من المستفيد من استئصال المسيحيين في الموصل ومن يتستر على الجرائم المرتكبة بحقهم؟ لايزال هذا السؤال يتردد على ألسنة الكثيرين ممن صدمهم ما تعرض له المسيحيون في الموصل من ترويع وتهجير. وبدا الأمر يمثابة لغز محير إذ كيف تضطر مئات العائلات إلى ترك بيوتها وتمضي في عملية نزوح جماعية أمام مرأى ومسمع الجميع دون أن يعرف أحد من الذي يقف وراء ذلك؟


هذا الغموض البوليسي دفع الكثيرين إلى الاجتهاد في البحث عمن يمكن أن يقف وراء كل ذلك.
وجه الكثيرون أصابع الاتهام إلى القاعدة والتنظيمات المتشددة. وقالت القوات الأميركية أن الموصل هي المكان الذي أعاد فيه المتشددون الإسلاميون المرتبطون بتنظيم القاعدة تجميع أنفسهم بعد طردهم من مناطق أخرى في العراق. وأكد قادة أميركيون أن الموصل هي أخر مدينة عراقية كبرى لا يزال فيها وجود كبير للإرهابيين.
وقالت مصادر عراقية أن عمليات فرار العائلات المسيحية بدأت إثر توزيع تنظيمي القاعدة ودولة العراق الإسلامية منشوارت هددت فيها المسيحيين بالترحيل أو القتل أو الجزية.


وليست هذه هي المرة الأولى التي تقوم فيها هذه الجماعات باستهداف الأقلية المسيحية. وكانت بغداد والبصرة شهدتا عمليات تفجير الكنائس ودور العبادة والمحلات المسيحية وتعرض المسيحيون للخطف والقتل. وفي وقت سابق جرى اختطاف اسقف الكلدانيين المسن في الموصل بولس فرج رحو وعثر على جثته لاحقا. وفي معظم الحالات قامت دولة العراق الأسلامية بإصدار البيانات التي تتهم quot;النصارىquot; بالعمالة للمحتل وتدعوهم إلى ضرورة مغادرة العراق التي يقولون أنها صارت إمارة إسلامية.
وهناك من يوجه الإتهام للحكومة العراقية نفسها بالوقوف وراء عملية الترحيل. وكانت القوات العراقية شنت منتصف أيار (مايو) الماضي حملة quot;ام الربيعينquot; لمطاردة القاعدة والجماعات المتطرفة في المدينة واعتقلت اكثر من ألف مشتبه به.
كما أن أصوات كثيرة تعلو لتتهم القوات الأميركية بتدبير أمر الترحيل من أجل خلق المشاكل للحكومة العراقية وإجبارها على التوقيع على الاتفاقية الأمنية مع الولايات المتحدة.


غير أن جهات أخرى وجهت أصابع الاتهام للأحزاب الكردية بالوقوف وراء ترحيل المسيحيين. وكان فصيل أنصار الإسلام ذكر في بيان له أن quot;البيشمركه يهجرون النصارى من الموصلquot; وقال البيان: quot;إن المستفيد من التهجير هم الزعماء الأكراد وهم من يقومون بعملية التهجير الوحشية لتحقيق أهدافهم وأطماعهم الصهيونية.لقد دشنت عصابات البشمركة وأتباعها في الموصل عملياتها المستمرة في إطار سعيها الحثيث للسيطرة على المدينة وهم يستعدون لقطف ثمار السمسرة والعمالة لأسيادهم المحتلين وتنفيذا لاتفاقيات تم توقيعها بين الحزبين الكرديين وبمباركة من القيادات الأمريكيةquot;.
وكان نائب عن القائمة العراقيةلفتإلىquot;وجود أدلة على ممارسة الأمن الكردي والمليشيات الكردية عمليات تهجير للمسيحيين من الموصلquot;.


وجعلت هذه الاتهامات الأنظار تلتفت إلى الأكراد الذين تحولوا بين ليلة وضحاها من ضحايا لعمليات الترحيل والتنكيل إلى متهمين بارتكابها. وارتفعت الأصوات التي تندد بعمليات quot; التكريد والتطهير العرقي والإبادة الجماعيةquot; التي يمارسها الأكراد بحق المسيحيين. وانبرى مثقفون وصحافيون عرب للدفاع عن quot;الأخوة المسيحيينquot; في وجه الأكراد quot;المتوحشينquot; وظهر من ربط الأمر بمؤامرة كردية إسرائيلية بغطاء أميركي.


يرفض الأكراد، بجميع تياراتهم وأحزابهم وتوجهاتهم، هذه الاتهامات ويعتبرونها دعاية سوداء، مضحكة ومبكية في آن واحد، تهدف إلى تشويه صورتهم والضغط عليهم من أجل غايات جانبية لاعلاقة لها البتة بالمسيحيين. فالأمر مسعى ممنهج وهادف لتشويه سمعة الحكومة القائمة في إقليم كردستان، من أجل إفقادها شرعيتها عن طريق تصوريها في هيئة قوة ظالمة لاتتورع عن ارتكاب أي شيء.


الجهات التي تتهم الأكراد بالوقوف وراء ترحيل المسيحيين من الموصل تربط ذلك برغبة حكومة إقليم كردستان في إقامة منطقة حكم ذاتي للمسيحيين في سهل نينوى. وتبعاً لهذه الرؤية فإن الغاية من ترحيل المسيحيين من الموصل هي إسكناهم في تلك المنطقة.


