مقاربة نقدية لاوضاع العراق المأساوية وآفاق المستقبل:
الانسداد في العملية السياسية والانهيار في العملية الاقتصادية والخدمية



بعد انهيار النظام الدكتاتوري السابق كان من المفترض ان ينصب الاهتمام على تمكين العراقيين من حكم بلدهم وتقرير شؤونهم.. ولكن الادارة الامريكية حالت دون ذلك، ولم تسمح للقوى العراقية في عقد مؤتمر وطني يمثل جميع القوى السياسية لغرض رسم سياسة وطنية للنهوض في البلاد.. وسرعان ما عملت هذه الادارة على اصدار قرار مجلس الامن الدولي المرقم 1483 لسنة 2003 الذي حول قوات التحالف الى قوات احتلال.. وقد غير هذا التحول الخطير المزاج العام للعراقيين الذين رفضوا ان يرضح بلدهم للاحتلال. لقد بينت الاحداث بشكل واضح ان الادارة الامريكية وضعت خطة للحرب، ولكنها لم تنجح في وضع خطة للسلام والبناء.. فالارتباك والتخبط والقرارات المرتجلة وبخاصة حل بعض مؤسسات الدولة دون بدائل قد اوقع البلاد في فوضى عارمة. كذلك فقد تم تكريس معادلة اجتماعية تهمش بعض التيارات السياسية وتقوم على مكونات طائفية واثنية..
وهكذا تم بناء العملية السياسية منذ انبثاق مجلس الحكم الانتقالي عام 2003. لاخلاف في كون العراق بلد متعدد ومتنوع في تركيبته القومية والدينية والطائفية شأن الاغلبية من دول العالم، ولكن هذه التركيبة المتنوعة انتجت عبر العقود الماضية تيارات سياسية قاسمها المشترك الهوية الوطنية العراقية..
وفي ظل الاستقطابات الطائفية اضحت الطوائف اطارا مرجعيا يلوذ اليه الناس لحماية انفسهم نتيجة تراجع دور الدولة وعدم قدرتها على تطبيق القوانين وفرض النظام العام. ان التعددية السياسية تقوم على فكرة التمايز في البرامج السياسية لا التنازع الطائفي وتفتيت النسيج الاجتماعي. وفي ضوء هذه الاوضاع اصبحنا نعاني نزعتين:
1- نزعة ترغب في الاستحواذ على كل شيء واقصاء الاخر وهذا تجاهل واضح للطبيعة المتعددة والمتنوعة للمجتمع العراقي ومألها الفرقة والصراع وتصدع الوحدة الوطنية.
2- نزعة التعلق بالماضي والعودة الى نظام التمايز والاستبداد، ولاشك ان هذه النزعة ينتابها القصور في ادراك المتغيرات التي حصلت محليا وعالميا.
لقد ادى هذا كله الى انقسامات حادة في المجتمع وتشكلت الحكومات والمؤسسات على وفق معايير المحاصصة.. وحتى المهمة التي اوكلت للامم المتحدة انذاك وقعت اسيرة هذه السياسات. ان البلاد تمر في ظروف بالغة التعقيد، بل تشهد حالة مأساوية فالدم العراقي يسفك من قبل الارهابيين والقتل والخطف على الهوية والاضطراب الامني، بل الفوضى الامنية وتراجع دور الدولة، وهجرة الملايين الى خارج البلاد، وتزايد التهجير الداخلي على اسس طائفية، وتردي الخدمات، وتفاقم البطالة..
وهذا كله ولد احباطات لدى قطاعات واسعة من المواطنين الذين كانوا يعولون على العهد الجديد ان يعوضهم عما لحق بهم من ظلم وحرمان في ظل النظام الاستبدادي السابق. ان الحال التي وصلنا اليها تستلزم الوعي بالمخاطر التي تحيق بنا وطنا ومواطنين، وهذا اول ما يتطلب اعلاء شأن الهوية الوطنية التي تراجعت امام الهويات الفرعية.. كما ان صراعات المحاصصة واقتسام الغنائم وجها لطمة لمبدأ المشاركة والمصالحة الوطنية..
ولم يعد امامنا من طريق سوى اعادة النظر في مناهج واليات العملية السياسية واقامة تحالف واسع تلتزم قواه بميثاق عمل يحدد اسس وقواعد بناء الدولة الوطنية الحديثة ويضم هذا التحالف قوى من داخل مجلس النواب وخارجه ويعمل على استقطاب القوى غير المشاركة في العملية السياسية. وبعد ان وصفنا الحالة الراهنة نود التركيز على مسألتين هما: المسألة السياسية والامنية، المسألة الاقتصادية والخدمية
اولا: المسألة السياسية والامنية:
1- لابد من التاكيد ان المشكلة الامنية في العراق جوهرها سياسي، لذلك فان الخطط الامنية يجب ان لاتستند على العمل العسكري المجرد من الرؤية السياسية.. وان تثبيت الامن يتطلب ان يكون القرار الامني وطنيا وان تكون مهمة القوى الامنية تطبيق القوانين.
