ـ مقاربة أولى ـ

في مقاربة الوضعية المجتمعية السورية هنالك خطورة منهجية من جهة، وخطورة سياسية من جهة أخرى.
حيث أننا في عنواننا نبحث عن هذه الوضعية بين دالتين من المفترض أنهما يستمدان وجودهما من المجتمع السوري نفسه. والخطورة المنهجية تكمن بالتالي في أننا أمام حالة شاذة لاتصح عليها كثيرا المفاهيم المتداولة في الدول الطبيعية. حيث أننا من الناحية المنهجية غير قادرين على الحديث عن مجتمع سوري فمابالنا عندما نريد الحديث عن مجتمع مدني سوري ؟ وربيع دمشق يوضح أننا كنا أمام حالة من العصيان المنهجي للواقع المجتمعي السوري بعد قرابة خمسة عقود تقريبا من الإقصاء المنهجي والمرتجل بالآن معا لتطور هذا المجتمع السوري. فنحن في ربيع دمشق أخذنا استعارتنا في المجتمع المدني من نشاطات المثقفين التشيك أو ماكان يعرف باسم مجموعة السبعين الذين ناضلوا ضد الشمولية الستالينية، وتجربة حركة التضامن البولندية بقيادة ليش فاليسا. دون أن نأخذ بعين الاعتبار عاملين مهمين:
الأول ـ أن تلك المجتمعات الشمولية فيها علمانية مطلقة تقريبا وفصل تام وحقيقي للدين عن الدولة هذا من جهة ومن جهة أخرى لم تكن السلطة لقيطة بين مشروع طائفي أقلاوي وبين مشروع شمولي حزبي. وهذه النقطة ستكون مثار مقال لاحق لنا في هذه الزاوية التي نتمنى أن نقدم فيها موادا حوارية أكثر مما هي نتائج نهائية للبحث الذي نرى حاجة سورية الديمقراطية المستقبلية إليه.وهذه النقطة تخلق خطورتها السياسة أيضا في أنها لا تعطي الصورة الحقيقية لسلوك النظام السياسي.


الثاني ـ أن تلك المجتمعات كانت قد قطعت شوطا في الثورة الصناعية العلمية وبالأخص المجتمع التشيكي. ولذا كان القول عندهم أن المجتمع المدني مصادر هو قول صحيح منهجيا وسياسيا وقانونيا. بينما عندنا لم يتكون هذا المجتمع بعد لذا لم نر في حركيتنا أي عمق اجتماعي بالمعنى الدلالي للمفردة. وهذا يفترض بنا قبل الدخول إلى تتمة موضعنا أن نعرج قليلا على مفاهيمنا التي نستخدمها هنا.


