عندما يجلس المرء ليراجع تأريخ العراق منذ تأسيس دولته الحديثة وحتى اليوم يجد بوضوح أن هنالك نخبتين سياسيتين مختلفتين عن بعضهما البعض قد حكمتا العراق في هذه الفترة كان الحد الفاصل بينهما هو إنقلاب 14 تموز 1958 الذي أرّخ لظهور نخبة جديدة تختلف في تركيبتها الفكرية والإجتماعية عن النخبة التي سبقتها وسبقت ذلك التأريخ.. فلقد شهدت الحياة السياسية في العراق منتصف القرن المنصرم ظهور أحزاب سياسية من نوع جديد تختلف عن تلك التي سبقتها في بدايات ذلك القرن والتي كانت أحزاب برجوازية ذات توجهات ليبرالية محافظة عموماً تضم في صفوفها نخباً من سياسيين ومثقفين ورؤساء عشائر وتجار كبار وكانت تتبنى أسلوب العمل السياسي السلمي للوصول الى السلطة أما تلك التي ظهرت بعدها فكانت من نوع مختلف وذات توجهات قومية ويسارية وإسلامية تأثرت بتجارب إقليمية أو عالمية وحاولت تطبيقها على الوضع العراقي ونسيت أن تراعي في ظل أنفعالها وتأثرها بتلك التجارب خصوصيات هذا الوضع وتعقيداته وقد نجح بعضها في تحقيق غاياته في الوصول الى السلطة فيما بقي البعض الآخر ولايزال يتحين الفرص لذلك.. وبتبدل النخبة السياسية تبدلت الأمور والأحوال في العراق حتى وصل حاله وحال شعبه الى ماهو عليه اليوم من هوان بعد أن تحولت النخبة السياسية التي تحكمه من نخبة رجال دولة حقيقيون كانت عقيدتهم الوحيدة مصلحة العراق وشعبه وكانوا يمتلكون كل المواصفات التي تؤهلهم لقيادة الدول والشعوب والعمل على رفعتها ونهضتها.. الى نخبة كانت تضم ولاتزال مجاميع غير متجانسة عقائدياً وفكرياً من المغامرين ومراهقي السياسة وهواة المعارضة لايفقهون من السياسة سوى أسمها ولايتقنون سوى رفع الشعارات تتملكهم روح الثأر والإنتقام والتطرف وتصفية الحسابات وتسيّرهم أهوائهم الشخصية والحزبية وولائاتهم الطائفية والعرقية.


ومن نخبة كانت تعشق بغداد الرشيد وألف ليلة وليلة بغداد التأريخ والحضارة والجمال والمحبة والسلام وتريد الإعلاء من شأنها وتعزيز وإبراز دورها كعاصمة عظيمة لوطن عظيم وترى رفعتها ورفعة العراق في رفعة بغداد.. الى نخبة تبغض بغداد لأنها بغداد الرشيد وألف ليلة وليلة ورمز للحضارة والرقي والتمدن ولاتعترف بدورها التأريخي والحضاري والإجتماعي وتريد مسخها والإنتقام منها والتقليل من شأنها ومن دورها ومن مكانتها بالنسبة للعراق والعالم وترى رفعتها في هوان بغداد.


ومن نخبة عزّزت روح المواطنة وخلقت وأشاعت في وطنها وبين أبناء شعبها أجواء الأمن والطمأنينة والسلام والمحبة والفرح والتفائل وثقافة التعايش الإنساني.. الى نخبة عزّزت روح الطائفية والعرقية وخلقت وأشاعت في وطنها وبين أبناء شعبها أجواء الخوف والموت والدمار والكره والحقد والضغينة والبغضاء وثقافة الشراكة المادية النفعية.


ومن نخبة كانت ترفض الكراسي والمناصب رغم إستحقاقها لها وتستقيل منها وتتنازل عنها عندما ترى أن في ذلك مصلحة العراق.. الى نخبة كانت ولاتزال تتهافت وتتصارع وتتقاتل على الكراسي رغم عدم إستحقاق بعضها لها وتتمسك وتلتصق بها حتى وإن كان في ذلك ضياع العراق.


ومن نخبة كان أغلب رجالها من رجال السياسة الذين فارقوا الحياة بذمم بيضاء وجيوب فارغة ولم يكونوا يملكون حسابات مصرفية سرية بل ولايعلمون حتى طريقة تحويل الأموال الى الخارج.. الى نخبة كان الكثير مِن رجالها من تجار السياسة كبعض مَن يحكمون العراق اليوم والذين لاهَمّ لهم سوى جمع المال السُحت وعقد الصفقات المشبوهة والمنشغلين عن مآسي شعبهم بفتح الحسابات المصرفية والشركات التجارية وبناء الأبراج السكنية والفيلل الملوكية في الخارج طبعاً.