2- العمل الجاد على الغاء الطائفية السياسية والتاكيد ان الهوية الوطنية العراقية هي الهوية التي توحد جميع العراقيين.. وارساء فكرة المواطنة التي تساوي بين المواطنين بغض النظر عن الجنس والقومية والدين والطائفة والمنطقة واعتبار رابطة الوطن قيمة عليا ينبغي الحرص عليها واعلاء شأنها.
3- بناء الدولة العادلة وغير المنحازة لفريق على حساب اخر.. دولة تقوم على الفصل الفعلي بين السلطات وتحترم استقلال القضاء وتلتزم بالعقد الاجتماعي بين الحاكمين والمواطنين وهذا بدوره يستلزم اجراء التعديلات الدستورية المطلوبة لينال الدستور رضا الجميع.. وبناء اجهزة الدولة على اسس وطنية واعادة النظر في الاجهزة العسكرية والامنية، بما يضمن مرجعيتها للدولة وولاءها للهوية الوطنية العراقية. كما ان بناء الدولة على اسس وطنية يقتضي تفعيل المادة 107 من الدستور التي تنص على تأسيس مجلس الخدمة العامة الاتحادي ليتولى شؤون الوظيفة العامة، وهذا يتطلب اصدار قانون لتأسيس مجلس الخدمة العامة، ووضع المعايير الوظيفية على اساس الكفاءة والنزاهة والولاء للوطن، شرط ان لايتأسس المجلس على وفق معايير المحاصصة.
4- الالتزام الجاد في نهج المصالحة والتوافق الوطني وعدم تهميش او افصاء اي طرف.. واعادة النظر بجميع الاجراءات التي تحد من المشاركة بما في ذلك اعادة النظر بقانون اجتثاث البعث والاحتكام الى القضاء في الجرائم المرتكبة، لان سياسة العزل السياسي منافية للمبادئ الديمقراطية.
5- وضع جدول زمني لانهاء مهمة القوات متعددة الجنسية يترافق مع عملية بناء الاجهزة الامنية والعسكرية الوطنية.
6- الالتزام بخيار الطريق السلمي والديمقراطي وادانة الارهاب والعنف الطائفي.. وحل المليشيات لان وجودها يحول دون بناء الدولة.
7- العمل على اعادة المهجرين في الداخل والخارج الى اماكن سكناهم وتعويضهم عما لحق بهم من حيف.
8- تعديل قانون الانتخابات بما يضمن تحويل العراق الى دائرة انتخابية واحدة، وعلى وفق قواعد النسبية.. وهذا بدوره سيعزز الوحدة الوطنية ويضفي على الصراعات الطابع السياسي لا التنازع الطائفي.
ثانيا: المسألة الاقتصادية والخدمية
يعاني الاقتصاد العراقي من مشكلات عديدة وفي مقدمتها انه يعتمد بشكل شبه كامل على الريع النفطي، وهذه المشكلة تعاقبت عليها العقود واصبحت تتفاقم يوما بعد اخر وذلك نتيجة للسياسات الخاطئة والحروب وانعدام الامن والاستقرار والفساد المالي والاداري. والمحزن ان القطاع النفطي تراجع الى حد كبير ولم تتم الاستفادة من الارتفاع الكبير في سعره بسبب تراجع الانتاج عما كان في اواخر سبعينات القرن الماضي. كذلك يعاني الاقتصاد العراقي من تراجع القطاعات الانتاجية (الزراعة والصناعة) فقد تراجع القطاع الزراعي بشكل مثير بحيث اصبحت مساهمته في الناتج الوطني المحلي لاتتعدى 10%.
اما القطاع الصناعي فقد تراجعت مساهمته بين 1%- 2% ودمر او تقادم من مؤسسات القطاع الخاص حوالي 75% اما القطاع العام فان القسم الاعظم من مؤسساته متوقفة عن الانتاج وتحاول الجهات المسؤولة تأهيلها لغرض خصخصتها.
وفي الميدان التجاري فقد اصبح العراق يستورد كل شيء، وان استمرار هذه السياسة هي بمنزلة اطلاق (رصاصة الرحمة) على الصناعة العراقية.
