إنّ تعليقات القراء على مقالي ( كيف تخرق قناة الجزيرة مهنية التغطية الإعلامية؟) هي خير وسيلة لمعرفة سيكولوجيا الخديعة التي مورست على هؤلاء الناس الأبرياء. الخديعة التي سُخِّرَتْ لها أموال وثقافة وإعلام وسياسة محكمة. لذلك تحولت الخديعة إلى نظام ثقافي لا يمكن فضحه بسهولة، إلا بمعرفة كود الخديعة. أيها القراء الأعزاء، أنا أتضامن معكم في مناهضة كل خديعة حتى لو كانت مني. أنا ضد خديعتكم من قبل أمريكا وأسرائيل ومن حكامكم ومن كل كاريزما سياسية أو دينية. أعزائي استفزوا عقولكم من رقدتها، وانظروا بعين العقلانية ونبذ المسلَّمات الجاهزة. لقد عارضتُ احتلال العراق في جريدة القدس العربي من قبل حصوله بأسابيع، وكتبت ضد القتلة من طائفتي قبل القتلة من الطائفة الأخرى. أنا مناهض لكل فرق الموت، ومناهض للاحتلال الأمريكي، ومناهض لقيام دولة دينية بالعراق. أنا كاتب مستقل تماماً منذ أول مقال كتبت إلى اللحظة والجميع يعرف هذا. وأنا مسلم بلا مذهب، ومؤمن بهذه الفرضية، أدافع عن السنة مثلما أدافع عن الشيعة، وأعلن أن العرب يبددون أموالهم وطاقاتهم البشرية تحت يافطة هذا الصراع الأعمى. طبعاً أنا لي وقفة أخرى مع ما قيل ومع عشرات الاميلات التي وصلتني، لكن دعوني أكشف لكم البنية التي تتحرك بموجبها هذه القناة.
قد تصل ( الجزيرة) إلى مصدر الخبر بأكثر من طريقة، لكنها لن تنظر إليه إلا بعين سردية واحدة، معدّة سلفاً لهذه الرؤية، فهي ليست من الوسائل الإعلامية التي تنقل الخبر، إنما تتدخل في صناعته بنمط من السرد المخصوص المرافق له وبوجهة النظر المضمنة في حيثياته. وهكذا صار الحذف، والإضافة، وتركيب الصور مع بعضها، والصناعة الأسلوبية الأفقية للخبر التي تعود إلى الوراء قليلاً لتركّبه تركيباً بلاغياً يعزف على أوتار مخصوصة يطرب لها المشاهدون العرب. وأصبح واضحاً للجميع أنّ هذه القناة خاضعة بقوة لستراتيجية اللوبي العربي الذي يرى في الولايات المتحدة عدوة على طول الخطّ، ومن ثمّ ليس من حقها التدخل في رسم سياسات الشرق الأوسط، ومن هنا فإنها تعمد إلى استثمار هذه الستراتيجية في السرد الذي يقدّم إلى هذا النمط من المشاهدين. بل إنها تتمادى لتنظر إلى كلّ مشروع تقدمه هذه القوة العظمى بخصوص المسائل الشائكة في هذه المنطقة الملتهبة من العالم على أنه مشروع عدائي، يضمر الشرّ لشعوب المنطقة كلها. وفي ظني أنّ هذا الموقف الذي تتبناه النخب العربية المتحكمة بكبرى وسائل الإعلام العربية حيال التغيير السياسي بالعراق، عائد إلى ازدواجية الموقف الأمريكي من القضية الفلسطينية بالدرجة الأساس، وإلى الموقف المساند للقضية الفلسطينية الذي كان يقفه النظام السابق، وسيلةً من الوسائل التي كان يتبعها للتأثير على الشارع العربي. وبسبب هذا الغيظ الكامن في قلب العرب لمواقف الولايات المتحدة من قضاياهم المصيرية، تحوّل العراق إلى ساحة حرب لشنّ هجمات متكررة، على القوات الأمريكية التي جاءت للقضاء على نظام صدام، وتطبيق أفكارها في إطار خارطة طريق الشرق الأوسط، وبعد ذلك دغدغة مشاعر سواد العرب في أنها راعية المشروع الديمقراطي في هذه المنطقة العربية التي استعمرتها الدكتاتوريات لعدة عقود، وساهم هذا الاستعمار في تفريخ الخلايا المتطرفة، والجماعات الأصولية في العالمين العربي والإسلامي. ونظراً لكون هذه القضية قضية رأي عام، فقد التزم خطاب قناة الجزيرة بمراعاة مشاعر الرأي العام العربي والإسلامي في طرح موضوعاته، وتحليل قضاياه الأساسية. ونجحت في استعمال منهج إعلامي متميّز