ومن نخبة إنشغلت ببناء وطنها والعمل على رفعته بين الأمم فكونت علاقات إقليمية ودولية ستراتيجية كانت ستحفظ مصلحة ومستقبل العراق والعراقيين لعقود طويلة بدليل أن العراق الذي كان فتياً وفي طور النشوء في زمانها كان من المؤسسين لعصبة الأمم ولمنظمة الجامعة العربية.. الى نخبة إنشغلت بتدمير وطنها وتصغيره وإهانته بين الأمم عبر إنشغالها بالصراعات الداخلية الحزبية والفئوية وإقحامها للبلاد في سلسلة حروب عبثية متواصلة مع المحيط الإقليمي والمجتمع الدولي أنهكته وأنهكت شعبه وقيدته بديون وبإلتزامات مهينة تجاه بعض الدول والمنظمات الدولية التي كان العراق من مؤسسيها.


ومن نخبة دخلت الحياة السياسية في العراق محمّلة ومتسلحة بحب العراق لتؤسس لواقع سياسي مُتحضِّر تَمثّل حينها بدستور حضاري وبرلمان ديموقراطي ومؤسسات حكم دستورية رفرفت ظلالها على العراق حتى صبيحة 14 تموز 1958 ولتُشيع ثقافة سياسية أساسها التنافس الشريف وإحترام الآخر والإعتماد على وطرح برامج سياسية وطنية هدفها خدمة الوطن والمواطن.. الى نخبة حكمت العراق من ثكنات الجيش بعقلية عسكريتارية ودخلت الحياة السياسية محمّلة بأجندة حزبية طائفية وعرقية لتؤسس لواقع سياسي مشوه ومتخلف ثمثّل في الدساتير المؤقتة الفاشلة والأنظمة الشمولية الديكتاتورية والصراعات الحزبية والإنقلابات العسكرية الدموية التي شهدها العراق في العقود الأربعة الماضية وفي صيغة الدستور الدائم التحفة والبرلمان الفلتة والمحاصصة الطائفية والعرقية التي يشهدها العراق حالياً ولتُشيع ثقافة سياسية مشوّهة أساسها تسقيط الآخر وتصفيته سياسياً وأحياناً جسدياً والإعتماد على الأفكار والرموز الدينية وتوظيف الإنتمائات المذهبية والعرقية والدينية للوصول الى أهداف حزبية وفئوية ضيّقة لاعلاقة لها بالعراق لامِن قريب ولامِن بعيد.


ومن نخبة كان رجالها من أفضل الناس وعياً وثقافة وأرفعهم حسباً ونسباً وعلماً والتأريخ شاهد على ذلك.. الى نخبة كانت تضم في الكثير من الأحيان أشخاص جهلة وأميين وغير معروفين إجتماعياً وتأريخهم مجهول وتأريخ الحكومات والبرلمانات الصورية للأنظمة الجمهورية المشؤومة التي تعاقبت على حكم العراق منذ صبيحة 14 تموز شاهد على ذلك.


ومن نخبة من المدنيين والعسكر إجتهدوا وناضلوا من الصفر لبناء دولتهم التي كانت تمثل لهم مولوداً صغيراً يجب رعايته وغمره بالحب والحنان وتربيته بحرص وعقلانية لينموا ويكبر ويصبح رجلاً ناضجاً معافى يباهون به الناس وهكذا كانوا وفعلوا مع وطنهم وأبناء شعبهم.. الى نخبة من المدنيين والعسكر إستلموا دولة متكاملة على أشلاء جثث الأبرياء من أبناء شعبهم وأحالوها خراباً بعد أن ظلوا ولازالوا يتلاعبون بها كلعبة( المُكعّبات ) وحاولوا ولازالوا يحاولون مراراً وتكراراً تفكيكها وإعادة تركيبها وتغيير شكلها حسب أهوائهم وأفكارهم ومعتقداتهم الحزبية والطائفية والعرقية والدينية.