لقد انعكس تردي القطاعات الانتاجية والظروف الاستثنائية التي تعاني منها البلاد على القوى البشرية فتفاقمت ظاهرة البطالة حتى ان بعض التقديرات تشير الى ان نصف القوى العاملة عاطلة عن العمل. ومما يزيد الامور تعقيدا هو الديون والتعويضات، على الرغم من النجاح الذي تحقق بتخفيض دول نادي باريس لديونها بنسبة 80% الا ان بعض الدول لم تلغ او تخفض ديونها، اما التعويضات التي فرضها مجلس الامن الدولي بعد حرب الخليج الثانية (غزو الكويت 1990) فهي تمثل 5% تستقطع سنويا من دخل النفط العراقي..
وفي ظل هذه الاوضاع تأتي شروط صندوق النقد الدولي لتزيد الامور تعقيدا.. فصندوق النقد الدولي يشترط لقاء خفض الديون والمساعدة في اعادة الاعمار رفع الدعم عن المشتقات النفطية والبطاقة التموينية واتباع سياسات معينة لمعالجة التضخم.. الخ.
وتؤكد التجارب ان سياسات صندوق النقد الدولي لاتاخذ بنظر الاعتبار الظروف الاستثنائية التي تعيشها البلاد ولا الاكلاف الاجتماعية التي تترتب على مثل هذه السياسات، فقد تم فعلا رفع اسعار المشتقات النفطية اكثر من مرة لدرجة انها ارتفعت عشرات المرات، وتبين بعض التقديرات الى ان المشتقات النفطية تستهلك اكثر من 50% من دخل العائلة، وذلك بسبب الانقطاع شبه الدائم للكهرباء.. وكذلك تم تخفيض النسبة المقررة للبطاقة التموينية بمبلغ مليار دولار عما كانت عليه في ميزانية 2006.
ان اي سياسة رشيدة لابد وان تأخذ بالاعتبار الظروف الاستثنائية والضائقة المعيشية التي يعاني منها اغلبية العراقيين، كما ان نهج الاصلاح يجب ان يكون مدروسا وتدريجيا، ويترافق مع تصحيح العملية السياسية وبناء الدولة على اسس سليمة. كذلك فان معالجة الاوضاع الاقتصادية وتلبية الحاجات الضرورية للمواطنين تتطلب:
1- وضع خطة اقتصادية يخصص لها الجزء الاساسي من العائدات النفطية ويتم التركيز فيها على تنمية القطاعات الانتاجية الاساسية انشاء الاليات القادرة على تنفيذ البرامج التنموية وتحديث المؤسسات الاقتصادية.
2- انتهاج سياسة نفطية وطنية تلتزم بالمادة (111) من الدستور التي تعتبر النفط والغاز ملك كل الشعب العراقي، ولابد ان يكون توزيع الثروة على وفق نسبة السكان في كل المناطق مع الاخذ بنظرالاعتبار المناطق التي تخلف فيها النمو وبخاصة اذا كانت من المناطق المنتجة.. كذلك من الاهمية بمكان ان يكون للمؤسسات الوطنية العراقية الدور القيادي في القطاع النفطي، ووضع خطة لتطوير هذا القطاع ومعالجة النقص الكبير في المشتقات النفطية.
3- تفعيل دور القطاع الخاص وتقديم الحوافز والضمانات الضرورية له وتمكينه من المساهمة في اعادة اعمار البلاد في المجالات كافة.
4- وضع خطة لمعالجة مشكلة البطالة المتسعة والتي من شأنها ان تخلق البيئة المناسبة لتأجيج العنف في البلاد.
5- معالجة مشكلات قطاع الخدمات، فقد نشأ هذا القطاع مبكرا وتوسع مع بدايات تدفق النفط.. وكانت الدولة هي المؤسسة والمشرفة على هذا القطاع وتقدم الخدمات في ميادين كثيرة منها: (الكهرباء، الهاتف الثابت، قطاع النقل، الثقافة والتعليم، الصحة، السكن التعاوني)...الخ ان هذا القطاع بحاجة الى معالجة مشكلاته وتطويره ويجب ان يكون بمنأى من سياسة التخصيص، لان الدولة هي الجهة الوحيدة القادرة الان على تقديم هذه الخدمات بما يتناسب والاوضاع المعيشية الصعبة للمواطنين.
6- وضع الحلول السريعة والاجراءات الرادعة للحد من استشراء ظاهرة الفساد المالي والاداري والتي اصبحت عاملا في تأزيم الاوضاع الاجتماعية وتبديد الثروة الوطنية

عبد الاله النصراوي
الامين العام للحركة الاشتراكية العربية