إننا في اختيارنا للتسمية quot; المجتمع السوري quot; للتمييز الإجرائي من جهة عن مجتمعات أخرى، وللتمييز المنهجي لكوننا لازلنا بعيدين عن وجود مجتمع مدني في سورية لأسباب تتعلق بإرادة السلطة وسلوكها على مدار العقود الخمسة المنصرمة. لهذا لم نقل المجتمع المدني في سورية لكون في سورية يجب أن توجد إلى جانبه وبالتفاعل معه دولة متناسبة طردا مع وجود هذا المجتمع. وسلطة تستمد مشروعيتها من الجهتين معا أي من الدولة والمجتمع المدني أما على صعيد الفكر النظري، تتحدد مقولتا المجتمع المدني ودولة القانون، فضلاً عن المحددات الاجتماعية الاقتصادية والثقافية والأخلاقية والسياسية، بمتغيرين أساسيين: الحرية والضرورة، ينوجد فيها المواطنون، في كل مجتمع على حدة، انتصاراً على الجهل والعرف والعرفية. ومن ثم فإن المجتمع المدني هو مملكة الحرية والوعي، بقدر ما يعي الضرورات التي أشرنا إليها. والدولة هي مملكة القانون بالمعنى الذي ذكرناه. أما التي تجادل المجتمع المدني وتتفاعل معه فهي دولة القانون أو دولة مملكة الضرورة كما هو متفق عليها تقريبا في التاريخ المعاصر. ولكن هنالك في هذه المقاربة من يستبعد مفهوم السلطة من مقاربته ودوره المهم على هذا الصعيد أو أنه يدمج بين المفهومين مفهوم الدولة ومفهوم السلطة وصلاحيتهما في التاريخ والممارسة ! وإيرادنا لهذا التعريف المختصر نود أن نبحث عن دلالات نراها الأكثر التصاقا وتاريخية بمفهوم المجتمع المدني :الدلالة الأولى ـ وهي التي أتت من انتقال البشرية من مجتمع الريف إلى مجتمع المدينة الذي لايجمع بين البشر فيه روابط عشائرية أو روابط دم أو دين أو طائفة بقدر ما يجمع بينهم إضافة إلى ذلك علاقة متناسبة مع هذا التواجد المديني مثل علاقات حي أو نقابات أو تجمعات مهنية أو مدنية وهي يجب أن تكون خارج سيطرة السلطة وداخل مجال دولة القانون ويكون لها الأولوية في حياة الفرد / المواطن ودولته. الدلالة الثانية ـ هي المتعلقة بالتحضر والعصرنة والتي تجد روحها مبثوثة في مصطلح المدنية.انطلاقا من هذا لو عدنا إلى المجتمع السوري الذي استولت عليه سلطة آحادية تجمع مابين الحزبي السياسي ومابين الطائفي الأقلوي لو جدنا أنها سيطرت عليه لضعفه وهزاله ولأنه كان في بدايات تكونه بعد خروج الاستعمار الفرنسي. حيث لم يكن سكان المدن سوى أقلية بالنسبة لسكان سورية المتواجدين مبعثرين في الأرياف. وهذا الضعف والهزال ليس نابعا من عدم وجود مجتمع أهلي في المدن والأرياف وله روابطه وتضامناته التي تزعزعت كلها بعد استيلاء العسكر على السلطة، بل هو نابع من عدم وجود بنية مدينية راسخة. إن العسكر الذين كانوا بحاجة لمشروعية شعبية تتلخص في قيام نظام شمولي وعلماني بالآن معا واجههم في الحقيقة ممارسة طائفية نمت بفعل فقدانهم لمشروعيتهم الاجتماعية. فماكان منهم إلا أن بدأوا بتوزيع الثروة الاجتماعية بمايتناسب والدلالة الطائفية للسلطة التي بنوها لبنة لبنة سواء برفع الشعار السياسي الذي يبرقع فعالية السلطة الحقيقية ودورها في تذرير المجتمع الأهلي الذي لم تستطع أن تقيم روابط مدنية بديلا عن هذه الروابط التي حرقتها الممارسات السلطوية. وجعلت كل فرد في الوطن هو ملحق سلطوي بالدرجة الأولى. هذا من جهة ومن جهة أخرى كان لابد لها من الاستيلاء المباشر على الدولة لتصبح السلطة هي القانون واللاقانون بالآن معا هي القانون من خلال دستور فصل على مقاس رجل واحد وبنفس الوقت من خلال ابتداع آليات لتوزيع الثروة الاجتماعية بشكل غير قانوني ولكنه محمي من نفس السلطة التي قامت عبر هذه الممارسات بابتلاع دور الدولة. كما ساعدها على ذلك في الحقيقة مجموعة من العوامل ولكن أهمها هو بقاء منفذ توظيفي لثرواتها المنهوبة عبر مايسمى بالقطاع الخاص لذا لم تقم هذه السلطة بتأميم ما تبقى من القطاع الخاص باعتبارها سلطة تدعي الاشتراكية ! بل أبقته منفذا لزيادة ثروتها وثروة رجالاتها. وبقيت بذلك تتراوح وتراوح داخل هذا النسق الهجين على كافة الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وبقي الإحساس الأقلاوي يرافق هذه السلطة في سلوكها مما جعلها أيضا تحول النويات المدينية إلى ملحقات سلطوية ذات طابع ريفي. لهذا هي ألحقت النقابات بها وبنفس الوقت لم تترك للقطاع الخاص نقاباته الخاصة وهذا شكل هجين أيضا. بينما من المفترض أنه عندما تلحق النقابات بسيطرة الحزب القائد تكون الدولة قد سيطرت على القطاع الخاص عبر التأميم ورغم هذه السيطرة على النقابات والاتحادات المهنية لم تتعد سيطرة قطاع الدولة ـ أو قطاع السلطة ـ في أقصى درجاتها في أزمة الثمانينيات الاقتصادية التي مرت بها سورية إلى 57% من حركة الاقتصاد السوري. هذه العوامل وغيرها الكثير جعلتنا نصل للقول أن في سورية : مجتمع السلطة السورية. وهذا ما سنكمل الحديث عنه في مقاربات لاحقة.

غسان المفلح