لقد شوه إنقلاب 14 تموز 1958 طبيعة وتركيبة النخبة السياسية الحاكمة في العراق وقلبها من حال الى حال فبين يوم وليلة أفرز لنا هذا الإنقلاب نخبة جديدة بمفاهيم وممارسات جديدة حكمت البلاد لنصف قرن من الزمان ولاتزال أدت سنوات حكمها بدورها الى تشويه ومسخ طبيعة المجتمع العراقي نفسه.. فالمجتمع العراقي الآن ليس كمجتمع ثلاثينات وأربعينات وخمسينات وستينات القرن المنصرم الذي كانت له قيم ومفاهيم إجتماعية راقية ومتمدنة تختلف عن القيم الشاذة والتقاليد والمفاهيم البالية التي أخذت طريقها الى داخل نسيج المجتمع العراقي خلال العقود الأخيرة.. إن نوعية النخب التي أفرزها إنقلاب 14 تموز لاتزال حتى هذه اللحظة هي المتحكمة بمصير العراق والعراقيين فنخبة 9 نيسان التي تحكم العراق اليوم والتي تُجهِِز بجهلها وطائفيتها وأمراضها وضيق أفقها على آخر ماتبقى من العراق الذي دمرته عقود حكم سابقاتها هي وريثة وإمتداد طبيعي لنخبة المغامرين التي إبتلي بها العراق بعد إنقلاب 14 تموز والتي لم تكن بقدر مسؤولية حكم وإدارة بلد بمواصفات العراق المعقدة وظروفه الإستثنائية وهي تكمل اليوم مابدأته سابقاتها من تدمير مُنظّم للعراق أرضاً وشعباً وإلغاء مقصود لهويته الوطنية وتفتيت مدروس لمجتمعه وشعبه وستعيده ربما الى ماقبل نقطة الصفر التي بدأت منها نخبة رجال الدولة العقلاء التي حكمت العراق قبل ذلك الإنقلاب.. فأسوء عملية مسخ وتشويه لتركيبة المجتمع العراقي هي التي تقوم بها اليوم بعض أحزاب النخبة السياسية التي تحكم العراق حالياً والتي تُمثل آخر العنقود لسلالة نخبة مابعد إنقلاب 14 تموز كونها أساساً نخبة أحزاب فئوية لايمكن أن تستمر وتسود في ظل مجتمع موحد ومتجانس لذا تعمل على توفير الأجواء المناسبة لبقائها وإستمراريتها عبر تحويل المجتمع الى فئات متنازعة ومجموعات بشرية مقسمة طائفياً وعِرقياً يسهل إنقيادها وبالتالي فإن وجودها يعتمد على مقدار الضرر والتشويه الذي سيصيب المجتمع العراقي الذي كلما إزداد كلما طال عُمرها وطالت فترة بقائها في السلطة بل سيسجل التأريخ بصفحات سوداء بأن نخبة 9 نيسان هي التي أطلقت آخر رصاصة رحمة على روح الأمة العراقية وهي التي غرزت آخر خنجر في نعش الوطن العراقي بعد سيل الرصاصات وعديد الخناجر التي أثخنت جسد العراق وشعبه بالمجازر والدماء منذ صبيحة إنقلاب 14 تموز 1958.


المؤسف هو أننا لانزال حتى هذه اللحظة جيلاً بعد جيل ندفع من أعمارنا ودمائنا ثمناً غالياً لما حدث في ذلك التأريخ من تسلط لسلسلة من نخب المغامرين المتهورين على مقدرات بلادنا.. لذا إن أردنا أن ننهض من جديد وتقوم لنا قائمة يجب أن نعيد بناء وطننا على نفس الأسس السليمة والصحيحة التي بنته عليها نخبة ماقبل إنقلاب 14 تموز ولن يحدث ذلك قبل أن نعترف ساسة ومثقفين وأحزاب وقواعد بأخطاء الماضي وتعترف آخر سلسلة من سلالة نخبة المغامرين التي تحكم العراق حالياً ولاتزال تتغنى ليل نهار بما تسميه ( ثورة 14 تموز ) بعجزها وفشلها كسابقاتها في إدارة البلاد وتكف عن التمجيد المتطرف العاطفي الغير العقلاني لأسلافها من سلالة نخبة المغامرين التي لم تجلب للعراق وشعبه سوى الموت والدمار ويجب أن تدين بوضوح كل ماقامت به سابقاتها من إنقلابات وكل ماشكّلته من حكومات كانت فاقدة أصلاً للشرعية الدولية والإنسانية بل وأن تتم محاكمة هذه النخبة وبالأخص أولاها التي قامت بإنقلاب 14 تموز 1958 إعتبارياً مقابل إعادة الإعتبار لرجال نخبة ماقبل هذا التأريخ ولكل من سقطوا شهداء في ذلك التأريخ المشؤوم كفيصل الأول ونوري السعيد وفيصل الثاني وصالح جبر وعبدالإله وسعيد القزاز وغيرهم مِمن لاتزال أدبيات وشعارات بعض الأحزاب العراقية ( التقدمية ) تصفهم بالرجعيين والعملاء رغم أنها تحالفت في الماضي القريب وتتحالف اليوم مع أحزاب رجعية وطائفية حتى النخاع وأخيراً وليس آخراً يجب أن تتولى زمام حكم العراق نخبة واعية مقتدرة من رجال الدولة الأكفاء الوطنيين البعيدين عن الأهواء الشخصية والحزبية والولائات الطائفية والعرقية والدينية شبيهة بتلك النخبة الخالدة في تأريخ العراق.. ولكن يبقى السؤال المهم هو أين هم اليوم أمثال هؤلاء الرجال؟


وللتأريخ يجب الإشارة الى أن ماذُكر حول نخبة مابعد إنقلاب 14 تموز لاينطبق على جميع رجالاتها فكثيرون منهم كانوا نزيهين مالياً حد الزهد ووطنيين عاطفياً حد النخاع وبالأخص رجال الجيل الأول وقد يشفع لهم هذا إنسانياً لكنه لن يشفع لهم تأريخياً كونهم كانوا بمعظمهم متهورين وإنقلابيين من الطراز الأول ولم يكن فيهم من رجال الدولة الحقيقيين سوى النزر اليسير ولولا ماقاموا به من إنقلابات وعلى رأسها إنقلاب 14 تموز 1958 المشؤوم لما وصل حال العراق الى ماهو عليه اليوم.

مصطفى القرة داغي
[email protected]