غير أن الوقائع على الأرض لاتدعم هذه الفرضية. فالمسيحيون أنفسهم يطالبون بحكم ذاتي في سهل نينوى. وهذه الدعوة ليست جديدة. والسهل ليس خالياً من السكان كي يتم ترحيل مسيحيي الموصل إليه. ثم أن هؤلاء الذين يضطرون للرحيل لايذهبون إلى سهل نينوى بل هم يمضون إلى أماكن أخرى بما في ذلك مدن إقليم كردستان طلباً للأمان. والمسيحييون المرحلون أنفسهم ينفون أن تكون للأكراد صلة بعملية الترحيل. ويقول الجميع أنه قد يكون هناك أشخاص أكراد لهم علاقات بالجماعات الإرهابية غير أن لاعلاقة لإدارة إقليم كردستان بذلك. وليس بين الأحزاب الكردية من يحمل إيديولوجية متطرفة تدعو إلى نبذ المسيحيين أو الإساءة إليهم بأي شكل. وتتعاون مؤسسات حكومة إقليم كردستان العراق ولجنة شؤون المسيحيين التي يشرف عليها وزير مال الإقليم سركيس آغا جان، وهو مسيحي، على تنظيم عودة المرحلين إلى أماكن سكناهم.


ومابرح رئيس الإقليم مسعود البارزاني ورئيس مجلس الوزراء نيجيرفان البرازاني يشددان على ضرورة معالجة الظلم الذي يلحق بالمسيحيين وإعادة بلداتهم وقراهم الى هويتها السكانية والجغرافية الأصلية وتقديم أنواع الدعم اللازم للعائدين منهم الى ديارهم وأعمالهم واستقرارهم فيها، وفي مقدم ذلك بناء المساكن لهم واتخاذ الإجراءات السريعة ليتصرفوا بأراضيهم وممتلكاتهم، إضافة الى توفير الكنائس والمراكز الثقافية والملاعب الرياضية وقاعات الاحتفالات.
وتقوم زارة التربية في الإقليم بضمان التعليم في التجمعات الكلدانية الآشورية باللغة السريانية وتتحمل الجهات الحكومية في الإقليم كل نفقات هذه المدارس وطبع الكتب اللازمة لها. وقبل أيام انتهت أعمال مؤتمر اللغة السريانية الذي عقد في بلدة عنكاوا المسيحية المجاورة لعاصمة الإقليم اربيل وشارك فيه فريق من المهتمين بهذه اللغة، واتخذ توصيات لتعزيز تعليمها والاهتمام بتراثها الإنساني والأدبي ونشر نتاجاتها الراهنة. فلايعقل أن يقوم الأكراد باستهداف المسيحيين في الموصل وعلى بعد مسافة قريبة في إقليم كردستان تبنى المساكن ودور العبادة لهم.
كيف يلجأ المسيحيون الى كردستان إذا كان الكرد هم الذين يقومون بترحيلهم؟ هل يعقل أن يهرب المسيحيون من الأكراد في مكان ليطلبوا الحماية من هؤلاء أنفسهم في مكان آخر؟

وكانت مدن وقرى إقليم كردستان شهدت مظاهرات تندد بعمليات الترحيل شارك فيها الأكراد جنباً إلى جنب المسيحيين.
ولم يسبق قط أن قامت قوات البيشمركة بالهجوم على أية مجموعة عرقية أو دينية لمجرد قوميتها أو دينها. وطوال أكثر من ستة عقود من القتال مع الحكومات العراقية المتعاقبة لم تعمد البيشمركة إلى الهجوم على المدنيين أو ترويعهم. وفي الوقت الراهن ليس ثمة وجود للبيشمركة في الموصل بل هناك قوات كردية من ضمن الجيش العراقي وهي ترتبط بوزارة الداخلية العراقية.


قالت الأطراف التي اتهمت الأكراد بترحيل المسيحيين من الموصل أن لديها الدلائل التي تؤكد ذلك. غير أنها لم توفر حتى الأن أي شيئ يثبت صحة اتهاماتها. هذه الأطراف هي القاعدة وهيئة العلماء المسلمين ونائب عن الجماعة العراقية التي يرأسها إياد علاوي. غير أن علاوي نفسه نفى إطلاعه على quot;أي مستمسكات أو أدلة تشير إلى تورط الأحزاب الكردية في عملية تهجير المسيحيين في الموصلquot;،وهو قال أن قوات البيشمركة لا وجود لها في الموصل وأن الفوج الذي ينتمي إليه الجنود الأكراد تابع للفرقة الثانية من الجيش العراقي وله مرجعيته الخاصة التي هي وزارة الدفاع والقيادة العامة للقوات المسلحة العراقية. وأضاف ليس كل جندي في الجيش العراقي تكلم باللغة الكردية هو مقاتل ضمن قوات البيشمركة.
ليس من شك في أن وراء ترحيل المسيحيين من الموصل غاية مرسومة والأكيد أن إلقاء التهمة على الأكراد يندرج ضمن هذه الغاية والتي سوف تنكشف في قادم الأيام إذ لايمكن أن تبقى مأساة كبيرة كهذه محاطة بالسرية والكتمان فترة طويلة.

نزار آغري