفصيلة معينة، أو تبنّي فكرة هي ما تريد الجزيرة أن تنطق به تماماً. لذلك هي تعوّل كثيراً على التقرير الذي يرافق الخبر، أو تعليقات وتحليلات الشخصيات التي تستضيفها.


كان الأمر المهم بالنسبة للجزيرة في قضية إعدام برزان، هو كيف تستثمر تفصيلة يمكن تصديرها إلى الجمهور الذي تخاطبه، الذي يعدّ عنصراً مهماً من عناصر تمويل القناة من قبل الآباء الآيديولوجيين لهذا الجمهور. وهكذا اختزلت قضية إعدام برزان- وطبعاً راح بالرجلين زميله المعدوم عواد البندر- في كيفية انفصال رأسه عن جسده. لأن هذه التفصيلة هي النافذة للعب على وتر الطائفية في العراق إذ نجحت الجزيرة في تحريكه بشكل جيد.

في البداية بثت الجزيرة تقريراً استطلعت فيه آراء الشارع لتنفخ في التغطية روحاً من الموضوعية والمهنية، لكن ينبغي أن نتنبه بشكل جيد إلى ما تفعله الجزيرة وإلا خدعتنا ومررت علينا ما تريد أن تقوله هي لا الخبر أو الحقيقة. لا حظوا معي، لقد استطلعت الجزيرة رأي 13 شخصاً توزعوا من حيث الموقف من الإعدام على النحو الآتي الذي ورد في الاستطلاع: كردي ( ضد الإعدام) عراقيان عرب شيعة ( تأييد الإعدام) إيراني ( تأييد) إيراني آخر ( ضد) إيراني ثالث ( تأييد) امرأة إيرانية ( ضد) إيراني ( تأييد) أردني ( ضد) عراقي مقيم في الأردن ( ضد) أردني آخر ( ضد) امرأة أردنية ( ضد) أردني ( ضد). من المؤكد أن الجزيرة تعبت في العثورعلى كردي واحد يناهض إعدام برزان ومن خلاله أرادت أن تقول أن الشارع العراقي بكافة توزيعاته غير مؤيد للإعدام بدليل ها هم ألدّ أعداء النظام وهم الكرد يناهضون العملية. ثم انتقلت الى مستوى آخر من المخاطبة، وهو انتقاء اثنين من العراقيين الشيعة لتميّز هوية المؤيد للإعدام من العراقيين وتطعن في ولائهم باعتبار أن العرب يردحون الآن على فرضية صفوية شيعة العراق، وجاءت إجاباتهم منسجمة مع إجابات ثلاثة أشخاص إيرانيين، ولكي تطعن في ولاء كل الإيرانيين للنظام الإيراني انتقت إجابتين معارضتين للإعدام. ثم اختتمت الاستطلاع بطريقة بلاغية مؤثرة عندما أرادت أن تترك صدى حياً وانطباعاً لا يمحى من ذاكرة المشاهد، فاختارت أربعة أشخاص أردنيين وشخصاً عراقياً مقيماً في الأردن ليدلوا بدلوهم ويعارضوا إعدام برزان التكريتي.


انتهى التقرير، واستدارت ليلى الشاي بحركة مسرحية واجمة إلى المشاهدين، وراحت تؤدي دورها ببراعة، توجهت بسؤالها إلى رود برودي ( هيومن رايتس ووتش) في بروكسل عن عقوبة الإعدام فأجاب الرجل بأنه يعارض عقوبة الإعدام، فانفرجت أسارير ليلى الشايب التي كانت ذكية في الخلط بين معارضة عقوبة الإعدام عموماً وعقوبة إعدام صدام ومعاونيه ممن تلطخت أياديهم بدماء العراقيين والعرب. سألته: ما رأيكم بعملية قطع الرأس بعد الإعدام. أجاب برودي: واضح أننا حولنا صدام ومعاونيه إلى شهداء وهم مجرمون. صعقت ليلى الشايب، وظهرت عليها علامات الانزعاج وخيبة الأمل في جواب ضيفها. ليلى في وضع حرج من ينقذها من ورطتها وحزنها على ما سمعته من برودي، طبعاً كانت تكرر بين الفينة والفينة إدانة الاتحاد الأوروبي للإعدام دون أن تُفهم المشاهد العربي أن الاتحاد يعارض فكرة الإعدام دون أن يصادق على أخلاقيات وبراءة الشخص المعدوم.

