قبل عقدين من الزمن تقريبا انطلقت الانتفاضة الفلسطينية الأولى ويومها أصدرت القيادات الفلسطينية بيانات متكررة تحدد أهداف تلك الانتفاضة وتعلن أن الاستقلال هو هدفها المركزي ثم انزوت تلك القيادة بعيدا وفوضت أمر الشعب لحفنة من الشبان المتحمسين وما لبثت أن بدأت تكيل لهم التهمة تلو الأخرى إلى أن انتهينا بمن بقي منهم إلى التسليم بالأمر الواقع وتمكنت القيادة الفلسطينية آنذاك من إقناعهم أن التحرير قادم وان اوسلو خطوة صغيرة على الطريق نحو الحرية والاستقلال وان عليهم الانتقال الآن من دور المكافحين في الشوارع إلى دور بناة مؤسسات السلطة الوطنية وفعلا تم ذلك وكان يمكن القول أن ما قدمته القيادة آنذاك كان يندرج في باب المعقول أيا كانت الاجتهادات حول صحته أو عدمها وحول إمكانية تطوير مشروع اوسلو إلى دولة كاملة السيادة والاستقلال أم لا، لكن المهم أن أولئك الشبان وجدوا أنفسهم يرتدون زيا رسميا ويضعون شارة فلسطينية ويحتلون مواقع متقدمة في قيادة البلد وتدريجيا بدأوا ينتقلون إلى كونهم جزء من سلطة رسمية مقتنعين بأهميتها وبقدرتهم على تحويلها إلى أداة شعبية للتحرير، أيامها ترحمنا على شهداءنا ولم نلتفت للغصة الصغيرة التي بقيت بالحلق حول حال من بقي من اسر الشهداء يجتر ذكريات الماضي ويعيش على أمجاد ما مضى.

نصف عقد أو أكثر مر على ذلك لنجد أنفسنا مرة أخرى نكرر التجربة ذاتها وعنوة ونصدر بيانات جديدة عن انتفاضة الأقصى والاستقلال، ومرة أخرى أيضا فوضنا امرنا إلى نفس الجيل الذي احتل مقاعد سلفه ورحنا نكيل لهم المديح ونتغنى بهم وبعظمتهم وتركنا لهم كل شيء حتى إدارة أمور الحياة تماما كما فعلنا في السابق، ويوميا فقدنا منهم ولا زلنا الواحد تلو الآخر ولا دور لنا سوى تعداد الشهداء والجرحى والأسرى وبأعداد لا حصر لها، وفجأة بدأت حكايات التفاوض والسلام وتحول أبطال الأمس وجنرالات الشعب لدى من احتمى بهم إلى عالة عليه يريد التخلص منهم عنوة وعلى رؤوس الأشهاد وانهالت عليهم ألقاب جديدة وعلى رأسها أنهم باتوا رموزا للفلتان لا جنرالات للثورة، وقد باتوا يشعرون أنهم مستهدفين من الجميع ولا احد إلى جانبهم وان الجميع قد أدار الظهر لهم.

سبع سنوات تربى خلالها جيل كامل لا يعرف أحدا سواه في مواجهة الموت واقتنع كليا وبالواقع الملموس انه وحده من واجه المصاعب وبالتالي فهو وحده من يقرر متى يتوقف، لم يعد ممكنا إقناع هؤلاء الشبان أنهم انهوا مهمتهم التي كلفوا بها بتفويض رسمي وشعبي علني حين تركناهم لقمة سائغة لنيران الأعداء وجلسنا بعيدا نعد المفقودين منهم ونصدر الملصقات وندبج القصائد وان بأقل بكثير من الانتفاضة الأولى، بعض هؤلاء فقد إخوته أو عدد كبير من أسرته والبعض فقد رفيقا عاش معه أصعب الظروف وهو رأى بعينه ما حدث لأسرة الشهيد على يد أصحاب القرار فكيف نريده أن يذعن لإرادة من يعتقدوا انه وقود نار لا أكثر ولا اقل، سبع سنوات كان هؤلاء نجوم شعب ونجوم مسيرة ومن خلالهم وبواسطتهم ولهم لجأت عامة الناس لحل خلافاتهم وقضاياهم في زمن غياب القانون وأصبحوا هم وحدهم القانون بسلطاته الثلاث وكذا كان في الانتفاضة الأولى، فكيف نأتي اليوم وبكل البساطة لنطالبهم بالتخلي عن كل ما حققوه لذواتهم من مواقع متقدمة في ظل غياب الآخرين.

قادة ميدان حقيقيين وأصحاب سلطة لا يشق لها غبار، شبان وجدوا أنفسهم يحملون سلاحا علنيا ويقودون سيارات فاخرة وان غير قانونية ويشعرون بهيبتهم في الشارع أيا كان نوع هذه الهيبة وتفتح لهم كل الأبواب ويوميا يسقط منهم شهيد جديد أو يغيب منهم من يغيب خلف قضبان المعتقلات ويفقد بعضهم جزءا من جسده، ثم يجدون من يطالبهم بالعودة إلى غرفهم المظلمة وكأن شيئا لم يكن دون أن يجدوا سببا مقنعا واحدا لذلك.

