صحوة الحثالة الثقافية في حضن التخلف
العبودية المقيتة تتبجل في اغتيال بوتو

مبدئياً لا فرق بين البشر من حيث الحياة والموت والكرامة وما الى ذلك. حين يموت الانسان بايّ سبب كان فانه يفقد الحركة ويتحول الى جثة هامدة جامدة. ولا يغير في طبيعة هذه الحقيقة كون الانسان بطلاً أو زعيماً او موظفاً او رجلاً مسكيناً.
لكننا نحن نصنف بعضنا بعضاً، بل ويؤلّه بشرٌ بشرا. هذا شيء معمولٌ به في مجتمعات وانظمة منحطة وجاهلة وسابرة في غور التخلف إذعاناً لعبودية مريضة من الإنسان للإنسان.

بعيداً عن السياسة، كشف اغتيال احدى نساء باكستان وهي سياسية حزبية مدى انحطاط جمهرة كبيرة، ليس فقط من العوام، بل من الذين يحسبون انفسهم مثقفين متنورين، بل ومن انصار الديموقراطية والليبرالية. أغلب المرثيات نشرها كتّاب في جريدة عربية في لندن تتدعي الليبرالية والتقدم.
اغتيال بينَزير بوتو جريمة بشعة ومنحطة، ليس لكونها سياسية او جامعية غربية، او امرأة جميلة، بل لكونها انسانة لها الحق في الحياة فضلاً عن كونها أمّاً لثلاثة أولاد.


في مشهدٍ مؤذٍ وحيث سيارات الاسعاف تهبّ لنجدة الضحايا تقع جثة ملطخة بالدماء على الشارع، فيما يهمّ جمعٌ غاضب من عبّاد البشر بضرب سيارة الشرطة وكسر واجهات المحلّات والأسواق الزجاجية. فبينما تأخذ سيارة الاسعاف بوتو الى طوارئ المستشفى منذ وقت، فإن الجثة تلك لم تزل راقدة في منتصف الطريق لا أحد يبالي بها. الظاهر ان الجثة كانت لـ (شخص عادي)!
إذا كان ذلك حال فوضى جنونية، الأخت الشقيق للتخلف، فإن الصورة المأساوية لهذا المشهد الباهت والحزين لن تكتمل إلا إذا عرفنا كيف تعامل السواد الأعظم من الكتاب والصحافيين مع هذه الجريمة.


يومياً يُقتل عدد كبير في دول الشرق بسبب الحروب والفوضى الدابة فينا كعاصفٍ غير مردود.
لكن بعد قراءة عدد كبير من المقالات والكتابات عن السيدة المغدورة تلك، يلاحظ المرء عنصراً مشتركاً جذب هؤلاء جميعاً لتناول الموضوع ألا وهو كون بوتو جميلة، وغربية الهوى، ومتعلمة من جامعة اوكسفورد، وابنة عائلة مرموقة، وهذا يعني انها ذات قيمة تفرقها عن تلك الجثة المتروكة، والألاف من امثالها والتي تسقط هنا وهناك في حتف وخيم.


التَهَمَ كتّابٌ عرب من نزيلي الغرب الاغتيال المذكور لتنزيل صخبهم وضوضائهم باسم محاربة الارهاب والعنف، وهم مأخذون بما جذبتهم المرأة من خصال قد تتوفر في كل النساء إذا ما أعطين الفرصة التي حازتها هي. ومن طرف أخفى فقلوب هؤلاء وأعينهم على الغرب الذي تحول الى رقيب حاضر في وجدانهم وسلوكهم، يقيسون انفاسهم وحركاتهم بضابطه، لكي ينالوا عطفه ورضاه حتى ولو لم يطلب الرقيب ذلك، تحسباً للمستقبل، وفي بذلٍ حثيث لتجميل الصورة، وإقناع الذات بالاصطفاف في رصيص الغرب وذوقه واهوائه وجميلاته، حتى ولو كان ذلك خيالاً. فالعبد يقضي عمراً طويلاً وهو يتخيل بعد كيف يفدي بنفسه أكثر، لكي ينال من سيده الرضى المستحق الذي يشبع غريزة الاعجاب لديه، لدى العبد.
في الواقع يعاني الجمع الشرقي وخصوصاً طبقة المثقفين انهزاماً روحياً غريباً أمام الغرب، يفرقهم على صفين: صفّ يرفضه بعنف لا مساومة فيه واغلب هؤلاء من الاسلاميين، وصفّ تحوّل الى عبدٍ آبق يتلذذ حتى ولو تلقى الضرب على خده، وفق (مثال الزبيب).
في الحقيقة المشكلة نفسية عميقة. فالانسان الشرقي منبهر بجمال الغرب (الأنثى بالذات) وبتفوقه التكنولوجي والعلمي. انبهار من عبدٍ ذليل يائس لسيدٍ وسيمٍ فائز.