كان عزام صالح عبد الله ( صهر برزان التكريتي) الذي يتحدث من صنعاء هو الصوت الذي يرسم البهجة على وجه ليلى الحزين، أجاب الرجل بعاطفة الإنسان المجروح بفقد محب له بأن ذلك من: حقد الصفويين. واختتم شتائمه بـ: لعنة الله على هيج (هكذا) ديمقراطية. اعتدلت ليلى في جلستها، وأرادت أن تضاعف لذة السرور هذه فاتجهت بسؤالها إلى الدكتور فخري محمد صالح رئيس مصلحة الطب الشرعي السابق في مصر والذي يعمل الآن في المنامة. كانت ليلى تلحّ على أن انفصال الرأس عن الجسد هو من عمل منفذي العقوبة لتطعن في البيان الرسمي الصادر من بغداد.

سألت ليلى ضيفها الخبير بهذا النوع من القضايا، وكانت تنتظر منه جواباً يقوّض مصداقية البيان الصادر من حكومة العراق. أجاب الخبير بتأكيد، أنّ: ( حدوث نزع الرأس عن الرقبة جائز، وهو خطأ مهني يتعلق بالحبال أو بالمنفذين). أرادت ليلى أن تلتفّ على ضيفها من ناحية ثانية، فوجهت إليه سؤالاً عما إذا كانت هذه سابقة فريدة أم لا، فأجاب الخبير بما نصه: ( نعم حدث هذا سابقاً) وقال بأنه شاهد عدة حالات من هذا النوع لكنها قليلة، ويُحاسب عليها المنفِّذ. ولكي تخدع الجزيرة المشاهد، اتصلت بالمحامي طارق حرب من العراق، لكي تقلل من غلواء الصورة غير المهنية على الإطلاق، ولكي تنقذ ليلى من الاضطراب. عندما نطقت ليلى بأنّ معها على الخط طارق حرب، ولأن الرجل صديقي وأعرف ما سيقول، قلت على الفور بأنهم سيقطون كلامه بأية وسيلة. وفعلاً ففي الوقت الذي أراد طارق المعروف ببلاغته وديباجاته أن ينتقل من الجملة الأولى إلى الجملة الثانية، أعلنت ليلى نأسف هذا الانقطاع في الصوت من المصدر.

طبعاً كان هناك تشديد على عبارة: من المصدر. وفوراً كان على الخط، خلف العليان القيادي في جبهة التوافق، فقّدَ الرجل كل توازنه وكل كياسته السياسية، وصرّح تصريحه الخطير، بأنهم: ( أعدموا لأنهم سنة). كان خلف منفعلاً جداً، الأمر الذي ألهب مشاعر ليلى، وأعطاها الثقة بأخلاقية المهمة التي تقوم بها مباشرة على الهواء واستمرت التغطية أكثر من ساعة، على حين تجاهلت القنوات الأخرى كالعربية هذا الخبر، واستمرت في بثّ البرنامج الاقتصادي. ومثلما أرادت الجزيرة أن تترك صورة الإدانة حية لدى المشاهد من خلال الاستطلاع الذي افتتحت به تغطية حدث الإعدام، فإنّ ليلى أرادت أن تمارس الطريقة نفسها، فاتجهت إلى الاتصال بالمحامي بديع عزت ( محامي طارق عزيز) الذي تكلم بطريقة لا علاقة لها بالقانون إطلاقاً، وكشَّر الرجل عن أنيابه وراح يشتم الحكومة بشتائم نابية مخجلة، مفصحاً عن ضغينة شخصية وموقف متشنج. ومن المحامي بديع إلى المحامي الأردني الفلسطيني ( عصام غزاوي) كانت ليلى تنتشي بالاستماع إلى سمفونية الشتائم، فيما كانت الأرواح التي أُزهقت بأيدي برزان والبندر تعزف موسيقى لا تحرك قط خصلة من خصلات ليلى الشايب. كلام عصام الغزاوي كان كارثة حقيقية من الناحيتين الأخلاقية والقانونية، إذ عثر هذا الخبير القانوني على جوهر الإدانة، فكان يزبد ويرعد على أن تسليم الجثث قد تأخر كثيراً، لكن عندما كان عصام غزاوي يزبد ويرعد كان الوقت في بغداد العاشرة صباحاً وهو وقت مبكر. تأخير تسليم الجثث لساعات جرح مشاعر عصام لكن الملايين الذين قتلوا وتركوا في العراء تأكلهم الكلاب كما شاهدت أنا بأم عيني لم يجرح مشاعر هذا المحامي الذي يحرس بقانونه حقوق العرب. هذه هي الطريقة التي غطّت فيها الجزيرة وليلى الشايب حادثة إعدام برزان.


وكل عام وأنتم بخير.

ناظم عودة
[email protected]