ما الذي حصل وماذا حققنا وهل انتهت مهمة الانتفاضة وكيف وأين هي شعارات الاستقلال والحرية وكنس المحتلين وهم لا زالوا يجوبون مدننا وقرانا يغتالون من يغتالون ويعتقلون من يعتقلون ويدمرون البيوت والمزارع والمؤسسات ويغلقون بوابات الدنيا في وجوهنا، فكيف يمكن إقناع هؤلاء الذين قلنا لهم بالأمس القريب تعالوا معا لكي نحررها وانتم أسياد هذا الفعل أن الفعل انتهى وقد عدنا إلى الوراء، فالأقصى لا زال منتهكا وبحالة اشد والأرض باتت أراضي بعد الجدار الإسمنتي وبوادر الجدران السلكية التي يتم إنشاءها هنا وهناك لتقسيم الوطن إلى أوطان وبدل وحدة جزأين صغيرين من الوطن هما غزة والضفة سنجد أنفسنا نطالب بتوحيد نابلس مع جنين.

كل الغضب اليوم منصب على جنرالات الأمس من الشبان الذين أفسحنا لهم المجال لتسلم دفة القيادة حين كان ثمن هذه الدفة الموت وحين قررنا أن نحتفل بإنجازات الجدار والتهويد وتقطيع أوصال الوطن ورفع نسبة الهجرة بين شبابنا ودمار اقتصادنا الوطني وتحويل كل الشعب إلى شحاذين قلنا لهم كفاكم وعودوا من حيث أتيتم، وما أدراك من حيث أتوا فلا احد منهم على الإطلاق جاء من بيت مشمس ولا من مدرسة خاصة ولا من مصنع والده ولا من إقطاعية عائلته ولا من منصب مدير، فإلى أين تريدونهم أن يعودوا إلى غرف صغيرة ينحشرون بها مع عدد كبير من الإخوة والأخوات ولا يجدون فيها مكانا للشعور بعظمتهم التي أحسوا بها في الشارع وزوايا الاختباء من الموت، كيف تريدون لمن قلتم لهم انتم جنرالات أن يصبحوا نكرات هكذا بين ليلة وضحاها ودون برنامج ما لتهيئتهم نفسيا لذلك أم أن الحالة النفسية لشبابنا لا تعني شيئا، جيش الاحتلال العنصري يهتم بجنوده ويوظف لهم الخبراء النفسيين والمرشدين لمجرد تواجدهم في الخدمة في المناطق الفلسطينية في حين نترك شبابنا نهبا لكل الأذى وندمر مشاعرهم بعد أن نستخدمهم لتحقيق أهداف لم تكن معلنة لهم حين تم استدعائهم للموت في سبيل أهداف نبيلة لم يجدوا منها شيئا على ارض الواقع ونحن نطالبهم بالاختفاء عن خشبة المسرح وكأن شيئا لم يكن.

أربعة آلاف شهيد وأكثر من ثلاثين ألف جريح وعشرات الآلاف من الأسرى والآلاف من الشبان الذين وجدوا بالعسكرة ذواتهم، وكل هؤلاء وصلنا بهم حد التمني بالعودة إلى حدود 28 أيلول 2000 دون أن نتذكر البيانات التي أصدرناها والوعود التي أطلقناها، أربعة آلاف شهيد وقفنا على قبر كل واحد فيهم من جنين إلى رفح لنطلق الوعود تلو الوعود عن الثأر للشهيد ودمه وكان حكاية قضيتنا هي حكايا ثأر شخصي لهذا الشهيد أو ذاك وحسب حجمه وموقعه ولنطلق الوعود أيضا عن حتمية النصر والتحرير وعن الوفاء بالعهد والوعد دون أن نشعر بأدنى احترام لوعودنا أو دون أن ندرس إمكانية تحقيقها على قاعدة أننا أمام شعب ينسى اليوم ما جرى أمس خصوصا وان مآسي اليوم اكبر بكثير من مآسي أمس، وغنينا لأمهاتهم بان الجميع أبناء لهن ثم وبعد انقضاء بيت العزاء وجدت تلك الأمهات أنفسهن بابشع صور الوحدة وتحول الشهيد العظيم إلى رقم في وزارة الشؤون الاجتماعية، وثلاثين ألف جريح أكثر ما يتمنوه هو حسنة صغيرة في نهاية كل شهر، وماذا سنفعل إذا أضفنا إلى أرقام الانتفاضة الثانية أرقام الشهداء والجرحى والأسرى من الانتفاضة الأولى وما قبلها وما بعدها من هبات ونشاطات الكفاح الوطني.

المطلوب اليوم ليس خطط أمنية لا تساوي الورق الذي تكتب عليه، وتتوجه بشكل رئيسي ضد أولئك الذين كانوا بالأمس مطالبين بالإمساك بالوضع الوطني برمته وعلى كافة الأصعدة حين سمح لهم أن يكونوا بديلا للقوى والفصائل وقياداتها وللأجهزة الرسمية للسلطة ووصل الأمر إلى اعتبارهم حتى بديلا للقانون واذرعه المختلفة وتغنت الفصائل جميعها بهم بل واعتبرتهم أساسا لإثبات وجودها الكفاحي على الأرض، فالمطلوب اليوم إذن هو خطة وطنية حقيقية متكاملة سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، خطة إنقاذ وطني تؤمن عودة أبناءنا من أطفال الأمس الذين كانوا وقود الانتفاضة الحقيقي بكامل لياقتهم ليعودوا شبانا مشاركين في بناء الوطن وتامين وجود صحيح لهم على الأرض بما يحفظ كرامتهم ويعيد لهم توازنهم وإيمانهم بالشعب والقضية وان نقدم لهم ما هو مقنع عن أسباب مطالبتهم اليوم بإلقاء سلاحهم دون تحقيق الأهداف التي طولبوا بحمل نفس السلاح في سبيلها، ودون ذلك فان من المستحيل على هؤلاء الشبان الاستجابة لنداءات من تركوهم يواجهون مصيرهم وحدهم.

عدنان الصباح