بإمكانيات تقنية ومالية عالية، يهدف إلى إدهاش المشاهد بعرض ( الرأي، والرأي الآخر)، وكذلك في عرض الانتقادات التي توجّه إلى قناة الجزيرة نفسها من طرف سياسيين وإعلاميين من المملكة العربية السعودية التي انهالت على وزارة الخارجية القطرية بسيل من الاحتجاجات، مما دفع القناة إلى استضافة وزير الخارجية في أكثر من مرة، للدفاع عن موقف حكومته من هذه القناة المستقلة بحسب زعمه. ولم يقتصر الاحتجاج على المملكة العربية السعودية وحدها، إنما اشتركت فيه دول من مثل تونس والمملكة الأردنية الهاشمية، ومصر، والكويت، والمملكة المغربية. وثمة رأي يتبناه عدد واسع من المواطنين الفلسطينيين، وبعض مثقفيهم، وقسم من سياسييهم، من أنّ هذه القناة إسرائيلية وقد أدخلت وجهة النظر الإسرائيلية الرسمية إلى داخل كلّ بيت عربي. ومن الغريب حقاً، أنّ هذه القناة التي تدعي الحيادية والموضوعية المهنية في ما تقدمه من أخبار وتقارير وبرامج، تنظر إلى موضوع ( الدكتاتورية) في العالم العربي نظرة يشوبها كثير من الازدواجية، فهي لا تتردد من مهاجمة النظام السياسي في المملكة العربية السعودية على أنه نظام قامع للحريات المدنية، وفي خطوة لاستفزاز الحكومة السعودية فإنها تستضيف باستمرار معارضين سعوديين مقيمين في بريطانيا لانتقاد الواقع السياسي السعودي. لكنها في الوقت الذي تقدم فيه على ذلك، إنما تغض الطرف عن أنظمة عربية دكتاتورية وصفت علاقتها معها على أنها علاقة السمن بالعسل.
ولأنّ هذه النخب المتحكمة في سياسة قناة الجزيرة، خليط من الأثرياء الإسلاميين والقوميين الذين اجتذبوا عدداً من الكتاب والمراسلين والمحررين ومعدي ومقدمي البرامج المالكين بلاغة التأثير في الشارع العربي، فقد انكشفت ألاعيب هذه القناة وعدم مهنيتها لعدد واسع من المثقفين المتنورين، في الوقت الذي انطلى ذلك على الناس البسطاء ممن خصّبت ذاكرتهم بهزائم العرب المتكررة، وكانت أمريكا حاضرة بقوة في هذه الذاكرة الجريحة. وكان طبيعياً أنْ تستغلّ قناة الجزيرة هذه الذاكرة، لتقديم نموذج إخباري قائم على العاطفة أكثر من قيامه على الحقيقة. ومن يرغب في معرفة سياسة هذه القناة في صناعة الخبر، يتعيّن عليه أنْ يتنبّه إلى ( التعليق) الذي يصاحب التقرير الخاص بـ ( الخبر)، فهذا التعليق مساحة جيدة تدسّ فيها هذه القناة شيئاً من سياستها غير المعلنة، كما هو الحال في التعليق الشهير لمراسلها ببغداد ( ماهر عبد الله) في لحظة سقوط تمثال صدام، وكان يعلق بسخرية على الطريقة التي اسقط فيها التمثال، فكان يقول: يبدو أنّ العراقيين غير قادرين حتى إسقاط تمثال صدام حسين، فاستعانوا برجال المارينز الأمريكيين لكي يسقطوا التمثال.
وخلف الكواليس، تجري اتفاقات واتصالات مع عدد من (المحللين السياسيين) غير الموضوعيين ليقدموا إلى المشاهد العربي تحليلاتهم حول الخبر، أو الموضوع المطروح للمناقشة، ليحقنوا تلك السردية الخاصة بحقنة تظهر عليها جلابيب الموضوعية، ولا شكّ في أنها كانت تحليلات بعيدة عن الحقيقة كلّ البعد، حتى أنني كنت أستمع بدهشة إلى أحد المحللين العسكريين الستراتيجيين وهو يعلّق على الصورة في أثناء اقتحام القوات الأمريكية مدينة بغداد، وكان تحليلاً بعيداً عن الحقيقة تماماً، إذ كان يشرح الخطة العسكرية التي دخل فيها الجيش الأمريكي بطريقة مَن لا يعرف شيئاً عن جغرافيا هذه المدينة الكبيرة بغداد. وقد استمعت إلى عدد من العرب، وهم يتبنون فكرة هؤلاء المحللين الذين كانوا يهرجون بعيداً عن الواقع.
ناظم عودة
التعليقات