هذا الانبهار والاعجاب ولّد احساساً محبطاً لدى مثقفينا وعوامنا على السواء، فنتجت عنه مسألة استقذار الذات وكرهها: لسنا نشبه الغربيين إذن نحن منحطون!
بالطبع فإن الاعلام الغربي هو الذي كوّن هذه الاحساسات ليس لدينا فقط، وانما على مستوى شعوب أخرى وقارّات أخرى في أرجاء المعمورة. فجميلات العالم هن تلك اللواتي يظهرن في هوليود والاعلانات التجارية، والأغاني الانكليزية، اي الوجوه الغربية على العموم. والغربي هو الذكي الوسيم في الاعلام والأفلام والأخبار والمقالات والأغاني وما الى ذلك. ولكي تحظى برحمة بخسة من هذا العالم المتقدم فما عليك إلا ان تتعلم لغة السيد، وتتمظهر بلونه وشكله. بوتو فعلت ذلك فاستحقت الاحتفاء بها من لدن عبيدنا في تقدير وتبجيلٍ عظيمين.


واقعنا هو هكذا واقع العوائل المتغربة (من الغرب) والمتمكنة مادياً، تحكمنا كما شاءت ويتعلم أولادها في جامعات الغرب لكي ينالوا اعجابنا فيملكوا ظهورنا للركوب. وإن مات أحدهم أو قُتل فتقوم الدنيا ولا تقعد. أما أن يتعفن مائتان وخمسون الفاً في سجون دول الشرق الموالية للغرب سرّاً وجهارا، ويُقتل الألاف من الأبرياء في شتى مناطقنا فليس بذلك الهمّ الثقيل الذي يستدعي مرثيات مثقفينا.


ولذلك فليس غريباً ان تخرج جماعات هي الأشد عنفاً وتطرفاً ـ على مستوى العالم ـ في بلادنا، في محاولة لاسترداد بعض من كينونة الانسان وكرامته المهدورة على مرأى ومسمع العالم. حين مات ابن الرئيس الفلاني صرفت الملايين على صوره ومراثيه وذكراه. والزعيم الذي قضى نحبه وذلك الذي أغتيل، وابن العائلة الزعيمة في ذلك البلد، وأخو القائد الذي أصيب في الغارة وهلم جرا، كلٌّ أولئك كان سعيهم وشهرتهم وجمالهم وتاريخهم مشكورا.
ولكلّ دفوف وقيان وإذاعات ومثقفون وكتّاب تبجل وتهلل وتسبح. هذا الواقع هو صانع العبودية القذرة في مجتمعاتنا ويديم بسلطات ملؤها الفوضى والخراب في بلادنا. لذلك ليس غريباً أن يوضع ابن تسعة عشر عاماً، صبياً لا يفقه من الدنيا واهوال السياسة، رئيساً لحزب في بلدٍ يتلوع بقضايا خطيرة وكارثية، لمجرد كونه ابناً للزعيمة الشهيدة.
وهذا مثال واحد من بين الرزمة الكاملة لنوعية السلطات في بلادنا. وفي العراق تحول ابن احد الزعامات الدينية وفق التراث نفسه الى زعيم متبوع من الملايين، يجرهم حيث هوى من دون علم او تجربة.


نحن نعاني أكثر ما نعاني من عبودية مقيتة قذرة للأجنبي من جانب، ولمن يتلقى قوته من ذلك الأجنبي من ذواتنا التي تشاركنا في قرابة الدم واللون، او للذين يرفضون الغربي جملة وتفصيلا من الصنف الآخر المذكور سلفاً. وهذان الصنفان يوزعان شعوبنا على ضفتين ملتهبتين ومثال لبنان قد يكون الأفضح. ولكن المثقف المتحرر والديموقراطي عليه ان يكون ارقى مقاماً وانبل انسانية من الانجرار في سلك العوام من عبيدي البشر.
إن مقتل بوتو جريمة، ورثائها لتلك الصفات التي ذكرت آنفاً قبحٌ وانحطاط، ونصب ابنها الصبيّ في الزعامة أكثر جرماً. ولكن لماذا تقبل عائلة سوربونية ديموقراطية بتداول الزعامة بهذه الطريقة البدائية القبلية؟ الجواب مادام هنالك عبيد رضخوا لذلك فما الضير؟!

علي سيريني